قصة قصيرة : ذاكرة من الخذلان
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
حين فتحت النافذة ونظرت إلى شجرة الشريش القابعة عند زاوية الجدار الشمالي لبيتهم، لمحت الجفاف الذي بدأ يغزوها بعد أن تساقطت معظم أوراقها، وظلت عارية إلا من بضع وريقات صفراء باهتة، وجدت نفسها تتماهى مع الشجرة الجافة، تبدو روحها أيضًا تعيش حالة من الذبول والانكسار، تشعر بضيق غريب يملأ جوانبها، رغم أنها راكمت على حياتها سنوات عدة من الصبر والتناسي، غير أنها اختارت اليوم لتظهر وتذكرها بكل التفاصيل التي قبعت في ذاكرتها لعدة سنوات عجاف من الألم والوجع.
تقف اليوم على مشارف الأربعين، يبدو الرقم مخيفًا وثقيلا، يشعرها بضآلتها ويذكرها بالسنون التي رحلت بلا عودة، ما زالت تحتفظ بتلك الأوراق التي رسمت عليها التشكيل العائلي الذي طالما تمنته، عائلة مكونة من أب وأم ومجموعة من الفتيات الصغيرات والصبيان يحيطون بهم، أرادت أن يشاركها قيس تفاصيل حياتها، أحبته بكل جوارحها، كانت تراه فارسها القادم لينتشلها من قاع بيتها الممزوج بكم كبير من الصراعات والصدامات التي لا تنتهي.
طوال خمس سنوات، كانت تنتظر خاتمه الذي سيزين بنصرها الأيسر، والعقد الذي سيعقد حياتهما بالسعادة، كل تفاصيل الخمس سنوات أصبحت باهتة في ذاكرتها فرحها سعادتها أحلامها، ولم يبق منها عميقًا راسخًا غير ذكرى الخطوبة التي لم تكتمل، والدموع التي تصاعدت من قلبها المكلوم لعينيها والذي استمر لمدة لا تتذكرها.
نظرت إلى أوراق الشريشة الصفراء التي بدأت تتساقط كما تساقطت لبنات قلبها في ذلك اليوم، ما زالت تذكر يوم زواجه، شعرت بغصة اتسعت بلا توقف، وحرارة تصاعدت من جوفها، أحست ببوادر حمى تجوس داخلها، في تلك الليلة لم تنم، غزتها مجموعة من الأفكار والصور، وبلل الدمع جوانب وسادتها.
برحيل شقيقاتها من بيت الأسرة كان قلبها يفقد دفقات من الأمن والفرح، وتنتابها حالة من الجمود تحاول مقاومتها بالانغماس في تأدية مجموعة من الأعمال المنزلية الروتينية.
الشرخ الكبير دفعها لمعايشة الحياة بروتين واحد لا تحيد عنه، لم تعد تفكر بتشكيل أسرة ولا بملامح فرحها الذي خططت له في سنواتها المنصرمة، واهتمت بكل تفصيل من تفاصيله، لم تعد تغريها الأفراح التي تقام، ولا الحفلات التي تعقد في نطاق الأسرة، بل لعلها أصبحت تميل لتقديم التعزية وتحاول جاهدة عدم تفويت أداء واجب عزاء من قريب أو من بعيد.
تذكرها هذه الشريشة بعمر السنوات التي تقع بين انتظارها ليوم خطوبتها ويومها هذا، ما زالت تفاصيل زراعتها ماثلة أمامها، تذكرها كأنها أمامها نبتة صغيرة بين يديها، وضعتها بكل حنان في الحفرة الصغيرة التي نبشتها، أغدقت عليها الكثير من الحب والحنان، لم تهملها إلا في يوم زواجه حين غزتها الحمى لأسبوع كامل.
بكت على حالها وحال الشريشة التي بدأ الاصفرار يعتريها، شعرت بالقرب منها، وأن هذا الاصفرار يعكس مشاركة وجدانية لحزنها الداخلي المستعر، تذكرت بأنها جمعت كل تلك الأوراق التي قضمت أجزاء كبيرة من عمرها وحياتها وحرقتها ذات يوم، توقعت بأن استعارها سيقلل من حجم النار المشتعلة بداخلها، غير أن تلك النار بشكل أو بآخر اتحدت مع نار صدرها، وأنتجت حممًا حارقة، كسرت قلبها وأسالت دموع عينيها بلا توقف.
ما زالت تذكر خطواتهم الصغيرة منذ الطفولة، البيت الذي ضم مراحل حياتهم: طفولتهم، مراهقتهم، وأحلامهم، تحفظ الشوارع التي ركضوا فيها، والأوراق التي رسموا عليها، تحفظ خط قيس عن ظهر غيب، كان يجمع لها حبات البيذام من مزرعة العم مصبح، لم يكن يخاف من عاملهم البنجالي الذي يهدده، كان يشعر بالغبطة وهو يرى حبات البيذام القانية بين يديها.
استطالت قامتهما معًا، وكبرا معًا تحت سقف بيت عائلي واحد، كانت تتمنى أن تتحول تلك الذكريات لقصص تُروى لأطفالهم في الليالي الشتوية الطويلة، فتمتد ضحكاتهم لتصل إلى كل زوايا البيت.
ما زالت تذكر الثياب التي ارتدتها في يوم الخطبة، كانت الفرحة الفضفاضة تحلق بها نحو سماوات عالية، عجزت عن النوم في تلك الليلة، كانت تنتظر الصباح بفارغ الصبر، تتحرك بخفة وخفقات قلبها تتسارع كلما اقترب المساء، كانت تعد الدقائق والثواني وتنتظر البشارة الكبيرة، غير أن تغير وجه والدها، والدموع في عين أختها، بدلا فرحتها إلى حالة من الاضطراب كسرت قلبها حين سمعت عبارات مشوشة عن خطبة لم تكتمل.
الضوضاء التي سكنت روحها أوجعتها، وسرى في داخلها دبيب حاد مؤلم، دفعها لحالة من الصمت انتهت بانفجار كبير خرج على هيئة دموع غزيرة لم تتوقف، وما زالت تزورها بين الفينة الأخرى.
تشابهت تفاصيل أيامها اللاحقة لم يزد وجعها ولم تقل حدته، غير أن زواج قيس حطم ما تبقى من شظايا روحها، وأصابها بحالة من الوهن جعلها تعيش أيامها بلا أمل.
نظرت إلى شجرة الشريش مرة أخرى، لاحظت جماعات كثيرة من النمل تخرج وتدخل من تشققات حادة وعميقة في جذعها، كما أصبحت الكثير من أغصانها خالية من الأوراق والحياة، رغم كميات الماء الكثيرة التي تدلقها عليها يومًيا، إلا أن التيبس والجفاف طال بقية الأغصان، شعرت بالحزن من أجلها، أحست بوجعها الذي ردمته تحت ظلها لسنوات طويلة ينهض كمارد ضخم مخيف يذكرها بالسنوات التي رحلت من حياتها، بقيس الذي نسي وعده ورحل ليشكل تكوينًا أسريًا جديدًا بعيدًا عن كل أحلامهم المشتركة، سنواتها العجاف التي تهرول بسرعة، شجرتها التي ترحل بهدوء، أحست بحرارة تسري في داخلها، سقطت دمعة كبيرة لم تحس بطعمها، تحركت نحو غرفتها، وكانت خطواتها ثقيلة غير منتظمة.
أمل المغيزوية
كاتبة عمانية
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
"لن تنتهي بكبسة زر".. باحث: محادثات إنهاء الحرب في أوكرانيا لن تكون قصيرة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكد صدقي زاهر عثمان باحث في الشؤون الروسية، أن هناك تفاؤلًا أكبر هذه المرة بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الفرقاء في الأزمة الحالية، مشيرًا إلى أن المحادثات التي تجري حاليًا أخذت مسارًا معينًا يبعث على الأمل.
وأوضح، أن هذه المفاوضات لن تكون سريعة وأن الحرب أو العمليات العسكرية لن تنتهي فورًا بضغطة زر، ولكن هناك تفاؤلًا بمحادثات معينة.
وأشار في تصريحات مع الإعلامية هاجر جلال، مقدمة برنامج "منتصف النهار"، عبر قناة "القاهرة الإخبارية"، إلى أن الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الأمريكي والروسي كان بشأن وقف استهداف منشآت الطاقة، رغم أن الاتفاق لم يكن رسميًا وكان هناك انتهاكات من كلا الطرفين بعد هذا الحديث.
وذكر، أن الطرف الروسي أبدى التزامًا شفهيًا بعدم استهداف منشآت الطاقة، وهو ما يعكس جدية روسيا في الالتزام بما تم الاتفاق عليه مع الرئيس الأمريكي، ورغم التوترات الأوكرانية، فقد أكد أن الرئيس الروسي بوتين قد أمر باستمرار الالتزام بعدم استهداف المنشآت للطاقة، وهو ما يعد خطوة مهمة نحو الاستقرار في هذا المجال.
وأوضح أن التفاؤل الثاني يتعلق بتخفيف حدة العمليات العسكرية في جبهة البحر الأسود، التي كانت من أكثر الجبهات سخونة منذ بداية العمليات العسكرية في 2022، ففي السابق، كانت هناك معارك عنيفة واستهدافات لموانئ مثل ميناء أوديسا وجزيرة الثعابين، فضلاً عن محاولات إنزال بحري.
وواصل: "ومع بداية عام 2024، بدأ الوضع في البحر الأسود يهدأ، وأصبحت المحادثات الجارية في الرياض تتطرق إلى إنهاء العمليات العسكرية البحرية في جميع الجبهات".