فرحانة أم المجاهدين تفتح قلبها لـ"الوفد": لو العمر بينشري اشتريه وأرجع أناضل تاني"
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
في حي الضاحية التابع لمدينة العريش بمحافظة شمال سيناء كان اللقاء، ولما لا نلقاها وهى شيخة وأم المجاهدين فى سيناء. منجم الأسرار ناضلت ضد الاحتلال الإسرائيلى لسيناء، محترفة فى تجارة الملابس والأقمشة، فنانة فى شغل التطريز والنقش على الملابس، تحمل ذكاءً فطريًّا رغم أنها لا تجيد القراءة ولا الكتابة.. كتبت سطورًا خالدة فى سجلات بطولات أبناء سيناء الوطنية منذ بداية حروب الاستنزاف وحتى نصر أكتوبر 1973، إنها الحاجة فرحانة حسين سالم سلامة، شيخة المجاهدين فى سيناء والمولودة فى الخامس والعشرين من سبتمبر 1933، "الوفد" حلت ضيفاً على العقلية المخابراتية الفولاذية وكان اللقاء الذى كشفت فيه أسرار خريطة مطار الجورة واعتراف ابنها عليها فى إحدى نقاط التفتيش الإسرائيلية، وكيف كانت تكتب وتبعث رسائلها.
مُستندة إلى مشاية حديدية وبخطوات حانية تضع قدماً وتجر الأخرى، تخرج علينا من غرفتها بإطلالة تحمل عبق تاريخ نضالى، ملفوفة بطرحة طويلة بيضاء مطرزة بأوراق الزيتون، مرتدية الزى السيناوى الأسمر، ونحن جُلوس فى صالة شقة بسيطة مفروشة بقعدة عربية، قائلة: مرحبا مرحبا.. والله يا شباب ويا بنات بريزة ممسوحة.. الحمدلله.. الحمد لله". رفضت التصوير فى البداية قائلة: بلاش تصور. وبعد محاولة اقتنعت ووافقت.
تاريخ يُقرأ وحكايات تروىقصة كفاح شيخة المجاهدين فرحانة حسين سالم تاريخ يُقرأ وحكايات تروى تكشف عن معدن أصيل لشخصية عظيمة بدأت نضالها بين صفوف المجاهدين ضد الاحتلال الإسرائيلي، بعد النكسة حسب ما قال ابنها عبدالمنعم إبراهيم حسين خلال لقائنا معهما داخل منزلهما.
علم مصر مشغول بأديها
أوضح أنها بدأت العمل النضالي، مثل الكثير من أبناء العريش وسيناء بالانضمام إلى منظمة تتعاون مع المخابرات الحربية، تخدم الجانب المصري مشيرًا إلى أنها خطوة فوق الرائعة، لأنه كانت مصر تريد الحصول على معلومات عن العدو الإسرائيلي عن طريق أبناء سيناء، وكانوا مجموعة عمل تمارس دورها تحت ستار تجارة الأقمشة، الأمر الذي أتاح لها التنقل من مكان إلى آخر ، ما سهل لها عملها فى تجميع المعلومات ورصد تمركزت قوات العدو الإسرائيلي.
وأشار إلى أنه قبل انضمامها شاع فى المنطقة أن الحاجة فرحانة حسين سالم إنسانة قوية وعندها كارزمة ومجتهدة تتعامل بأمانة وإخلاص، فكل الكلام ده وصل إلى القيادة المركزية فى المخابرات المصرية بالقاهرة، فقالوا هنبعت ناس من قدامى المجاهدين فى الوقت ده منهم الشيخ حسين أبو عرادة وناس كتير جاءوا البيت، وهى بكل صراحة لبت النداء وقالت أنا كلى فداء وطنى.. وبعد موافقتها، بدأ تدريبها فى قيادة المخابرات فى مصر لمدة 6 أشهر، وحظيت بتدريب على أعلى مستوى على كيفية تجميع المعلومات وكيف تتعامل من المواقف، وازى تمشى فى الطرق، وكيف تتعامل فى أصعب الظروف التى تمر بها، وماذا لو تم كشف سرها. وبعد أن أتمت تدريب 6 أشهر بدأت تنطلق.
مهام شاقة للحاجة فرحانة
وكشف عن دورها الذى يتمثل رصد تمركزات قوات العدو الإسرائيلي وأعداد الدبابات والجنود، والسيارات رغم أنها لا تجيد القراءة ولا الكتابة، غير أنها كان لديها مهارة فى حفظ الرموز والنقوش الموجودة على سيارات العدو، ثم تقوم برسمها ونقشها على القماش ثم تطريزها على ثيابها، التى ترتديها حسب سلو كل بلد تذهب إليه، بطريقة عبقرية تُدرّس، لتقوم بنقل المعلومات إلى الجانب المصري من أشخاص آخرين وهى، وبعد أن يتم الحصول على المعلومة ويتم كتابتها على القماش بالتطرير والنقش تضعها داخل طيات الملابس فى لياقة أو ذليل التوب البدوى من أسفل، ثم تغلق عليها بالخياطة والتطريز، وتمر عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية إلى الجانب المصرى، ثم تقوم بفك الخياطة واستخراج القماش المطرز بالرسائل وتسلمها إلى المخبرات المصرية ثم يبدأون التعامل معها، فكانت تتستر تحت ثياب كل منطقة تذهب إليها؟
اعتراف في لحظات فارقة
وفى إحدى المرات كانت هناك لحظات فارقة، إذ كان عندى 4 أو 5 سنوات، طفل لا يدرك ماذا يقول، فرأيتها طوال الليل تعمل على تطريز الرسائل ووضعها داخل ذلك الثياب وتسرفل عليها من أسفل، ثم تقوم بخياطته مرة أخرى، فى هذا الوقت أنا شايفها وهى بتعمل جواب على القماش، وعندما وصلنا إلى نقطة التفتيش اليهودية، تم تفتيشها كاملة ولم يلحظوا إى شيء، غير أننى بعقلية الطفل أصررت أمام المفتشة اليهودية على أنها معها جواب، فقلت: "والنعمة والنعمة معاها جواب"، لكن لأنها تمتلك سرعة بديه وذكاء فطري، فقامت فقرصه قرصة شديدة جداً انتفض منها فى بكاء شديد لم ينقطع، من أجل التمويه على الكلام، الأمر الذى دفعهم إلى طرح الأسئلة، لماذ يبكى؟ فقال لهم لأنه جعان فأحضرت له المفتشة اليهودية عيش وبلوبيف، فأخذتها، ومشينا، وبعدها قالت لى “ياك تطفحه”.
خريطة مطار الجورة
من المواقف المؤثرة فى مسيرة شيخة المجاهدين فى سيناء الحاجة فرحان، عندما طُلب منها خريطة مطار الجورة العسكرى، كيف ستحصل عليها فى الوقت الذى لا تجيد التصوير، فدفعها ذكاؤها الفطرى إلى تكليف شخص معه جمل ليسير معها هذا المشوار، (هذا الرجل تزوج أربع نساء ولكن لم يُكتب له الخلفة، فعندما قابلها قالت لها : إن شاء الله هتخلف")، بعدها حصلت على الخريطة وخبأتها داخلى طيات ملابسها، ومشيت مئات الكليومترات سيراً على الأقدام فى صحراء ساخنة حتى أدميت قدماها، كانت تمشى من خلفها الجمل مع وضع جريد النحل والهايش وعيدان القصب وجلد ماعز حتى يختفى أثر الأقدام طول رحلتها وتستريح من منطقة إلى أخرى فى بئر العبد أوغيرها من المدن الحالية، إلى أن وصلت مثلث القنطرة (القنطرة شرق)، فأمسك بها عسكرى مجند مصرى ومعها الخريطة، وهو لا يعرفها، فقام بتسليمها إلى ضابط الجيش المسئول، فعندما علم أن فرحانة معها خريطة مطار الجورة، فمن فرحته قبل رأسها وحضنها وقدّم لها أفضل واجب.. وتتدخل فرحانة فى الحديث قائلة: كان التليفون انقطع وطلب عربية جات، وراح يجيب أكل لم يجد فجاب طبق بلح رطب، غسله ووضعه أمامي، وجاب سمك وكان عايز يسويلى أكل، والعربية كانت هتيجى تخدنى أبيت فى القنطرة، وحراسة 10 عساكر 5 يمين و5 شمال، نزلونى بيّت فى القنطرة.
ويواصل عبدالمنعم ابن الحاجة فرحانة: بأن الضابط أحضر لها بلح رطب وأخذ يطعمها وشوى لها سمك وأكلها، واتصل بالتلفون بأحد الأشخاص فأحد سيارة ليأخذها كتى تبيت فى القنطرة، إلى أن أوصلت الخريطة بيدها إلى مقر قيادة المخابرات الحربية المصرية.
النقش على الرمل والقماش
ظلت فرحانه تواصل أعمالها البطولية ، فطلب منها حصر سيارات قوات العدو ذهاباً وإياباً فى الشوارع، لكي يتم عمل حصر مبدى لقوات العدو فى ذلك الوقت، فكانت تجلس على الشارع فترصد السيارة، ثم تقوم بنقش الارقام والحروف بالعبرى على الرمل، حتى لا تنسى، فهى لا تقرأ ولكن تنقش الكلام والحروف نقشاً، ثم بعد الرجوع تقوم بنقشها على القماش، ثم تعود إلى مصر فتذهب إلى القيادات فيضعون لها رمالاً فى صنية لتقوم بنقش العلامات عليه ثم يقومون بترجمتها إلى اللغة العربية ومن هنا يقدروا يعرفوا عدد السيارات.
وأشار عبدالمنعنم إلى أن من الأشياء التى أثرت فيه شخصياً أنهم بعد حرب 1967 هاجر والده ووالدته لسمالوط بالمنيا، ثم عندما كانوا مهجرين إلى مديرية التحرير بالبحيرة كان لا يعرف حقيقة عمل والدته، فكانت تذهب إلى سيناء على اعتبار أنها تتاجر فى الأقمشة، حسب الرحلة شهر أو شهرين أو 3 أشهر، وكان الموضوع سريًّا تماماً، وكنت أتأثر عندما أشاهد أرجلها وهى متأثر بحتباس الدماء فيها نتيجة المشى الكثير على الرمال الساخنة، فكانت تقول "أقدامها شبعت" بمعنى إنها من كثرة المشى احتبست الدماء فى أصابع أرجلها، من هنا فهمنا قيمة ما تفعله أمى من نضال وما تبذله من مشقة وتعب من أجل رسالة سامية هى حب الوطن.
شيخة المجاهدين فى سيناء كانت تخبر أيضاً بنجاح مهمتها عبر إرسال برقية عبر الإذاعة تقول فيها: أنا أم داؤد أهدى سلامى إلى إخوانى وإخواتى فى الأراضى المحتلة. وبمجرد وصول البرقية، يفرح المجاهدون ابتهاجاً بنجاح فرحانة فى مهمتها.
من الموقف المؤثرة فى نضال أم المجاهدين فرحانة عند القبض عليها، فهى كان لديها شعور بذلك، لأنه أشيع فى ذلك الوقت أن اليهود يبحثون عنها، وهى فهمت انهم يلاحقونها، وعندما تأكدت أنهم سيقبضون عليها لا محالة خرجت من البيت الذى كانت فيه حتى لا يتضرر أصحابه من العدو، وألقوا القبض عليها، فأخذوها على كرم أبو سالم، وكان لهم طريقة مختلفة فى الاستجواب، فكانوا يأتوا لها بالطعام والشراب، لكن هى كانت على دراية كافية بالتعامل مع مثل هذه المواقف، وتأخذ حذرها من كل شيء، حتى الساعة التى وضعها الضابط الاسرائيلي على المكتب، فكرتها إنها ممكن تسجل، لكنهم قالوا لها نحن نريداً طلباً واحداًـ وأنت اطلبى اللى انت عايزه. قالوا لها إحنا عايزين عطية سالم، (عطية سالم رحمه الله، كان المسئول عن مجموعة المنظمة المجاهدين فى سيناء بالكامل، ومُسيّر أمورها)، فقالت لهم أنها لا تعرفه ولا عمرها شافته، فأخذوا يستجوبونها أكثر من مرة ولكن لم يستطيعوا فك طلاسمها، فتركوها الى حال سبيلها، وعندما خرجت بلّغت عطية سالم بما حدث، كما بلغت المسئول عنها بالقيادة شريف عزت أيضاً.
وقالت فرحانة إن فى بعض المرات ظلت طائرة يهودية تلاحقها فى كل الأماكن وينشنون عليها بالرصاص، الأمر الذى دفعها إلى الاختفاء داخل جزوع النخيل الصغيرة، إلى أن مرت الطائرة، ومشيت فى سلام.
تكريم الرئيس السيسى لها
وعند سؤالها عن تكريم الرئيس السيسي لها قالت: إنها عرفته منذ زمن وجلست معه دون أن تنطق بأي كلمة معه، إنه من أحسن وأفضل الرجال فى مصر، وأشارت إلى أنها تعاملت معه عندما كان مديراً للمخابرات الحربية، ولكن لم تكشف عن أى تفاصيل، مشيرة إلى أنها تشعر بالأمان والاطمئنان وهى تشاهد أبناء مصر من الجيش وهم فى سيناء يقاتلون الإرهاب.
شيخة المجاهدين تعشق الجيش المصرى لدرجة أنها بمجرد أن ترى أى فرد منه تنادى عليه وتدعى له وتكرمه، وتتأثر جداً عندما ترى مشاهد نصر أكتوبر وتحطيم خط بارليف، فتنساب الدموع من عينيها، على شهداء الوطن، قائلة: "لو العمر بينشرى أشتريه .. وأرجع أناضل تانى زى دُول".
أم المجاهدين لها محبون يزورونها، منهم عبدالكريم الشاعر وإسلام عروج ، كانوا يستمعون إلى كلامها ونصائحها، كما أنها هى أول من تبرع لفكرة إنشاء مستشفى حياة ، لها ممن الأولاد 3 أولاد: هم عبدالرسول 72 عاماً، ودوود 62 وعبدالمنعم 59 سنة لهم كثير من أحفاد.
ووجهت الحاجة فرحانة حديثها إلى محرر الوفد قائلة: يا أبو نضارة واللى معاك.. انتم فى قلوبكم حساسين انكم جايين علشان بتحبنى ولا علشان مصلحة؟" فكانت الاجابة إننا جايين ننبسط ونفرح بيك، الأمر الذى دفعها إلى اعطائنا كلمة لا إله إلا الله، منقوش على القماش كما كانت تكتب رسائلها، وأخذت فى الدعاء للموجودين.
حلم فرحانة
الحاجة فرحانة نفسها تشوف مستشفى حياة للأورام على أرض الواقع، هذا المستشفى التى تعد من أول من تبرع من أجل إنشائه، لأنه لا يوجد مستشفيات للأورام فى العريش.
شيخة المجاهدين تقول إنها تنتظر الموت، فما أن تسمع المنادى فى المنطقة يعلن عن وفاة شخص إلا وتتمنى هى ذلك، وتحمد الله على هذا الحال..
ودعتنا بكلمات بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله.. أوصت بمصر حطوها فى عنيكم، وأعطتنا قطعة قماش منشوشًا عليها لا إله إلا الله.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: على القماش إلى أن
إقرأ أيضاً:
في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-
على الأرجح، فالمفاهيم السوسيولوجية والجغرافية والحقائق التاريخية رغم أهميتها على مستوى إعادة تشكيل وبناء الجهاز المفاهيمي المرتبط بالصراع حول الصحراء، إلا أن المفاهيم الأخرى، سواء القانونية المرتبطة بالقانون الدولي أو بعض المفردات ذات الحمولة السياسية، فإنها لا تقل بدورها أهمية على مستوى الترافع عن الوحدة الترابية للمملكة.
المفاهيم القانونية والحقائق السياسية
لم يسلم القاموس التداولي بشأن النزاع حول الصحراء من التحريف والتزييف، إذ جرى ويجري استعمال وتوظيف بعض المفاهيم القانونية بطريقة تفتقر إلى الدقة لا سيما وأن بعضها مرتبط بقواعد القانون الدولي مثل مفهوم « الاحتلال » « واللاجئين » و »الدولة الصحراوية ».
لقد تمكنت الآلة الدعائية الانفصالية من تثبيت بعض المفاهيم المغلوطة في مخيلة الأنصار والتابعين، بل غدت تلك المفاهيم والمصطلحات مؤسسة وتشكل النواة الصلبة في عملية الاستقطاب وتوسيع دائرة التيار الانفصالي.
أولا، المفاهيم والمصطلحات القانونية
تنهل وتعتمد أطروحة الانفصال على قاموس دعائي/تحريضي يرتكز على مجموعة من المفاهيم والمفردات القانونية المرتبطة بقواعد القانون الدولي بمختلف حقوله وتخصصاته. لذا، فإن تفكيك « بنية الخطاب الانفصالي » يستدعي إعادة قراءة ومراجعة المفاهيم والطروحات المؤسسة، لاسيما وأن « الحرب الناعمة » _التي تعرف بأنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للوسائل العسكرية والصلبة »_ باتت تخاض عبر اعتماد مرجعيات قانونية ودولية، وذلك بغرض المحاججة والترافع في الساحة الدولية والإقناع وإيجاد مناصرين ومتعاطفين مع القضية.
1- مفهوم تقرير المصير
يعتبر تقرير المصير من بين أهم المبادئ التي تم التنصيص عليها في العهدين الدوليين سواء الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أو العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعلن عنها سنة 1966.
إلا أن سياق تضمين هذا المبدأ في العهدين، ارتبط بمحاولة تشجيع الدول خاصة حديثة الاستقلال أو الخاضعة للاحتلال على التوقيع على العهدين. وقد تم تبني هذا المبدأ من طرف المنتظم الدولي في سياق متسم بمناهضة للاستعمار، مما جعل هذا المفهوم خلال الستينات من القرن الماضي يحظى بانتشار وتأييد واسعين من طرف كافة الدول.
هذا المفهوم الذي انتشر قبل ولادة البوليساريو بسنوات، سيصبح بعد انحراف هذا التنظيم عن المبادئ وأهداف التأسيس، من بين أهم الشعارات التي يرفعها رفقة الجزائر ضد المملكة المغربية في المحافل الدولية، وقد جرى تحريف استعمال هذا المبدأ بشكل يتعارض مع أهم المبادئ المؤسسة لميثاق الأمم المتحدة وباقي الصكوك الأخرى وهو مبدأ « وحدة وسلامة الدول ».
كما حاولت الجزائر عبر البوليساريو أن تجعل من الاستفتاء كآلية وحيدة لتقرير المصير، بل إن هذا الاختزال غير الدقيق لمفهوم تقرير المصير وعلاقته بالاستفتاء غدى من بين المسلمات التي توظف للدفاع عن أطروحة الانفصال.
في حين لم يرد ضمن الوثائق المرجعية للأمم المتحدة ما يشير إلى اعتماد الاستفتاء كآلية وحيدة لتقرير المصير، حيث حددت الجمعية العامة أربعة نتائج لاعتماد تقرير المصير دون تحديد الوسيلة أو الطريقة، الشراكة والاندماج والاستقلال (القرار 1541) وحرية اختيار الوضع السياسي (القرار 2625). ومنذ سنة 1945 أشرفت الأمم المتحدة على ما يقارب خمسة استفتاءات (2 نتج عنهما الاستقلال في كل من نامبيا وتيمور الشرقية، وواحد أفضى إلى اندماج ايريان الغربية في إندونيسيا عام 1963، واثنان نتج عنهما رفض قانون الشراكة الحرة المقترح بين طوكلوا ونيوزيلندا سنتي (2006 و2007).
2- مفهوم الاحتلال
يصف دعاة الانفصال المغرب « بدولة الاحتلال » حتى صار هذا التوصيف في مخيلة الشباب في مخيمات تندوف وبعض المناطق الخاضعة للمغرب بمثابة « حقيقة » أو « قناعة » لدى البعض، وذلك نتيجة سنوات من التحريض عبر الآلة الإعلامية.
هذا بالإضافة إلى أن مقولة « الصحراء آخر مستعمرة في إفريقيا » باتت تروج بكثافة حتى صارت بمثابة سردية يرددها البعض في كافة المحافل الدولية والقارية.
وبالعودة إلى قواعد القانون الدولي فإن مفهوم « القوة المحتلة » تم تحديده بدقة بموجب قرار لاهاي لسنة 1907 ومعاهدة جنيف الرابعة الصادرة بتاريخ 12 غشت 1949، حيث تعتبر « القوة المحتلة » وفق هاتين الوثيقتين بأنها تنطبق على استعمار أرض دولة موجودة فعلا خلال نزاع دولي مسلح.
وانطلاقا من هذا التعريف، يلاحظ أن وصف المغرب بالاحتلال، مجرد توصيف دعائي يسائل ضعف وعدم قدرة المملكة على دحض هذه المغالطات وعدم قدرتها على الترافع بشكل عقلاني، لاسيما وأن قرارات مجلس الأمن وتقارير الأمين العام منذ بداية مسار التسوية الأممي لم تصف أو يرد ضمنهما ما يوحي أو يشير إلى اتهام المغرب ب »الاحتلال ».
3- « الدولة الصحراوية »
أعلنت جبهة البوليساريو بإيعاز من الجزائر سنة 1976 بعد توقيع الاتفاق الثلاثي عما يسمى « الجمهورية الصحراوية ». وهذا الإعلان/الادعاء يفتقر إلى أسس وضوابط ومقومات عادة ما يفترض وجودها قبل الإعلان عن « الدولة ».
مفهوم الدولة في القانون الدولي يرتبط بوجود مقومات أساسية وهي شعب، إقليم، سلطة سياسية، سيادة، وهي مقومات غير متوفرة لدى جبهة البوليساريو. وارتباطا، بهذا المعطى القانوني، فإن تفكيك مقومات الدولة في جوانبها القانونية والسوسيولوجية، يجعل هذا التنظيم أبعد ما يكون عن الدولة، وهو ما يبرر عدم اعتراف الأمم المتحدة بهذا الكيان كدولة، بل بالعودة إلى تقارير الأمين العام وقرارات مجلس الأمن يلاحظ أن التوصيف الأقرب من خلال متن ومضمون التقارير والقرارات هو « حركة انفصالية ».
وبالنظر إلى ضرورة التوفر على مرتكزات ومقومات الدولة وفق القانون الدولي، فالبوليساريو حاولت طيلة مسار النزاع أن تقدم إجابات وسد النقائص في هذا الجانب، لكنها فشلت وإن كان الاعتراف بها عضوا في الإتحاد الإفريقي ساعدها قليلا على الأقل من الناحية الدعائية.
وفق هذا الأساس، فالمقومات الأساسية غير موجودة، حيث أن « الشعب الصحراوي » كمرادف لشرط وجود شعب، يعتبر مفهوما غير دقيق كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا، أما الإقليم، ونظرا لسيادة المغرب على 80 في المائة من الأراضي المتنازع حولها، فقد عملت الآلة الدعائية على الترويج لما بات يعرف « بالأراضي المحررة »، وهي أراض تقع في المنطقة العازلة خاصة على مستوى بئر الحلو وتفاريتي.
أما شرط وجود « السلطة السياسية »، فلا يمكن اعتبار تنظيم مسلح بالنظر إلى أدبياته وهيكلته المعلنة، على أن له سلطة سياسية، في ظل غياب المرتكزات المؤسسة للشرعية والتمثيلية (الانتخابات)، فالبوليساريو، تنظيم مسلح يعتمد على تراتبية صارمة لا تسمح بالاختيار أو مناقشة الاختيارات وتقرير المصير.
ثانيا، المفاهيم والحقائق السياسية
إن إطالة أمد النزاع حول الصحراء، أفضى إلى تغليب الخطاب الدعائي/التحريضي على حساب الحقيقة والواقع، مما أدى إلى نشر مجموعة من المغالطات تصل لدرجة « الأكاذيب » والمفاهيم والأقاويل غير الدقيقة.
إذ جرى في سياق الصراع، القفز على بعض الحقائق التي تعتبر من جوهر وأدبيات هذا النزاع، من قبل طبيعة النزاع، هل هو إقليمي أم دولي أم محلي، وكذلك مفهوم اللاجئين أو « المحتجزين »، هذا بالإضافة إلى طبيعة عضوية البوليساريو في منظمة الإتحاد الإفريقي.
1- طبيعة النزاع حول الصحراء
تحاول الأطروحة الانفصالية أن تختزل الصراع بين المغرب وجبهة البوليساريو وهي مقاربة خاطئة وغير دقيقة، لأن الصراع في جوهره إقليمي وإن أخذ أبعادا دولية بفعل تحولات وعوامل دفعت في اتجاه تدويل الملف. فالمعطيات التاريخية والحقائق السياسية تؤكد أن النزاع إقليمي ولا يغدو أن يكون امتدادا لصراع الريادة والتوسع بين المغرب والجزائر. لذلك، لا يمكن فهم طبيعة النزاع حول الصحراء دون استدعاء التاريخ خاصة « حرب الرمال »، وغيرها من الأحداث المفصلية.
إن استدعاء التاريخ واستحضار ملف الصحراء ومنطق الزعامة والرهانات الجيو-استراتيجية، تعتبر مفاتيح ومداخل مهمة لتفكيك وفهم وتحليل الوضعية المأزومة التي وصلت إليها العلاقة بين الطرفين، لا سيما وأن الصراع وقواعد الاشتباك الدبلوماسي لم تعد كما في السابق؛ إذ باتت المواجهة المباشرة مطروحة وغير مستبعدة في ظل الاحتقان الموجود.
تعتبر حرب الرمال واقعة أليمة في سجل العلاقة بين الطرفين، إذ تبرر المملكة المغربية تدخلها عسكرياً للرد على استفزازات حدودية من الجيش الجزائري، والجزائر تقول إنها ردّت أطماعا مغربية في أراض على الحدود.
تتعدد وتختلف المسوغات التي يسوقها كل طرف؛ المغرب يبرر موقفه من خلال الدفاع عن حقوقه التاريخية المشروعة في بعض المناطق المتمثلة في بشار وتندوف وأقصى الجنوب الجزائري، بحيث يعتبر أن الاستعمار الفرنسي اقتطعها منه.
وتبعا لذلك، يرى المغرب أن قادة الجزائر لم يوفوا بعهودهم، لا سيما وأن المملكة رفضت ترسيم الحدود الشرقية مع فرنسا وارتأت أن تناقش هذا الأمر مع سلطات الجزائر بعد استقلالها، خاصة بعد تطمينات فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، الذي صرح، بحسب مذكرات قائد الأركان السابق الطاهر زبير « نصف قرن من الكفاح »، بخصوص مطالب المغاربة بالقول: « نحن الآن في حرب، وبعد الاستقلال سيكون هناك مجال للحديث في هذه المسألة والتفاوض بشأنها ». وقال الطاهر زبير في مذكراته: « وبنى المغرب موقفه على هذا الكلام ».
2- اللاجئين الصحراوين وسؤال التمثيلية
تستعمل جبهة البوليساريو ومن خلفها الجزائر مصطلح « اللاجئين الصحراويين » لتوصيف ساكنة تندوف، بالمقايل تصفهم الآلة الإعلامية المغربية « بالمحتجزين »، وإن كانت الجزائر وفق خلفيات وسياقات ترتبط بالحرب الباردة قد تمكنت من شرعنة مفهوم « اللاجئين » على مستوى تقارير وقرارات مجلس الأمن، إلا أن هذا المفهوم لا يتناسب مع حمولته الإنسانية ومقتضيات الشرعية الدولية. لاسيما وأن الجزائر لاتزال ترفض إحصاء عددهم وإعمال المبادئ المتعلقة بهذه الفئة.
وبالعودة إلى قواعد القانون الدولي، فإن اتفاقية 1951 المتعلقة باللاجئين تعتبر الإطار القانوني المرجعي لعمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتعرف هذه الاتفاقية « لاجئ »، وتتضمن كافة حقوقه، بما في ذلك حقوقه من قبيل حرية العقيدة والتنقل من مكان إلى آخر، والحق في الحصول على التعليم، ووثائق السفر، وإتاحة الفرصة للعمل، كما أنها تشدد على أهمية التزاماته / التزاماتها تجاه الحكومة المضيفة. وتنص أحد الأحكام الرئيسية في هذه الاتفاقية على عدم جواز إعادة اللاجئين، والمصطلح القانوني هو حظر الطرد أو الرد ـ إلى بلد يخشى/ أو تخشى فيه من التعرض للاضطهاد. كما أنها تحدد الأشخاص أو مجموعات الأشخاص الذين لا تشملهم هذه الاتفاقية.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن بروتوكول سنة 1967، أزال الحدود الجغرافية والزمنية الواردة في الاتفاقية الأصلية التي كان لا يسمح بموجبها إلا للأشخاص الذين أصبحوا لاجئين نتيجة لأحداث وقعت في أوروبا قبل 1 يناير 1951، بطلب الحصول على صفة اللاجئ.
كما تعرف المادة الأولى من الاتفاقية بوضوح من هو اللاجئ. إنه شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل / تستظل بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد.
ومن خلال تعريف اللاجئ وحقوقه، وبإسقاطه على « ساكنة تندوف » التي توصف من طرف الجزائر وضمن تقارير الأمين العام ب « اللاجئين الصحراويين »، يتضح أنه هذا المفهوم لا ينطبق على هذه » الفئة »، لاسيما وأن صحراويي تندوف لا تنطبق عليهم مجموعة من المعايير القانونية:
– صحراويي تندوف لم يتعرضوا للاضطهاد وليسوا مضطهدين، خاصة وأن أبناء عمومتهم وعائلاتهم يعيشون بالمناطق الجنوبية تحت السيادة المغربية. بل هناك من يتبنى الفكر الانفصالي ويعبر عن مواقفه وإن كانت مناوئة للوحدة الترابية المغربية.
– حقوق التنقل غير متوفرة في مخيمات تندوف، بحيث تخضع المخيمات لإدارة وإشراف الجيش الجزائري.
– اللاجئ بحسب الاتفاقية هو شخص مدني، والشخص الذي يستمر في الاشتراك في أنشطة عسكرية لا يمكن النظر في منحه اللجوء. وهذا الأمر مناقض لوضعية البوليساريو الذي يعتبر تنظيما عسكريا، بل يتوفر وبشكل علني على مليشيات عسكرية تقدر بالآلاف، وهو ما يطرح علامة استفهام حول هذا الوضع غير القانوني المخالف لقواعد القانون الدولي.
– ساكنة مخيمات تندوف تعيش أوضاع مأساوية نتيجة أزمة العطش التي أخذت هذه المرة منعطفا جديدا، إذ يخرج بين الفينة والأخرى بعض الشبان من داخل المخيمات عبر تقنية الفيديو، لمطالبة الجزائر والمنتظم الدولي بالتدخل لانقاد أرواح الأطفال والشيوخ وإيجاد حلول جذرية لهذه المحنة التي طالت، محنة جاءت لتضاعف معاناة أفراد وأسر، لا ينظر إليها إلا كأرقام إضافية في سوق السياسة والمصالح.
أما سؤال تمثيلية هؤلاء لساكنة الصحراء فهو مخالف للواقع بفعل عدة تحولات، سيما وأن تنظيم البوليساريو كما سبق الذكر هو تنظيم عسكري يعتمد في تركيبته وهيكلته تراتبية صارمة لا مجال فيها للاختيار أو الاختلاف وفق المبادئ الديمقراطية.
انطلاقا من المؤتمرات العامة التي عقدت من طرف تنظيم البوليساريو، فاختيار القادة وانتخاب الهياكل يتم بطريقة صورية ومحسومة سلفا، لاسيما وأن الجزائر تتدخل بشكل مباشر في اختيار وتعيين من يقود هذا التنظيم.
فمسألة التمثيلية مرتبط وفق المبادئ الديمقراطية بالاختيار، وهذا الميكانزيم غير موجود وغير متوفر في مخيمات تندوف، إذ يوظف القمع بطريقة مفرطة تجاه الأصوات الحرة بدعوى أن » التنظيم » في حالة حرب تارة، واتهام كل من يعبر عن مواقف مخالفة ومناقضة للقيادة بخدمة أجندة المغرب وتخوينهم وسجنهم تارة أخرى.
لكن، المفارقة الصارخة، تتجلى في كون أغلبية الصحراويين موجودون بالأقاليم الجنوبية للمغرب، وتشارك في الانتخابات المحلية والتشريعية بشكل دوري، وبالتالي، ادعاء تمثيلية الصحراويين من طرف البوليساريو مسألة مضللة وغير دقيقة.