روى الدكتور السيد نجم، الكاتب والأديب، عن تجربته في المشاركة في حرب أكتوبر 1973، وطبيعة عمله ضمن الفريق الطبي في مستشفيات الجبهة العسكرية، وسرد أبرز المواقف والبطولات التي لا تنمحي صورها من الذاكرة خلال هذه الفترة المهمة في تاريخ مصر.

وتحدث «نجم» عن أبرز دروس التجربة وكيف يمكن تقديمها للأجيال القادمة، وكيف انعكست تجربة الحرب على أعماله الإبداعية والدراسات النقدية على مدار نصف قرن من الزمان.

 

*حدثنا عن ظروف الالتحاق بالقوات المسلحة؟

*تخرجت عام 1971 في كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة، وتم تجنيدي فورا، ومركز الخدمات الطبية بالعباسية الذي جُندت به في البداية كان عبارة عن جميع زملائي في سيكشن (أ) ما عدا البنات، وقضينا به 6 شهور قبل توزيعنا، وتم توزيعي على مرحلتين، الأولى جاءت في مستشفى السويس العسكري في عام (72)، في طريق مصر- الإسكندرية الصحراوي، وأخدنا درجة فرقة رقيب، وكنت مسؤولا عن دوشمة في الجبل لعمل الإسعافات الأولية، ثم تم تدريبي مرة أخرى في معمل الصيدلية بالمستشفى من أجل العمل في تركيب الأدوية.

*حدثنا عن نوعية الحالات التي يستقبلها المستشفى؟

* في البداية كنا نستقبل حالات عادية، وقضيت بهذا المستشفى نحو 6 شهور، ثم انتقلت إلى المستشفى الجراحي تحت الأرض رقم (5)، عند الكيلو (102- طريق مصر السويس) وكان أول مستشفى ميداني بعد خط قناة السويس، على بعد 20 كيلو من مياه القناة.

صدقنا خطة الخداع التي روج لها السادات ونحن على الجبهة

*صف ما عايشته من أجواء قبل الحرب مباشرة؟

* قبل الحرب بنحو أسبوعين عشنا أجواء تستحق التسجيل فقد حدث شىء غريب؛ مناورة أكتوبر العسكرية الكبرى والتي يتم تنظيمها كل عام في أكتوبر، بدأت مبكرا في (73) أي طالت عن المعتاد، وهو ما أربكنا أيضا وقتها، كما بدأ ينضم إلينا في المستشفى أطباء مدنيون (استشاريون)، وفي الوقت نفسه تلقينا أوامر بتسريح بعض السائقين من العساكر، مع أن السائق هو أهم عسكري في الجبهة، وأيضا وجدنا القوات المسلحة فتحت الباب للتقديم على عمرة رمضان للضباط.

*ويوم 6 أكتوبر؟

*في 6 أكتوبر تلقينا أوامر من القائد بالانتشار في الوحدة ونزول الحفر البرميلية تحت الأرض من العاشرة صباحا من أجل حمايتنا، اعتقدنا أن الموقف ضمن خطة الخداع ولم نعلم إنها الحرب، إلى أن سمعنا البيان المذاع في السادسة مساء يقول: عبرنا والعسكري المصري فوق الضفة الشرقية من قناة السويس، وعلى مدار نحو 48 ساعة من 6 أكتوبر لم نستقبل سوى إصابات عادية، وحدث لنا ذهول، لأنه كان مقدرا أن يتعرض 60% من العساكر للقتل على يدي العدو لو عبروا القناة، ومع ذلك لم تصلنا أي حالات إصابات حرب، وتسبب لنا في ارتباك جديد.

* ما الحالات التي لن تنساها؟

وبعد العبور جاء مجند سقط على ساقه صندوق الذخيرة وأصيب بكسر، وعملت له جبيرة، وأخبرته أني سأحوله إلى مستشفى الحلمية المتخصص في العظام لإتمام العلاج فرفض وقال بلهجة ريفية: «أنا مسيبش زملاتي»، وبعد أن انتقلت إلى متابعة حالة أخرى فوجئت بالعسكري الريفي يخرج من الدوشمة عائدا إلى الجبهة بساقه المكسورة، على بعد 10 كيلو من خط القناة.

*كيف مرت عليكم الأيام الأولى عقب الاشتباك؟

خرجت من أكتوبر بما أفرزته «أدب الحرب»

*قبل تجنيدي كتبت بعض الأعمال ونشر لي قصص، وخرجت أيضا من أكتوبر بما أفرزته التجربة وهو «أدب الحرب»، وكتبت دراسات حول هذه القضية، ونشرت في جريدة «القاهرة» بصورة جيدة، على مدار 3 حلقات، ثم كتبت أول كتاب تنظيري في أدب الحرب بعنوان «الحرب: الفكرة التجربة الإبداع» عن هيئة الكتاب في 95 ، ثم تبعتها بعدد من الدراسات ذات الصلة، ووصل عدد الدراسات إلى 8 كتب في أدب المقاومة والحرب تنظيريا، وكتبت أدب من بينها «أوراق مقاتل قديم» و«عودة العجوز إلى البحر»، وحديثا «حصار الحمام الأبيض» رصدت بها تجربة الحصار خلال الحرب.

*كيف يمكن تقديم التجربة للأجيال الجديدة؟

*من خلال ندوات للشباب والأطفال للاستماع إلى تجارب المجندين ممن شهدوا حرب أكتوبر المجيدة ليرووا تاريخنا من واقع تجربتهم الشخصية لأن ما حدث في أكتوبر غير عادي ويستحق تكريس مجهود ضخم له، كما نحتاج إلى قرار من الدولة لدعم أدب الحرب، الذي يتناول ما قبل وأثناء وبعد المعارك.

*ما هي دروس أكتوبر؟

*كعساكر في الجبهة كنا على أهبة الاستعداد لحدوث أي شىء ومؤهلين لاستقبال أي أوامر وأي نتيجة ابتداء من الموت أو تجدد الحرب إلى فض الاشتباك، والعسكري المصري في الجبهة يفكر في الحياة لا الموت، ولا يطرح على نفسه خيارات بديلة غير النصر لإيمانه بقضيته، وتجربة الحرب جعلتنا نؤمن أن هذا هو قدرنا ومصيرنا ونحن له، فالإخلاص وحب الوطن والإيمان بالقضية كان الواقع المعاش ببساطة وبلا افتعال ولم تكن شعارات، لذلك قصص الأبطال لا تنتهي، والإنسان المصري المحب لبلده صانع النصر وقادر على الإنجاز إذا أتيحت له الفرص.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: حرب أكتوبر نصر أكتوبر نصر أكتوبر 1973 أدب الحرب

إقرأ أيضاً:

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )

في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .

لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.

عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .

هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.

فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.

ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .

أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)

اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .

النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.

Mujtabā Lāzim

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • إصابة 5 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بمدينة 6 أكتوبر
  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • العالم يحبس أنفاسه.. غياب التوصل لاتفاق جديد قبل 18 أكتوبر يدفع الأزمة النووية الإيرانية إلى سيناريو الحرب الشاملة
  • عاجل | الرئاسة السورية: الرئيس الشرع يصدر قرارا بصرف راتب شهر إضافي لموظفي الدولة بمناسبة عيد الفطر
  • الرئيس الشرع يصدر قراراً بصرف منحة مالية للعاملين في الدولة بمناسبة عيد الفطر المبارك
  • ترامب: أجريت مناقشات مثمرة مع بوتين والحرب في أوكرانيا قد تنتهي
  • لأول مرة.. رجل يعيش 100 يوم بقلب اصطناعي بالكامل
  • مصرع 4 أشخاص في انقلاب سيارة على طريق الإسماعيلية السويس
  • إصابة 8 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بطريق السويس الصحراوى
  • مصر أكتوبر: كلمة الرئيس السيسي بالأكاديمية العسكرية تعكس تقدير الدولة للشهداء