جريدة الوطن:
2025-02-21@00:41:23 GMT

قصة قصيرة : ذاكرة من الخذلان

تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT

قصة قصيرة : ذاكرة من الخذلان

حين فتحت النافذة ونظرت إلى شجرة الشريش القابعة عند زاوية الجدار الشمالي لبيتهم، لمحت الجفاف الذي بدأ يغزوها بعد أن تساقطت معظم أوراقها، وظلت عارية إلا من بضع وريقات صفراء باهتة، وجدت نفسها تتماهى مع الشجرة الجافة، تبدو روحها أيضًا تعيش حالة من الذبول والانكسار، تشعر بضيق غريب يملأ جوانبها، رغم أنها راكمت على حياتها سنوات عدة من الصبر والتناسي، غير أنها اختارت اليوم لتظهر وتذكرها بكل التفاصيل التي قبعت في ذاكرتها لعدة سنوات عجاف من الألم والوجع.


تقف اليوم على مشارف الأربعين، يبدو الرقم مخيفًا وثقيلا، يشعرها بضآلتها ويذكرها بالسنون التي رحلت بلا عودة، ما زالت تحتفظ بتلك الأوراق التي رسمت عليها التشكيل العائلي الذي طالما تمنته، عائلة مكونة من أب وأم ومجموعة من الفتيات الصغيرات والصبيان يحيطون بهم، أرادت أن يشاركها قيس تفاصيل حياتها، أحبته بكل جوارحها، كانت تراه فارسها القادم لينتشلها من قاع بيتها الممزوج بكم كبير من الصراعات والصدامات التي لا تنتهي.
طوال خمس سنوات، كانت تنتظر خاتمه الذي سيزين بنصرها الأيسر، والعقد الذي سيعقد حياتهما بالسعادة، كل تفاصيل الخمس سنوات أصبحت باهتة في ذاكرتها فرحها سعادتها أحلامها، ولم يبق منها عميقًا راسخًا غير ذكرى الخطوبة التي لم تكتمل، والدموع التي تصاعدت من قلبها المكلوم لعينيها والذي استمر لمدة لا تتذكرها.
نظرت إلى أوراق الشريشة الصفراء التي بدأت تتساقط كما تساقطت لبنات قلبها في ذلك اليوم، ما زالت تذكر يوم زواجه، شعرت بغصة اتسعت بلا توقف، وحرارة تصاعدت من جوفها، أحست ببوادر حمى تجوس داخلها، في تلك الليلة لم تنم، غزتها مجموعة من الأفكار والصور، وبلل الدمع جوانب وسادتها.
برحيل شقيقاتها من بيت الأسرة كان قلبها يفقد دفقات من الأمن والفرح، وتنتابها حالة من الجمود تحاول مقاومتها بالانغماس في تأدية مجموعة من الأعمال المنزلية الروتينية.
الشرخ الكبير دفعها لمعايشة الحياة بروتين واحد لا تحيد عنه، لم تعد تفكر بتشكيل أسرة ولا بملامح فرحها الذي خططت له في سنواتها المنصرمة، واهتمت بكل تفصيل من تفاصيله، لم تعد تغريها الأفراح التي تقام، ولا الحفلات التي تعقد في نطاق الأسرة، بل لعلها أصبحت تميل لتقديم التعزية وتحاول جاهدة عدم تفويت أداء واجب عزاء من قريب أو من بعيد.
تذكرها هذه الشريشة بعمر السنوات التي تقع بين انتظارها ليوم خطوبتها ويومها هذا، ما زالت تفاصيل زراعتها ماثلة أمامها، تذكرها كأنها أمامها نبتة صغيرة بين يديها، وضعتها بكل حنان في الحفرة الصغيرة التي نبشتها، أغدقت عليها الكثير من الحب والحنان، لم تهملها إلا في يوم زواجه حين غزتها الحمى لأسبوع كامل.
بكت على حالها وحال الشريشة التي بدأ الاصفرار يعتريها، شعرت بالقرب منها، وأن هذا الاصفرار يعكس مشاركة وجدانية لحزنها الداخلي المستعر، تذكرت بأنها جمعت كل تلك الأوراق التي قضمت أجزاء كبيرة من عمرها وحياتها وحرقتها ذات يوم، توقعت بأن استعارها سيقلل من حجم النار المشتعلة بداخلها، غير أن تلك النار بشكل أو بآخر اتحدت مع نار صدرها، وأنتجت حممًا حارقة، كسرت قلبها وأسالت دموع عينيها بلا توقف.
ما زالت تذكر خطواتهم الصغيرة منذ الطفولة، البيت الذي ضم مراحل حياتهم: طفولتهم، مراهقتهم، وأحلامهم، تحفظ الشوارع التي ركضوا فيها، والأوراق التي رسموا عليها، تحفظ خط قيس عن ظهر غيب، كان يجمع لها حبات البيذام من مزرعة العم مصبح، لم يكن يخاف من عاملهم البنجالي الذي يهدده، كان يشعر بالغبطة وهو يرى حبات البيذام القانية بين يديها.
استطالت قامتهما معًا، وكبرا معًا تحت سقف بيت عائلي واحد، كانت تتمنى أن تتحول تلك الذكريات لقصص تُروى لأطفالهم في الليالي الشتوية الطويلة، فتمتد ضحكاتهم لتصل إلى كل زوايا البيت.
ما زالت تذكر الثياب التي ارتدتها في يوم الخطبة، كانت الفرحة الفضفاضة تحلق بها نحو سماوات عالية، عجزت عن النوم في تلك الليلة، كانت تنتظر الصباح بفارغ الصبر، تتحرك بخفة وخفقات قلبها تتسارع كلما اقترب المساء، كانت تعد الدقائق والثواني وتنتظر البشارة الكبيرة، غير أن تغير وجه والدها، والدموع في عين أختها، بدلا فرحتها إلى حالة من الاضطراب كسرت قلبها حين سمعت عبارات مشوشة عن خطبة لم تكتمل.
الضوضاء التي سكنت روحها أوجعتها، وسرى في داخلها دبيب حاد مؤلم، دفعها لحالة من الصمت انتهت بانفجار كبير خرج على هيئة دموع غزيرة لم تتوقف، وما زالت تزورها بين الفينة الأخرى.
تشابهت تفاصيل أيامها اللاحقة لم يزد وجعها ولم تقل حدته، غير أن زواج قيس حطم ما تبقى من شظايا روحها، وأصابها بحالة من الوهن جعلها تعيش أيامها بلا أمل.
نظرت إلى شجرة الشريش مرة أخرى، لاحظت جماعات كثيرة من النمل تخرج وتدخل من تشققات حادة وعميقة في جذعها، كما أصبحت الكثير من أغصانها خالية من الأوراق والحياة، رغم كميات الماء الكثيرة التي تدلقها عليها يومًيا، إلا أن التيبس والجفاف طال بقية الأغصان، شعرت بالحزن من أجلها، أحست بوجعها الذي ردمته تحت ظلها لسنوات طويلة ينهض كمارد ضخم مخيف يذكرها بالسنوات التي رحلت من حياتها، بقيس الذي نسي وعده ورحل ليشكل تكوينًا أسريًا جديدًا بعيدًا عن كل أحلامهم المشتركة، سنواتها العجاف التي تهرول بسرعة، شجرتها التي ترحل بهدوء، أحست بحرارة تسري في داخلها، سقطت دمعة كبيرة لم تحس بطعمها، تحركت نحو غرفتها، وكانت خطواتها ثقيلة غير منتظمة.

أمل المغيزوية
كاتبة عمانية

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ما زالت غیر أن

إقرأ أيضاً:

ريلزات ومقاطع فيديو قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد: غزة ستنهض من تحت الركام.. والشعب الفلسطيني لا يعرف الانكسار

الثورة / هاشم السريحي
وسط الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب في غزة، يواصل أهلها كتابة فصل جديد من الصمود والتحدي، رافضين أن يكون الخراب نهايةً لقصتهم. في شوارع المدينة التي دُمّرت أجزاء كبيرة منها، تظهر مقاطع الفيديو والريلزات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد تعكس روحًا لا تُقهر؛ رجال ونساء، شباب وأطفال، يرفعون الحجارة، يصلحون النوافذ، يعيدون طلاء الجدران، ويبنون من جديد رغم شُحّ الإمكانيات.
إرادة الحياة في وجه الحصار والموت
في كل زاوية من غزة، مشهد يروي قصة صمود. ترى رجلاً يرمّم بيته بيده، يرفع سقفًا جديدًا فوق جدران قاومت القصف. أطفالٌ يركضون بين الأنقاض، يضحكون ويلعبون وكأنهم يعلنون أن الحياة أقوى من الدمار. أصحاب المحال التجارية يعيدون فتح متاجرهم، والنجّارون والحدّادون يعملون بلا كلل لإصلاح ما تكسّر، وكأنهم يرسلون رسالة واضحة: “نحن هنا… ولن نرحل”.
رفض التهجير… غزة باقية وأهلها صامدون
لم تكن هذه الحرب الأولى، وربما لن تكون الأخيرة، لكن شيئًا واحدًا ثابت: أهل غزة يرفضون التهجير، يتمسكون بأرضهم كما يتمسك الجذر العميق بالتربة. منازلهم ليست مجرد حجارة، بل ذاكرة وهوية، ودمارها لا يعني فقدان الانتماء. يعيدون البناء ليس لأنهم مجبرون، بل لأنهم يؤمنون أن غزة، رغم الجراح، ستظل وطنهم الذي لا بديل له.
إنها رسالة إلى العالم بأن أهل غزة لا ينتظرون الشفقة، بل يدافعون عن حقهم في الحياة بكرامة. وكما أعادوا بناء بيوتهم مرارًا، سيعيدون بناء وطنهم في كل مرة، لأنهم ببساطة… لا يعرفون الانكسار.

مقالات مشابهة

  • روسيا تستعيد 64% من الأراضي التي سيطرت عليها أوكرانيا في كورسك
  • ما هي برامج الهجرة التي أوقفها ترامب.. تعرف عليها؟
  • محكمة الطبيب حسام أبو صفية! (قصة قصيرة من رعب المعركة)
  • شاهد | ذاكرة المكان … حين تسبق العبرات العبارات
  • أسير حرب أوكراني: التنازل عن الأرض يعني التخلي عن الأوكرانيين الذي يعيشون عليها
  • بوتين: المحادثات الروسية الأمريكية التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض كانت “إيجابية”.. ويسعدني لقاء ترامب
  • انهكوه تعذيبا وأهملوه طبيا ...وفاة أسير في سجون المليشيا التي يشرف عليها عبدالقادر المرتضى
  • داليا مصطفى بعد أخبار انفصالها عن شريف سلامة: «أنا بخير وبطمن الناس»
  • أرشيف ذاكرة ودور سياسي فعّال لمضافات الدروز بالسويداء
  • ريلزات ومقاطع فيديو قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد: غزة ستنهض من تحت الركام.. والشعب الفلسطيني لا يعرف الانكسار