في يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، نشرت الصحف (1) الإسرائيلية عشرات القصص التي أعادت للأذهان ذكرى الهزيمة الإسرائيلية والانتصار المصري في حرب عام 1973، وركزت العديد من هذه القصص على فشل الاستخبارات الإسرائيلية في توقع الهجوم المصري، مؤكدة أن ما حدث منذ 50 عاما لا ينبغي أن يتكرر مجددا أبدا.

 

ولكن ما إن مضت الليلة حتى استيقظ الجميع في دولة الاحتلال -وسائر العالم- صباح يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول على هجوم مفاجئ اخترق خلاله المقاومون الحاجز الأمني الذي يفصل غزة عن بقية الأرض المحتلة وأمطروا الاحتلال بوابل من الصواريخ، مؤكدين الفشل التاريخي للاستخبارات الإسرائيلية، الأمر الذي عدّه محللون أشد وطأة مما حدث في حرب العبور قبل خمسة عقود.

 

هذا "الطوفان" الذي أطلقته حماس ردا على الانتهاكات الإسرائيلية في المسجد الأقصى صاحبه تطور حاسم ساهم في نجاح هذه العملية المعقدة؛ ألا وهو استخدام "كتائب القسام" الطائرات المسيرة (2) التي تُعرف بـ"الدرونز"، إذ تمكنت بفضل صغر حجمها وقدرتها العالية على المناورة من مغالطة أنظمة الدفاع الإسرائيلية، التي غرقت في سيل من القذائف والصواريخ والطائرات المسيرة، لتصبح هذه العملية الإعلان الأبرز على دخول حركات المقاومة عصر المسيرات، رغم استخدام حماس لها من قبل بشكل محدود.

 

حماس وتكتيكات الحرب الأوكرانية

قبل سنوات قليلة، تحديدا قبل الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014، اعتاد القادة في دولة الاحتلال الإسرائيلي وصف هجمات القسام الصاروخية بأنها مجرد "نيران مزعجة"، يجري إطلاقها عشوائيا، وعلى الأغلب لا تتسبب في وقوع إصابات (3)، وللتخلص من هذا "الإزعاج" أنشأت إسرائيل نظام دفاع صاروخي متطور ثلاثي الطبقات يشمل أنظمة القبة الحديدية ومقلاع داود وحيتس "سهم"، بهدف التصدي للمقذوفات والصواريخ التي تُطلقها المقاومة الفلسطينية على اختلاف مداها.

 

تُعَدُّ القبة الحديدية تحديدا خط الدفاع الإسرائيلي الأول، وهي تستخدم أجهزة الرادار ومنظومات الاعتراض المتطورة لرصد معلومات الصواريخ القادمة فور إطلاقها، بما في ذلك سرعة الصاروخ ومساره، ومن ثم إطلاق الصواريخ الدفاعية المناسبة لاعتراضها وإسقاطها بشكل تلقائي قبل أن تصل إلى وجهتها.

 

بجانب منظومة الدفاع الصاروخي، شيَّدت دولة الاحتلال ما يُعرف بـ"السياج الذكي"، وهو سياج أمني عازل يقع على طول الحدود بين المستوطنات الإسرائيلية وقطاع غزة، وقد جُهِّز بتقنيات أمنية وتكنولوجية متطورة مزودة بمجسات استشعار عن بُعد وأجهزة رصد ورادارات موزعة ما بين أبراج المراقبة وأبراج الحراسة والأبراج الأمنية وأبراج الاتصالات، هذا بخلاف الكاميرات ونقاط إطلاق النار عن بُعد، الأمر الذي يجعل اختراق هذا "السياج الذكي" المصمم بالأساس لتحييد الأنفاق التي تستخدمها المقاومة ومنع تسلل البشر أمرا مستحيلا.

لكن كتائب المقاومة قليلة التمويل صنعت المستحيل وتمكنت من اجتياز دروع الاحتلال البرية منها والسماوية ومجابهة جيش يدّعي أنه الأقوى في الشرق الأوسط. بدأ القتال في السادسة والنصف من صباح يوم السابع من أكتوبر عبر "رشفات" صاروخية كثيفة، وفي الوقت ذاته قامت مجموعة صغيرة من مقاتلي المقاومة بإحداث ثقوب عديدة على طول السياج الأمني الفاصل بين غزة والأراضي المحتلة، وتسللوا منها عبر الحدود وانتشروا في جنوب الأراضي المحتلة على حدود القطاع، وسرعان ما تغلبوا على حرس الحدود وقوات الشرطة المحلية.

 

بيد أن الانتصار الأهم للمقاومة في ذلك اليوم تمثل في قدرتها على التحليق فوق سماء الأراضي المحتلة واختراق درع إسرائيل الواقي، وسر هذا النجاح يكمن في اثنين من التكتيكات الحربية الجديدة التي تبنَّتها المقاومة (4)، وكانت شبيهة بتلك التي استخدمتها أوكرانيا ضد الأهداف العسكرية الروسية في الحرب الأخيرة.

 

الأول (5) كان استخدام الطائرات بدون طيار لاختراق الأهداف الإستراتيجية وضربها، وهو ما يُمثِّل تحديا لنظام "القبة الحديدية" الدفاعي الذي لم يتطور بشكل كافٍ لمواجهة الطائرات المسيرة، وذلك لأن هذه الطائرات بإمكانها الطيران على ارتفاعات منخفضة بالقرب من الأرض، مما يجعل رصدها من خلال الرادارات أمرا صعبا. أما التكتيك الثاني، فهو توجيه الضربات الصاروخية للتمويه على الهجمات البرية التي استهدفت اقتحام السياج الأمني، الأمر الذي أربك جيش الاحتلال الإسرائيلي وجعله غائبا تماما عن المشهد خلال الساعات الأولى.

 

"المسيرات القسامية".. رهان المقاومة الرابح

(كتائب القسّام تكشف عن منظومة دفاع جوي محلية الصنع)

 

لطالما كانت المواجهات العسكرية بين حركات المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي غير متكافئة؛ نظرًا للتفاوت الكبير في القوة العسكرية بين كلا الطرفين، وظهر هذا الفارق كأوضح ما يكون في القوة الجوية، وهو ما دفع فصائل المقاومة للتركيز على تطوير تقنيات القذائف كحل غير مكلف نسبيا لجسر الفجوة الجوية. وخلال العقدين الأخيرين، تطورت أسلحة المقاومة من العبوات الناسفة وقذائف الهاون مرورا بالصواريخ قصيرة المدى مثل "القسام 1″(6) الذي يصل مداه إلى 5 كيلومترات فقط، وصولا إلى الصواريخ طويلة المدى مثل "عياش 250" الذي يصل مداه إلى 250 كيلومترًا.

(إطلاق صاروخ عياش 250 يستهدف قيادة المنطقة الشمالية في صفد)

 

بالتزامن مع ذلك، أطلقت المقاومة مشروعها الخاص لتصنيع الطائرات المسيرة محليا. وترجع بدايات هذا المشروع إلى العام 2006؛ عندما شرعت كتائب القسام في تنفيذ النموذج الأول لمسيرة من دون طيار عرفت باسم "الطائرة العراقية"(7)؛ وكانت مشروع تخرج لضابط سابق في الجيش العراقي حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة بغداد. وقد قدم الضابط خبرته هذه لفريق عمل الوحدة الخاصة للطائرات بدون طيار داخل القسام؛ والتي كانت في ذلك الوقت وحدة ناشئة يشرف عليها المهندس التونسي محمد الزواري.

 

كان الزواري قد انضم إلى كتائب القسام سرا في الوقت نفسه تقريبا، وشغل فيما بعد منصب رئيس وحدة الطائرات بدون طيار؛ وإليه يرجع الفضل في تطوير الطائرات المسيرة "القسّامية" منذ كان المشروع فكرة في المهد. وبحلول عام 2014 جاء الإعلان عن أول(8) طائرة مسيرة "قسّام" أصلية في حرب "العصف المأكول"، إذ حلقت المسيرة التي أشرف على تصنيعها الزواري فوق وزارة الحرب في تل أبيب واستطاعت التقاط العديد من الصور؛ نشرت حركة المقاومة بعضا منها في ذلك الحين. وكانت تلك الطائرة تحمل اسم "أبابيل 1″، وأنتجت منها الكتائب ثلاثة نماذج: "طائرة A1A وهي ذات مهام استطلاعية، وطائرة A1B وهي ذات مهام هجومية (إلقاء قنابل)، وطائرة A1C وهي ذات مهام هجومية (انتحارية)".

 

بعد الأبابيل؛ كادت مسيّرات الزواري وغواصاته آلية القيادة لتتوالى تباعا لولا أن الاحتلال باغته بيد الغدر كما اعتاد أن يفعل مع العلماء العرب النابهين في المجالات العسكرية. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2016، أُردي الزواري بعشرين رصاصة استقرت ثمانية منها في جسده، وذلك أمام منزله في مدينة صفاقس التونسية؛ وقد نعته كتائب القسّام في بيان خاص واتهمت جهاز الموساد الإسرائيلي بالضلوع في اغتياله.

لم تمت صناعة المسيرات القسامية بموت الزواري؛ ففي أثناء معركة "سيف القدس" عام 2021، أطلقت كتائب القسام (9) طائرات مسيّرة من طراز "شهاب" محلية الصنع استهدفت عدة مواقع إسرائيلية؛ وهي طائرة محملة بالمتفجرات ذات مهام هجومية انتحارية؛ أكثر ما يميزها هو صغر حجمها، مما يجعل من الصعب اكتشافها بواسطة رادارات أنظمة الدفاع.

 

أما مفاجأة "طوفان الأقصى" الحقيقة فقد تمثلت في إطلاق حماس 35 طائرة من طراز (الزواري) في وقت واحد باتجاه أهداف عسكرية إسرائيلية، استهلت بها معارك السبت الميمون، وهي طائرة مسيّرة جديدة سميت بهذا الاسم تكريما للمهندس محمد الزواري وتخليدا لذكراه. و"الزواري" هي مسيرة ثابتة الجناحين، وعلى الرغم من أنها كانت في السابق خاصة بالمهام الاستطلاعية، لكن جرى تطويرها لتصبح ذات مهام هجومية انتحارية؛ وهي بذلك تعد أحدث أسلحة كتائب القسام؛ لكن حتى الآن لم يستطع الخبراء معرفة الخصائص التقنية الخاصة بها؛ مثلا ما إذا كان بالإمكان التحكم بها عن بعد أم لا، وكيف يعمل نظام التوجيه الخاص بها؛ إلا أن هناك بعض التكهنات تشير إلى أن نظام التوجيه جرت برمجته مسبقا بالمواقع الخاصة بالأهداف من خلال إحداثيات نظام التموضع العالمي (GPS) (10).

مسيّرة من طراز "شهاب" محلية الصنع. (الصورة: شترستوك)

 

"الدرونز القسامية".. قدرات متزايدة

ظهرت الطائرات "القسامية" المسيرة في مقاطع الفيديو التي بثتها حماس وهي تُسقط المتفجرات على أبراج المراقبة الإسرائيلية والمراكز الحدودية وأبراج الاتصالات، وهو ما يشير إلى عملية منسقة حددت فيها حركة المقاومة الفلسطينية بدقة مواقع تلك الأهداف، ونشرت أسلحتها بعناية لإصابة منظومة الدفاع الإسرائيلي بالعمى، وهو ما سهل تنفيذ الشطر الثاني من الخطة، وهو السماح للقوات البرية باختراق الحواجز الحدودية دون مراقبة ودون أن تنتبه إسرائيل إلى حجم التوغل في الأراضي المحتلة.

 

في صور الهجوم، نرى العديد من المركبات العسكرية الإسرائيلية وقد تدمرت أو تضررت بشكل بالغ، بما في ذلك دبابات القتال الرئيسية من طراز "ميركافا إم كي 4" (Merkava Mk4)، وهي دبابة إسرائيلية من أسلحة الجيل الجديد صُمِّمت بتكنولوجيا أمان متقدمة تُمكِّنها من تفادي مختلف أنواع الأسلحة التي تستخدمها قوات المقاومة تقليديا مثل قذائف الآر بي جي والصواريخ المحمولة على الكتف، لكن المقاطع المصورة تُظهِر طائرة مسيرة متعددة المروحيات وهي تُسقِط المتفجرات على دبابات الميركافا.

بعض هذه المسيرات كانت من نوع "كوادكوبتر"، وهي طائرات رباعية المروحيات يمكن التحكم بها عن بُعد، تشبه إلى حدٍ كبير طائرات الأطفال التي تُباع في المتاجر التجارية، لكن طُوِّرت بعض أنواعها بهدف القيام بالمهام الاستطلاعية وإسقاط المتفجرات على أهداف صغيرة. كما عرضت "كتيبة الناصر صلاح الدين" التابعة لحماس أيضا طائرة هجومية مسيّرة كبيرة سداسية المروحيات، تشبه تلك التي استُخدمت في حرب أوكرانيا مؤخرا.

 

هذا النجاح المذهل الذي حققته حماس أثار العديد من التساؤلات حول مصدر طائرات "القسام" المسيّرة التي ظهرت خلال الهجوم، وقد ذهب بعض الخبراء إلى أنها تشبه إلى حد كبير المسيرات الإيرانية البدائية وأن المقاومة حصلت عليها من إيران (11). لكن هذه المزاعم تتناقض بشدة مع حقيقة الحصار الذي يفرضه الاحتلال على قطاع غزة، والذي يمنع دخول المواد الغذائية والطبية، فمن البديهي أنه لن يسمح بدخول الأسلحة. يبقى السيناريو المرجح إذن أن حماس ربما استفادت ببعض التقنيات من إيران أو دول أخرى، فضلا عن نجاحها في الحصول على بعض المواد الخام ذات الاستخدام المزدوج، لكن يبقى من المؤكد أن مراحل التصنيع النهائية تمت داخل القطاع، وصاحبتها جهود واسعة لحجبها عن أعين الاستخبارات الإسرائيلية (12).

 

أما الحقيقة المؤكدة فهي أن حماس تمكنت بواسطة تقنيات بسيطة ورخيصة التكلفة من تعجيز نظام دفاعي متقدم مثل "القبة الحديدية". هذا الانتصار الخاطف والاستثنائي للمقاومة ردت عليه إسرائيل بالطريقة الوحيدة التي تُجيدها: حصار كامل على قطاع غزة يحجب إمدادات الطعام والمياه والكهرباء، وقصف جوي موسع تسبب في سقوط أكثر من 2300 شهيد و9 آلاف مصاب، وقرابة نصف مليون نازح حتى الآن بحسب تقديرات الأمم المتحدة (13).

——————————————————————————————————————-

المصادر: How Hamas flooded Israel, killed hundreds and took another 100 hostage: A revolution in drone warfare dating back to Ukraine The Drones of Hamas How Hamas Leveraged Cheap Rockets And Small Drones To Ambush Israel How Hamas likely used rudimentary drones to ‘blind and deafen’ Israel’s border and pave the way for its onslaught Hamas Drone Assault Surprised Israel, Using Russia-Ukraine War Tactics "البيـان الأول حول أول قصف بصواريخ القسام" كتائب القسام ومعركة سيف القدس: ممكنات الردع النسبي في حرب غير متناظرة كتائب القسام تكشف عن طائرات بدون طيار محلية الصنع من طراز "أبابيل1" بالفيديو: كتائب القسام تكشف عن طائرات “شهاب” الانتحارية محلية الصنع Mohamed Zouari: The Tunisian engineer behind Hamas drones Hamas’ Advanced Weaponry: Rockets, Artillery, Drones, Cyber Hamas Reveals ‘Zouari’ Kamikaze Drone That Can Potentially RAIN HELL On Israel During Gaza Ops More than 260,000 people displaced in Gaza: UN

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الطائرات المسیرة طائرات بدون طیار القبة الحدیدیة کتائب القسام محلیة الصنع ت المقاومة کتائب القس العدید من من طراز التی ت فی ذلک وهو ما فی حرب

إقرأ أيضاً:

فضيحة “الدرونز” التي كشفت مشاركة فرنسا في إبادة غزة

#سواليف

في ليلة 17 يوليو/تموز 2014، كانت عائلة شحيبر التي تنحدر من #غزة على موعد مع حادث أليم ومُعتاد في #فلسطين المحتلة، حيث قصف #جيش_الاحتلال منزلهم. أما الهدف الإستراتيجي، فتمثل في قتل عدة أطفال: أفنان (8 سنوات)، ووسيم (9 سنوات)، وجهاد (10 سنوات)، الذين استُشهِدوا وهم يُطعِمون الحَمام على سطح المنزل، فيما تسبب القصف في استشهاد طفلين آخرين.

بعد القصف مباشرة، بدأت منظمتان حقوقيتان هما “الميزان” الفلسطينية و”بتسيليم” الإسرائيلية في البحث عن السبب الحقيقي وراء الاستهداف، لكنها خلصت إلى عدم وجود أي هدف عسكري في منزل شحيبر حسب ما أكدته الأمم المتحدة نفسها بعد ذلك في تقرير نشرته في يونيو/حزيران 2015.

هناك سؤال ثانٍ كان يؤرق المحققين المستقلين حيال #السلاح الذي استُخدِم في القصف، وما أثار الاهتمام في أثناء تنقيب المحققين هو أسطوانة سوداء حملت نقوشا مسحها الانفجار جزئيا وعليها كُتب “أوروفارد ـ باريس ـ فرنسا”.

مقالات ذات صلة حالة الخوف تدفع الذهب إلى مزيد من الصعود 2025/04/05

بسبب هذا الاكتشاف رفعت أسرة شحيبر دعوى في فرنسا ضد شركة “إكسيليا”، بسبب تواطؤها المحتمل في جريمة حرب اقترفتها إسرائيل في عملية “الجرف الصامد”. تقول هذه الأسطوانة الكثير عن الدعم العسكري والتقني الفرنسي لصالح جيش الاحتلال، وأحدث فصل فيه ما كشف عنه موقع “ديسكلوز” في تحقيق يورط فرنسا في #جرائم_إسرائيل في حق أهل غزة أثناء #حرب_الإبادة الدائرة حاليا.

رمادية فرنسية

قبل انطلاق الحرب على غزة يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت فرنسا رسميا وإعلاميا أيضا تصرح بالدعم الكامل لجيش الاحتلال للرد على ما حدث في السابع من أكتوبر. لكن إسرائيل حولت هذا الزخم الغربي من التعاطف إلى الإقدام على #جرائم حرب يصعب إخفاؤها.

بدأ التوجس يجد طريقه إلى أروقة الداعمين الغربيين، خصوصا مع ارتفاع الأصوات الرافضة للإبادة في الرأي العام الغربي، ومحاولاته الضغط على صناع القرار لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل.

في فرنسا، سبق أن وجَّه 115 برلمانيا في أبريل/نيسان من عام 2024 رسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطالبين إياه بإيقاف مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، لأن أي تحرك عكس ذلك يعني ضلوع باريس في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

قبل ذلك بأيام، كان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد أصدر قراره بحظر تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال، وصوَّتت 28 دولة لصالح هذا القرار، فيما اعترضت 6 دول على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا، أما فرنسا فوجدت لنفسها مكانا مريحا في المنطقة الرمادية التي جلست فيها 13 دولة من الممتنعين عن التصويت.

يتسق موقف فرنسا من هذا القرار الأممي مع موقفها العام حيال حرب غزة، وملف تزويد إسرائيل بالأسلحة، أو ببعض القطع التي تستعملها تل أبيب في صناعة أسلحتها التي توجهها في الغالب نحو الفلسطينيين العُزّل.

منذ بداية الحرب على غزة، سلكت فرنسا مسلكا يرقص على جميع الحبال، فهي لم تعلن قطع أي تعامل عسكري مع دولة الاحتلال، لكنها في الوقت نفسه نزلت بهذا التعاون إلى أقل درجة ممكنة، بحيث تحافظ على خيط رفيع يربطها بتل أبيب، مع بذل كل الجهد المطلوب للمحافظة على هذا الخيط من الانقطاع.

موضوعيا، لا تُمثِّل تجارة الأسلحة بين فرنسا وإسرائيل إلا 0.2% فقط من 27 مليار يورو من صادرات باريس إلى دول العالم التي يمكنها استعمالها عسكريا أو في مجالات تقنية أخرى وتكون غالبا مجرد قطع غيار، حسب تصريح سيباستيان ليكورنو، وزير القوات المسلحة الفرنسي.

لا تمانع فرنسا من تبادل المساعدة مع الإسرائيليين فيما يخص بيع الأسلحة، لكن المساعدة تخضع لحسابات أخرى أفصحت عنها مصادر لصحيفة “لوموند” أثناء التحقيق الذي نشرته الجريدة الفرنسية عام 2021 حول برنامج “بيغاسوس” للتجسُّس، حيث يقول المصدر: “نحن قريبون من الإسرائيليين بمسافة تسمح لنا أن نعرف ماذا يفعلون، لكن في الوقت ذاته، لدى فرنسا رغبة واضحة في عدم مساعدة إسرائيل في أي عمليات تقوم بها في غزة، لذلك لا نريد أخذ أي مجازفة في إرسال بعض الأسلحة التي قد تُستعمل في ذلك”.

أسلحة فرنسا.. للدفاع فقط

في تقرير لها في 28 أبريل/نيسان الماضي، أفادت صحيفة “لوموند” أن فرنسا حتى قبيل الحرب الأخيرة على غزة كانت تزود إسرائيل بقطع ضرورية لصنع القذائف المدفعية، لكن في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قررت باريس وقف العقود الخاصة بهذه القطع.

وتشير تقارير البرلمان الفرنسي الصادرة عام 2023 إلى أن فرنسا أرسلت إلى إسرائيل عددا من المعدات الخاصة بتدريع السيارات والمراقبة عبر الأقمار الصناعية.

بعيدا عن المعلومات التي جاءت في وسائل الإعلام الفرنسية، ثمَّة أخبار أخرى أكثر لفتًا للأنظار، منها التحقيق الاستقصائي الذي نشره موقع “ديسكلوز” الفرنسي في مارس/آذار 2024، وقال إن باريس سمحت في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023 بإرسال شحنة تضم ما لا يقل عن 100 ألف خرطوشة (ما يغلّف الطلقة)، انطلقت من مرسيليا عبر شركة “أورولينكس” الفرنسية المتخصصة في صناعة المُعدات العسكرية.

يشير التحقيق إلى أن حجم الشحنة وصل إلى 800 كيلوغرام من الذخائر أُرسِلَت إلى شركة “آي إم آي سيستمز” الإسرائيلية، المُزوِّد الحصري للجيش الإسرائيلي لهذا النوع من الذخائر، ويتعارض هذا التمويل المباشر مع تأكيد باريس عبر قياداتها السياسية أن الأسلحة والمعدات الدفاعية فقط هي ما تصل إلى تل أبيب.

فضيحة المُسيَّرات

مع جولة خفيفة في مواقع التواصل الاجتماعي للعالقين في غزة، نجد أن صوت الخلفية المشترك بين الفيديوهات يغلب عليه ضجيج الطائرات المُسيَّرة، أو ما ُسميه أهل غزة بـ “الزنّانات”.

شكَّلت حرب غزة فرصة لإسرائيل لتفعيل الكتيبة 166 التي تحمل اسم “سرب الطيور النارية”، بحسب ما نشر موقع “إسرائيل ديفِنس”، والهدف من هذه الطائرات هو مراقبة غزة، ثم تنفيذ الضربات. وضمن هذا السرب هناك الطائرة “هيرميس 900” التي يصل طولها إلى نحو 15 مترا، وهي قادرة على الطيران لمدة 30 ساعة متواصلة، وعلى ارتفاع 9000 متر.

لا يحتاج الضباط الذين يوجِّهون هذه الطائرات إلا إلى غرفة تحكم تبعد مئات الكيلومترات عن مسرح العمليات، ثم تنفيذ الضربات مستفيدين من الدقة الكبيرة التي توفرها هذه الطائرات الحديثة، حيث بإمكانها مثلا الإجهاز على سائق سيارة على بُعد 5 أو 10 أمتار دون إصابة أي راكب آخر في السيارة نفسها، رغم أن الاستعمال الإسرائيلي لهذه الأسلحة لا يهتم كثيرا بالقتلى المدنيين.

في تحقيق جديد حول صفقات السلاح بين فرنسا وإسرائيل، نشر موقع التحقيقات الفرنسي “ديسكلوز” وثائق تُثبت تورط شركة “تاليس” الفرنسية، التي تمتلك الدولة 26% من أسهمها، في تسليم إسرائيل مجموعة معدات إلكترونية تساعد في جمع قطع طائرة “هيرميس 900″، من بينها قطعة “TSC 4000 IFF”، وهي تساعد هذه المُسيَّرات على تجنُّب الصواريخ والمُسيَّرات “الصديقة” التي قد تعترض طريقها، حتى لا تسقط الصواريخ الموجهة نحو الفلسطينيين على الإسرائيليين أنفسهم.

يشير التحقيق إلى أن 8 قطع من هذه الأجهزة أُرسِلَت فعلا إلى إسرائيل بين ديسمبر/كانون الأول 2023 ومايو/أيار 2024، أي بعد أشهر من انطلاق العمليات الإسرائيلية في غزة.

ويسلط التحقيق الضوء على إشكالية مراقبة العقود السرية التي تعقدها الجهات العليا الفرنسية مع بعض الدول ومن بينها إسرائيل، وذلك رغم خروج وزير الدفاع الفرنسي يوم 20 فبراير/شباط 2024 أمام البرلمان مؤكدا أن جميع القطع التي تُرسَل إلى إسرائيل عبارة عن معدات يُتأكَّد من نوع الآليات التي تُستَعمل فيها.

يعود هذا التعاقد السري بين فرنسا وإسرائيل إلى 2 مارس/آذار 2023، حين اشترت شركة “إيلبيت سيستيمز” الإسرائيلية المصنعة لطائرات “هيرميس 900” ثماني قطع إلكترونية بمبلغ 55 ألف يورو للقطعة الواحدة من جهات فرنسية (440 ألف يورو إجمالا). وصل الطلب بعد أسابيع من انطلاق الرد الناري على هجمات 7 أكتوبر، في الوقت الذي كانت تحذر فيه الأمم المتحدة من أن النيران الإسرائيلية غالبا ما تطول النساء والأطفال الرضع.

ورغم ذلك، يقول موقع “ديسكلوز” إن وزارة الدفاع الفرنسية لم تحترم الاتفاقيات التي وقَّعت عليها بعدم بيع أسلحة لجهات تستهدف المدنيين، بل واصلت دعم تحركات حكومة نتنياهو في تدمير قطاع غزة.

كانت فرنسا قد واجهت في وقت سابق دعوة من 11 منظمة حقوقية تتزعمها منظمة العفو الدولية “أمنستي” بسبب إرسالها أسلحة إلى تل أبيب، مع العلم أن الأخيرة لا تجرب أسلحتها ولا الأسلحة التي تحصل عليها من حلفائها إلا في مواجهة الفلسطينيين.


سكوربيون

تجمع فرنسا وإسرائيل علاقة تسليح وتكنولوجيا وطيدة، ويكشف تحقيق مهم لموقع “أوريان 21” عن العلاقة بين جيش الاحتلال وجهاز الدفاع الفرنسي، وعن الغموض الكبير الذي يكتنف هذه العلاقة، التي تشهد تعاونا بين الفرنسيين والإسرائيليين على حروب المستقبل التي سيكون أبطالها الروبوتات والطائرات المُسيَّرة.

تمتاز العلاقات بين فرنسا وإسرائيل بنوع من الودية، وإن كانت قد تعكرت في الفترة الأخيرة، بيد أن الأمر ليس بذلك الوضوح أو الشفافية فيما يتعلق بالجانب العسكري، لأن العلاقة تتأرجح بين الود والمنافسة، بل تصل أحيانا إلى الاختراق. لا يحب الفرنسيون الطريقة التي يتعامل بها الإسرائيليون في مجال الصناعات العسكرية، فهم يكسرون الأثمان بهدف الاستيلاء على أسواق السلاح.

وليس هذا فحسب، بل أصبح جيش الاحتلال منذ سنوات يتوجه إلى أهم الأسواق التقليدية التي كانت فرنسا تتمتع بالأفضلية المطلقة فيها لينافسها هناك، وهي سوق أفريقيا.

منذ اتفاق أوسلو، استثمرت إسرائيل كثيرا في القارة السمراء، خصوصا في مجال حماية الأنظمة القائمة. وفي السياق نفسه، حافظ الإسرائيليون رغم ذلك على نوع من التعاون مع الفرنسيين كما حدث في الكاميرون، حيث دعموا الجيش الكاميروني للقتال ضد جماعة “بوكو حرام”، وأقدم مرتزقة إسرائيليون على تأطير كتيبة التدخل السريع، التي تعمل تحت قيادة الرئاسة مباشرة، وجهز الإسرائيليون كتيبة التدخل السريع ببنادق كانت حتى الأمس القريب لا تأتي إلا من الصناعة الفرنسية.

تجاوز تأثير السلاح الإسرائيلي رعايا فرنسا السابقين من الأفارقة إلى فرنسا نفسها. وصحيح أن جيش الاحتلال منذ بدء عدوانه الغاشم على غزة قد استعان بكل مَن له إبرة يمكنها أن تغطي حاجتها العسكرية لإبادة غزة وسكانها، إلا أن الإسرائيليين في الظروف العادية يؤثّرون بالفعل في مجال التسليح والدفاع الفرنسي، مع أن العكس ليس صحيحا بالضرورة.

ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت فرنسا هي التي تبيع الأسلحة لجيش الاحتلال، أما اليوم، فأضحت تل أبيب تبيع لباريس، إذ استوردت فرنسا أنظمة المراقبة الإلكترونية والمُسيَّرات، وحتى الجنود الآليين. ولا يُخفي الفرنسيون انبهارهم بالتكنولوجيا الإسرائيلية، وبالقليل من البحث، يمكننا الوصول إلى بعض نتائج هذا التعاون الخفي، أما الفاكهة المسمومة الأكثر نضجا هي “برنامج سكوربيون”.

لا يعلم الفرنسيون الكثير عن برنامج خفي يسمى “تآزر الاتصال المعزز بتعدد الاستخدامات وتثمين المعلومات”، المعروف اختصارا بـ”سكوربيون”، وهو برنامج “ذكي” سيدخل في قلب إستراتيجية القوات البرية الفرنسية للعقدين المقبلين.

أهم نقطة في برنامج “سكوربيون” هي تطوير قيادة رقمية واحدة تعتمد على وصلة مشتركة، تسمح للجنود المختلفين والأدوات العسكرية المنتشرة، وبالخصوص المُسيَّرات والروبوتات، بالاتصال في وقت واحد لاستباق أي ردود فعل يقوم بها العدو المفترض.

لذا، سيتمكن الجندي الفرنسي من الحصول على جميع هذه المعلومات عبر مواقع “جي بي إس” خاصة بالبرنامج، الذي عملت عليه شركة “إلبيت” الإسرائيلية، من أجل حرب “بدون ضوضاء”، وبحيث يُتيح هذا النظام الاستباقي لفرنسا أن تتجنَّب مقتل العديد من جنودها عبر قراءة التحركات الاستباقية لعدوها.

عمل جيش الاحتلال على تطوير تقنياته عبر تجريبها في غزة وفوق جثث أهلها، ولذلك تمكن من التقدم في نقاط ثلاث: أولها محو أصوات محركات المُسيَّرات، وثانيها تصغير حجمها وتطويرها بحيث يماثل حجمها حجم الحشرات، وأخيرا القضاء على أي آثار رقمية لها مع تحديد إشارات العدو.

كل هذا وأكثر يوجد في برنامج “سكوربيون” الذي لا تقتصر أهميته في الصناعة الفرنسية على الاستخدام، بل تتجاوزه إلى التصدير، حيث أبدت بعض الدول، ومنها دول عربية، حماسها الشديد للحصول عليه، وهو برنامج وصل بالطبع، قبل كل هؤلاء المشترين، إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي.

وبذلك يبدو الموقف “المحايد” الذي تحاول القيادة السياسية في فرنسا اتخاذه من حرب الإبادة الحالية، موقفا لا تعضده مواقف الجانب العسكري، الذي بات بصورة أو بأخرى جزءا من هذه الحرب، وجزءا من آلة القتل التي تحرق وتدمر يوميا كل ما تطاله دون رادع.

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تنشر رسالة “خطيرة” بعثها السنوار إلى قادة “القسام” والحرس الثوري الإيراني قبل “طوفان الأقصى”
  • كتائب القسام تعلن قصف أسدود برشقة صاروخية
  • شاهد: كتائب القسام تبث تسجيلا جديدا لأسيرين إسرائيليين
  • فضيحة “الدرونز” التي كشفت مشاركة فرنسا في إبادة غزة
  • شاهد| كتائب القسام تنشر (قريباً .. בקרוב .. Soon).. فيديو جديد يظهر فيه أسيران للعدو الصهيوني يطالبان بالإفراج عنهما
  • كتائب القسام تعرض فيديو جديدًا يظهر فيه أسيران للعدو الصهيوني يطالبان بالإفراج عنهما
  • كتائب القسام تنشر فيديو جديدا يظهر فيه أسيران إسرائيليان
  • تحريض إسرائيلي ضد وزير سوري في الحكومة الجديدة بسبب طوفان الأقصى (شاهد)
  • فضيحة “الدرونز” التي كشفت مشاركة فرنسا في إبادة غزة
  • فضيحة الدرونز التي كشفت مشاركة فرنسا في إبادة غزة