وضع حساس ومعقد.. خيارات صعبة أمام القاهرة تجاه العدوان على غزة
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
القاهرة ـ مع تصاعد عدوان قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، تردد اسم معبر رفح الحدودي مع مصر كمرر إنساني وحيد للمدنيين، في حين يتحدث سياسيون وإعلاميون مصريون حول توجس مصري من محاولة تصفية القضية الفلسطينية عبر نقل سكان قطاع غزة إلى سيناء.
ووصف دبلوماسيون ومحللون سياسيون -تحدثوا للجزيرة نت- الموقف المصري مما يجري في قطاع غزة بأنه "حساس ومعقد ومرتبط بضوابط وحسابات الأمن القومي والعربي".
وأعلنت الرئاسة المصرية -اليوم الأحد- أن الرئيس عبد الفتاح السيسي ترأس اجتماعا لمجلس الأمن القومي بشأن التصعيد العسكري في غزة، وأن المجلس شدد على رفض واستهجان سياسة التهجير ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، وأن أمن مصر القومي خط أحمر ولا تهاون في حمايته.
كما أكد البيان الذي نشره المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية أنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا حل الدولتين، وأن مصر تواصل الاتصالات مع الشركاء الدوليين والإقليميين من أجل خفض التصعيد ووقف استهداف المدنيين، كما تكثف الاتصالات مع المنظمات الدولية الإغاثية والإقليمية من أجل إيصال المساعدات المطلوبة، ووجهت القاهرة دعوة لاستضافة قمة إقليمية دولية من أجل تناول تطورات ومستقبل القضية الفلسطينية.
المساعدات وبقاء سكان غزةيأتي ذلك بعدما ذكرت وسائل إعلام مصرية -أمس السبت- أن القاهرة رفضت عبور رعايا أجانب معبر رفح من قطاع غزة، واشترطت تزامن ذلك مع السماح بدخول مساعدات إغاثية إلى القطاع.
واصطفت عشرات الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية والتبرعات المقدمة للفلسطينيين، كما وصلت مساعدات من دول عربية وإسلامية إلى مطار العريش تمهيدا لدخول قطاع غزة، في حين أنشأ الجيش المصري جدارا أسمنتيا عازلا بطول الحدود، كما أظهرت مقاطع فيديو بثها ناشطون على مواقع التواصل تقاطر آليات عسكرية باتجاه مدينة رفح المصرية.
وخلال حفل عسكري -الخميس الماضي- شدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على ضرورة أن يبقى أهالي غزة "صامدين وموجودين على أراضيهم"، مؤكدا أن هناك مخاطر تهدد بتصفية القضية الفلسطينية، ودعا طرفي الصراع للعودة فورا للمسار التفاوضي وضبط النفس، مؤكدا أن الأمن القومي لبلاده هو "مسؤوليته الأساسية".
يأتي ذلك في الوقت الذي قالت فيه القناة الـ12 الإسرائيلية -أمس السبت- إن العلاقات بين مصر وإسرائيل وصلت إلى نقطة حرجة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، وإن تدهور العلاقات قد يتطور نتيجة التصريحات الإسرائيلية غير المسؤولة بمغادرة أهالي غزة إلى مصر، ونشر معلومات غير واضحة بأن مصر حذرت إسرائيل من عملية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وأردفت القناة أن تفضيل إسرائيل لوسيط عربي آخر غير مصر قد يسهم بتدهور العلاقات بين الطرفين، لا سيما مع تدهور الوضع الإنساني في غزة الذي قد يضغط على القاهرة لاتخاذ خطوات ضد إسرائيل.
بصيص أملفي هذا السياق، أعرب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي عن أمله أن يحقق الجهد المصري الدور المطلوب، بأن "يضيء بصيص أمل للفلسطينيين في غزة.. فكل الخدمات منقطعة وهو شيء لا إنساني"، وفق تعبيره.
ولفت الدبلوماسي المصري إلى أن هناك استهدافا للصحفيين من الجزيرة ورويترز، وهو أمر بلا تفسير ولا تبرير، حيث إن استمرار العنف كارثة إنسانية لا يمكن تحملها.
وأشار زكي -في تصريحات صحفية ومتلفزة- إلى أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يستمع اليوم في مصر إلى ما يجب أن يسمعه، مؤكدا أن المواقف العربية تصب في نفس الاتجاه وهو ما يعزز الموقف الفلسطيني.
من جهته، رأى السفير رخا أحمد حسن مساعد وزير الخارجية المصري سابقا، أن مصر تتعامل مع التطورات بحساسية شديدة، فهي ترى ضرورة إنهاء الاحتلال باعتباره أمرا غير مشروع، في حين أن مقاومة المحتل تبقى أمرا يكفله القانون الدولي.
وفي حديثه للجزيرة نت، اعتبر السفير السابق أن عملية طوفان الأقصى "رسالة تحذير قوي لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة"، وتأكيدا على أن الرهان على القوة وحدها لن يحقق الأمن لإسرائيل.
جهود في محاور عدةمن ناحيته، ثمّن السفير عبد الله الأشعل مساعد وزير الخارجية المصري سابقا، دور القاهرة في التعامل مع مجمل التطورات.
وفي حديثه للجزيرة نت، أعرب الأشعل عن توقعاته بألا تنجح مساعي مصر لتحقيق التهدئة هذه المرة، موضحا أن إسرائيل -بعد أن نجحت المقاومة في كسر هيبتها- صارت ثورا هائجا يصعب احتواؤه، ولن تقبل بتهدئة كالسابق في ظل دعم غربي هائل لها.
ويعتقد الأشعل أن عملية "طوفان الأقصى" أسعدت -إلى جانب الشعوب العربية والإسلامية- أنظمة إقليمية كانت تعاني من غطرسة حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة، وإن كان الأمر قد بقي أسير الغرف المغلقة، خصوصا في دول الجوار، بحسب وصفه.
بدوره، قال المحلل السياسي وأستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة الإسكندرية أحمد عادل أنور، إن القاهرة تبذل جهودا كبيرة لتجنيب مواطني غزة دفع فاتورة المواجهة الحالية، وتهدف بذلك الوصول للتهدئة ومنع انجرار الأمر إلى اجتياح بري إسرائيلي لغزة، معتبرا في تصريحات للجزيرة أن هذا السيناريو "قد يجر المنطقة لفوضى ترفضها مصر، لا سيما أن هناك قناعة مصرية بعدم امتلاك إسرائيل خطة لليوم التالي حال سيطرت على غزة".
ويرى الأكاديمي المصري أن جهود بلاده مستمرة في محاور عدة، أهمها تكثيف الاتصالات مع قوى إقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا والأردن ودول أوروبا، لتخفيف التوتر والوصول لتهدئة دائمة، تضمن السيطرة على الوضع.
رفض التهجير
وبشأن التصريحات الإسرائيلية وبعض الأصوات الغربية التي تتحدث عن نقل دائم أو مؤقت لسكان قطاع غزة إلى سيناء، أكد السفير رخا أحمد حسن موقف مصر الواضح والرافض لفكرة توطين الفلسطينيين في سيناء، مهما كانت الضغوط الإسرائيلية والغربية، وقال إنها تعني تصفية القضية الفلسطينية.
بينما ينظر السفير عبد الله الأشعل بتقدير لرفض مصر الحاسم لسيناريو توطين أهالي غزة في سيناء، مهما كانت الإغراءات، مشيرا إلى أنها نجحت في إيجاد مناخ أممي رافض لهذا السيناريو.
أما أحمد عادل أنور، فيرى أن موقف مصر تحكمه خطوط حمراء، تتمثل في رفض داخلي لأي توطين للفلسطينيين في سيناء، مضيفا "هذا الأمر عرض على مصر كثيرا، مقابل إغراءات شتى، ورفضته جملة وتفصيلا، بدون تردد" وفق تعبيره.
إدخال المساعدات
وفي سياق الجهود المصرية لإدخال المساعدات الإغاثية لسكان قطاع غزة، لفت السفير رخا إلى أن جهود مصر مستمرة بالتنسيق مع عشرات الدول لتأمين وصول المساعدات الإنسانية لغزة، وتواصل القاهرة اتصالاتها بكل الوسائل لمنع كارثة إنسانية.
بدوره أوضح الأشعل أن هناك إصرارا على إدخال المعونات الإنسانية للقطاع، ونجحت مصر في إيجاد اصطفاف دولي لتأمين دخولها، بعد تفاهمات مع الأميركيين وإسرائيل لتأمين دخول الأسرى الأجانب من قطاع غزة، مقابل ضمان ممر آمن لدخول المساعدات لغزة، رفضته إسرائيل في البداية، حتى تنجح في مخططها لإبادة غزة، والقضاء على المقاومة لو سنحت لها الفرصة.
من جهته، قال الأكاديمي أحمد عادل أنور إن مصر تجري اتصالات ومفاوضات مع الجانب الأميركي لإنشاء ممر آمن لدخول المساعدات الإنسانية، ومنع إسرائيل من قصف الجانب الفلسطيني من معبر رفح مجددا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: القضیة الفلسطینیة قطاع غزة أن هناک إلى أن
إقرأ أيضاً:
استراتيجية إسرائيل تجاه إيران ومحور المقاومة
د. هيثم مزاحم **
كان الصراع الإيراني الإسرائيلي يجري خلال العقود الماضية بصورة غير مُباشرة أو عبر الحرب بالواسطة، التي كانت تلجأ لها إيران ضد إسرائيل من خلال حلفائها، مثل حزب الله وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي وغيرها من فصائل المقاومة، وكانت إسرائيل ترد ببعض العمليات الاستخباراتية والأمنية ضد إيران، من خلال اغتيال علماء نوويين، أو استهداف المنشآت النووية والعسكرية الحساسة بعمليات تفجير أو تخريب عبر القرصنة الإلكترونية.
لكن في السنوات الأخيرة، وخاصةً بعد هجوم "طوفان الأقصى"- الذي نفذته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023- قرَّرت إسرائيل الرد على إيران بشكل مباشر واستهداف قواتها وقواعدها وقادة الحرس الثوري في سوريا، وصولًا إلى قصف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال القائد في قوة القدس التابعة لحرس الثورة الجنرال زاهدي وستة آخرين من قادة الحرس، ثم اغتيال قائد حركة حماس إسماعيل هنية داخل طهران؛ الأمر الذي أجبر طهران على الرد مرتين في إبريل وأكتوبر من العام 2024، بإطلاق مئات الصواريخ والمسيّرات على أهداف إسرائيلية عديدة. وقالت إسرائيل إنها ردت بقصف أنظمة الدفاع الجوي الصاروخي الروسية الصنع وبعض مصانع الصواريخ الباليستية ومصانع المسيّرات داخل إيران.
وقد سجّلت إسرائيل انتصارًا على إيران وحلفائها نتيجة احتلالها لقطاع غزة وتدمير البنى التحتية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي بنسبة تصل إلى 80% واغتيال قادة حماس وأبرزهم إسماعيل هنية وصالح العاروري ويحيى السنوار وبعض كبار قادة "كتائب القسام"؛ وصولًا إلى الضربات التي تلقاها "حزب الله" في لبنان من تفجير لأجهزة البيجر واللاسلكي واستشهاد العشرات من كوادره وإصابة بين 3 آلاف إلى 5 آلاف بينهم بجروح بعضها خطيرة وخاصة في الوجه والعينين والصدر والمعدة. ثم جاء اغتيال القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر وبعده اغتيال قادة قوة الرضوان بغارتين على مقريهما، وصولًا إلى اغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله ورئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، وعدد آخر من القادة العسكريين والأمنيين، من خلال شن غارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، علاوة على سقوط عدد من المسؤولين في حرس الثورة الإيرانية في هذه الغارات خلال تواجدهم مع قادة حزب الله.
كل ذلك أدى إلى خسائر كبيرة في محور المقاومة وضربات استراتيجية استباقية نفذتها إسرائيل، فيما بدت إيران عاجزة عن رد متناسب لردع إسرائيل، في حين أن طهران ومحور المقاومة قد فقدا قوة الردع بسبب التصريحات المتكررة لمسؤولين إيرانيين وقادة حزب الله حول عدم رغبتهم في حرب مفتوحة وشاملة مع إسرائيل من جهة، وفي عدم الرد المناسب والسريع على اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية من جهة أخرى. وهو ما فهمه بنيامين نتنياهو على أنه مؤشر ضعف لإيران ومحورها، فقام بزيادة الضغط العسكري على حزب الله في لبنان والمواقع الإيرانية ومواقع حزب الله والفصائل الحليفة في سوريا، وصولًا إلى اغتيال قادة حزب الله من خلال غارات استخدمت فيها مئات القنابل الخارقة للتحصينات على مقرات قيادة الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، ولاحقًا استهداف منشآت عسكرية حساسة في إيران ردًا على إطلاق الصواريخ والمسيّرات الإيرانية على مطارات وقواعد عسكرية في الكيان المحتل.
كان يُنظر إلى نتنياهو- على مدار أعوام حكمه السابقة لعملية طوفان الأقصى- باعتباره يكره المخاطرة ويرتدع عن الحروب. لكن نتنياهو اكتشف أن الضغط العسكري الأقوى يُحقّق أرباحًا استراتيجية كبيرة جدًا. وبعد أن اتضح حجم الصدمة من دخول "حماس" غلاف غزة وأداء جيش الاحتلال الإسرائيلي المخجل، في 7 أكتوبر 2023، هرب نتنياهو من المسؤولية عن الكارثة، وتبرَّأ من تخوُّفاته، وصادق على خطوات عسكرية وأمنية كانت تُعتبر سابقًا كارثية وربما انتحارية، من وجهة نظره. إذ قام باحتلال وتدمير قطاع غزة، وقتل أكثر من 50 ألفًا من المدنيين الفلسطينيين، وقام بتطهير عرقي في شمال قطاع غزة، وبإلحاق ضرر كبير جدًا ببنية حزب الله التنظيمية والعسكرية في لبنان، وقتل وجرح آلاف المدنيين اللبنانيين، واجتاح القرى الأمامية في جنوب لبنان، وهدم القرى الجنوبية ودمَّر أجزاءً كبيرة من مُدن الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وهجّر سكان هذه المناطق البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، وقصف اليمن وإيران، وقام بتهجير الفلسطينيين من غور الأردن في الضفة الغربية، إضافة إلى قصف جوي من الجو في جنين وطولكرم. إضافة إلى إحياء الأفكار بشأن إلغاء فك الارتباط الإسرائيلي مع قطاع غزة؛ حيث باتت فكرة الاستيطان مجددًا في القطاع مدعومة داخل حكومته المتطرفة بصورة واسعة، وأضحى الائتلاف الحكومي الإسرائيلي ينظر إليها كخطط عملية.
وهناك رغبة كبيرة لدى اليمين القومي والديني الإسرائيلي في التوسّع في منطقة الشرق الأوسط، ولدى نتنياهو شريك سيكون دعمه لخطوات كهذه مصيريًا. إنه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب. ويُتوقع أن تكون الإدارة الجديدة في واشنطن مُتساهلة مع طموحات إسرائيل التوسّعية. وقد شكر نتنياهو مؤخرًا ترامب على اعترافه بضم الجولان السوري المحتل إلى الكيان الإسرائيلي سنة 2019.
وبحسب المراقبين الإسرائيليين، فإن نتنياهو يُريد أن يَذكُره التاريخ كمن حقّق فكرة "إسرائيل الكبرى". لذلك، سيحاول الإصرار على السيطرة على شمال غزة، ولن يُسارع في الانسحاب من المناطق الجديدة التي احتلها في الجولان السوري وفي جبل الشيخ وريف دمشق، والتي يُمكن أن يتوسّع هذا الاحتلال للأراضي السورية من خلال سيناريوهات مُعيّنة، خاصةً وأن قوات الاحتلال الإسرائيلي تبعد نحو 20 كيلومترًا فقط عن العاصمة دمشق، وعينها على احتلال الجنوب السوري في درعا والسويداء وصولًا إلى الحدود السورية الأردنية، تحت ذريعة حماية الأقلية الدرزية ومنع أي تهديد جهادي للنظام الأردني.
يكشف بعض المحللين الإسرائيليين أن الإيرانيين قد طلبوا من قائد حركة "حماس"، يحيى السنوار، أن ينتظر قبل تنفيذ أي عملية عسكرية كبيرة ضد إسرائيل؛ وذلك نظرًا إلى الوقت الذي تحتاج إليه إيران وحلفاؤها للاستعداد لتنفيذها. لكن السنوار اختار الشروع في تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" بحجة أنها عملية فلسطينية؛ الأمر الذي "أجبر" الإيرانيين على محاولة تحقيق توازن بين مسألتَي "الدفاع عن فلسطين" و"منع التصعيد" الكبير مع الكيان. لكن إسرائيل قامت بالرد بحرب إبادة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ الأمر الذي دفع الإيرانيين إلى استنتاج أن التورُّط بصورة أعمق في الحرب سيكون خطًا، وأنه يجب محاولة وقفها في ظل النتائج الكارثية على "حماس" و"حزب الله". وقد تم نقل هذه الرسالة الإيرانية إلى محور المقاومة، لكن المشكلة تكمن في أن إسرائيل من جهتها لم تتوقف.
وبعد الضربة القاسية التي تعرض لها حزب الله- درة تاج محور المقاومة في المواجهة مع إسرائيل– جاء انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، ما أدى إلى انسحاب القوات الإيرانية وقوات حزب الله وحلفائهما من سوريا.
لقد صرفت إيران أكثر من 50 مليار دولار على مدار عقد من الزمن لحماية نظام الأسد، وقدمت مع حلفائها آلاف القتلى والجرحى للدفاع عن دمشق وحمص وحماة والساحل السوري واستعادة حلب وريفها وتدمُر ودير الزور وغيرها. كل ذلك ذهب هباءً بعد هجوم فصائل المعارضة المسلحة المدعومة تركيًّا على حلب وحماة وانسحاب الجيش السوري والقوات الروسية من المدن والبلدات والثكنات والمطارات من دون خوض أية مواجهات مع الفصائل المهاجِمة، إلى أن وصلت على أبواب حمص ودمشق، فأكمل الجيش السوري الانسحاب من المدن والبلدات في تسليم واضح دون أية مقاومة أو مُبررات عسكرية.
كما إن إيران لم يكن في إمكانها تقديم الدعم العسكري الكافي إلى نظام الأسد، بعد مقتل كبار قادة "الحرس الثوري" في سوريا في هجمات إسرائيلية دقيقة. ولم يكم بالإمكان إرسال تعزيزات كبيرة من جانب حزب الله بسبب انشغاله في المواجهة مع إسرائيل وتأهُّبه بعد سريان وقف إطلاق النار معها، فيما تعرضت الطائرات الإيرانية لحظر الوصول إلى سوريا ولبنان بفعل التهديد الإسرائيلي بإسقاطها، إضافة إلى استهداف الميليشيات العراقية من جانب الأمريكيين. وعجزت روسيا- الغارقة في وحل أوكرانيا- عن التدخل الحاسم لإنقاذ النظام، بسبب سحب معظم قواتها ومقاتلاتها من سوريا إلى أوكرانيا.
ويعتقد الإسرائيليون حاليًا أنهم في وضع تفوُّق استراتيجي غير مسبوق ولهم اليد العُليا في منطقة الشرق الأوسط بعد الضربات التي تلقاها محور المقاومة في غزة ولبنان وسوريا وإيران، ويجري الآن التركيز على استهداف المنشآت الحيوية في اليمن والتهديد باغتيال قادة أنصار الله الحوثيين، فيما يخشى العراق من عدوان إسرائيلي كبير يستهدف مواقع وقيادات الحشد الشعبي.
بدورها، تخشى إيران أن يستغل نتنياهو هذا التفوق الاستراتيجي وتآكل الردع الإيراني، وخاصة تراجع صلاحية التهديد بالقوة الصاروخية لحزب الله، كي يقوم باستهداف المنشآت النووية والمصانع العسكرية داخل الجمهورية الإسلامية، مُستفيدًا من الغطاء الذي قد يمنحه ترامب لهكذا عدوان، وهو قد صرّح قبل الانتخابات بأن على إسرائيل أن تُنجِز هذه المهمة العدوانية.
ويُراهن الإسرائيليون على حقيقة أن حزب الله يُكرِّس جهوده الحالية على إعادة الإعمار في لبنان وعلى ترميم قدراته العسكرية وبُناه التنظيمية، وأن الإيرانيين يحتاجون إلى 4 أعوام من التهدئة لإعادة البناء والتعافي، ليس فقط عسكريًا؛ بل أيضًا معنويًا وسياسيًا، وعلى صعيد الوعي أيضًا؛ إذ بذلت إيران جهدها لتشكيل صورة "محور المقاومة"، لكن هذه الصورة تشوَّهت وبدت إيران ضعيفة ومُتردِّدة تتخبط بتصريحات وقرارات بُنيت على حسابات استراتيجية خاطئة وتقديرات معدومة لقوة العدو الإسرائيلي وحجم الدعم الأمريكي والغربي له، فيما كانت إسرائيل تتمتع بتفوُّق تكنولوجي واختراق استخباري للمحور مكَّنها من توجيه ضربات استباقية له، والحساب الدقيق للخطوات المُتوقَّعة للمحور، بناءً على حجم المعلومات التي تملكها وعمق الفهم لاستراتيجية إيران ومكامن قوتها وضعفها.
وقد وصفت شخصيةٌ إيرانيةٌ الوضع بأنه "الفترة الأصعب في تاريخ الجمهورية الإسلامية." فيما خلص بعض المراقبين إلى أنه مع خروج حزب الله وإيران من سوريا، بات أُفق مشروع المقاومة مسدودًا وإيران مُضطرة إلى إعادة النظر بالكامل في عقيدتها الدفاعية، خاصةً بعد خسارة طريق الإمداد البري من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان