جريدة الوطن:
2025-01-15@21:57:45 GMT

قصة قصيرة : ذاكرة من الخذلان

تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT

قصة قصيرة : ذاكرة من الخذلان

حين فتحت النافذة ونظرت إلى شجرة الشريش القابعة عند زاوية الجدار الشمالي لبيتهم، لمحت الجفاف الذي بدأ يغزوها بعد أن تساقطت معظم أوراقها، وظلت عارية إلا من بضع وريقات صفراء باهتة، وجدت نفسها تتماهى مع الشجرة الجافة، تبدو روحها أيضًا تعيش حالة من الذبول والانكسار، تشعر بضيق غريب يملأ جوانبها، رغم أنها راكمت على حياتها سنوات عدة من الصبر والتناسي، غير أنها اختارت اليوم لتظهر وتذكرها بكل التفاصيل التي قبعت في ذاكرتها لعدة سنوات عجاف من الألم والوجع.


تقف اليوم على مشارف الأربعين، يبدو الرقم مخيفًا وثقيلا، يشعرها بضآلتها ويذكرها بالسنون التي رحلت بلا عودة، ما زالت تحتفظ بتلك الأوراق التي رسمت عليها التشكيل العائلي الذي طالما تمنته، عائلة مكونة من أب وأم ومجموعة من الفتيات الصغيرات والصبيان يحيطون بهم، أرادت أن يشاركها قيس تفاصيل حياتها، أحبته بكل جوارحها، كانت تراه فارسها القادم لينتشلها من قاع بيتها الممزوج بكم كبير من الصراعات والصدامات التي لا تنتهي.
طوال خمس سنوات، كانت تنتظر خاتمه الذي سيزين بنصرها الأيسر، والعقد الذي سيعقد حياتهما بالسعادة، كل تفاصيل الخمس سنوات أصبحت باهتة في ذاكرتها فرحها سعادتها أحلامها، ولم يبق منها عميقًا راسخًا غير ذكرى الخطوبة التي لم تكتمل، والدموع التي تصاعدت من قلبها المكلوم لعينيها والذي استمر لمدة لا تتذكرها.
نظرت إلى أوراق الشريشة الصفراء التي بدأت تتساقط كما تساقطت لبنات قلبها في ذلك اليوم، ما زالت تذكر يوم زواجه، شعرت بغصة اتسعت بلا توقف، وحرارة تصاعدت من جوفها، أحست ببوادر حمى تجوس داخلها، في تلك الليلة لم تنم، غزتها مجموعة من الأفكار والصور، وبلل الدمع جوانب وسادتها.
برحيل شقيقاتها من بيت الأسرة كان قلبها يفقد دفقات من الأمن والفرح، وتنتابها حالة من الجمود تحاول مقاومتها بالانغماس في تأدية مجموعة من الأعمال المنزلية الروتينية.
الشرخ الكبير دفعها لمعايشة الحياة بروتين واحد لا تحيد عنه، لم تعد تفكر بتشكيل أسرة ولا بملامح فرحها الذي خططت له في سنواتها المنصرمة، واهتمت بكل تفصيل من تفاصيله، لم تعد تغريها الأفراح التي تقام، ولا الحفلات التي تعقد في نطاق الأسرة، بل لعلها أصبحت تميل لتقديم التعزية وتحاول جاهدة عدم تفويت أداء واجب عزاء من قريب أو من بعيد.
تذكرها هذه الشريشة بعمر السنوات التي تقع بين انتظارها ليوم خطوبتها ويومها هذا، ما زالت تفاصيل زراعتها ماثلة أمامها، تذكرها كأنها أمامها نبتة صغيرة بين يديها، وضعتها بكل حنان في الحفرة الصغيرة التي نبشتها، أغدقت عليها الكثير من الحب والحنان، لم تهملها إلا في يوم زواجه حين غزتها الحمى لأسبوع كامل.
بكت على حالها وحال الشريشة التي بدأ الاصفرار يعتريها، شعرت بالقرب منها، وأن هذا الاصفرار يعكس مشاركة وجدانية لحزنها الداخلي المستعر، تذكرت بأنها جمعت كل تلك الأوراق التي قضمت أجزاء كبيرة من عمرها وحياتها وحرقتها ذات يوم، توقعت بأن استعارها سيقلل من حجم النار المشتعلة بداخلها، غير أن تلك النار بشكل أو بآخر اتحدت مع نار صدرها، وأنتجت حممًا حارقة، كسرت قلبها وأسالت دموع عينيها بلا توقف.
ما زالت تذكر خطواتهم الصغيرة منذ الطفولة، البيت الذي ضم مراحل حياتهم: طفولتهم، مراهقتهم، وأحلامهم، تحفظ الشوارع التي ركضوا فيها، والأوراق التي رسموا عليها، تحفظ خط قيس عن ظهر غيب، كان يجمع لها حبات البيذام من مزرعة العم مصبح، لم يكن يخاف من عاملهم البنجالي الذي يهدده، كان يشعر بالغبطة وهو يرى حبات البيذام القانية بين يديها.
استطالت قامتهما معًا، وكبرا معًا تحت سقف بيت عائلي واحد، كانت تتمنى أن تتحول تلك الذكريات لقصص تُروى لأطفالهم في الليالي الشتوية الطويلة، فتمتد ضحكاتهم لتصل إلى كل زوايا البيت.
ما زالت تذكر الثياب التي ارتدتها في يوم الخطبة، كانت الفرحة الفضفاضة تحلق بها نحو سماوات عالية، عجزت عن النوم في تلك الليلة، كانت تنتظر الصباح بفارغ الصبر، تتحرك بخفة وخفقات قلبها تتسارع كلما اقترب المساء، كانت تعد الدقائق والثواني وتنتظر البشارة الكبيرة، غير أن تغير وجه والدها، والدموع في عين أختها، بدلا فرحتها إلى حالة من الاضطراب كسرت قلبها حين سمعت عبارات مشوشة عن خطبة لم تكتمل.
الضوضاء التي سكنت روحها أوجعتها، وسرى في داخلها دبيب حاد مؤلم، دفعها لحالة من الصمت انتهت بانفجار كبير خرج على هيئة دموع غزيرة لم تتوقف، وما زالت تزورها بين الفينة الأخرى.
تشابهت تفاصيل أيامها اللاحقة لم يزد وجعها ولم تقل حدته، غير أن زواج قيس حطم ما تبقى من شظايا روحها، وأصابها بحالة من الوهن جعلها تعيش أيامها بلا أمل.
نظرت إلى شجرة الشريش مرة أخرى، لاحظت جماعات كثيرة من النمل تخرج وتدخل من تشققات حادة وعميقة في جذعها، كما أصبحت الكثير من أغصانها خالية من الأوراق والحياة، رغم كميات الماء الكثيرة التي تدلقها عليها يومًيا، إلا أن التيبس والجفاف طال بقية الأغصان، شعرت بالحزن من أجلها، أحست بوجعها الذي ردمته تحت ظلها لسنوات طويلة ينهض كمارد ضخم مخيف يذكرها بالسنوات التي رحلت من حياتها، بقيس الذي نسي وعده ورحل ليشكل تكوينًا أسريًا جديدًا بعيدًا عن كل أحلامهم المشتركة، سنواتها العجاف التي تهرول بسرعة، شجرتها التي ترحل بهدوء، أحست بحرارة تسري في داخلها، سقطت دمعة كبيرة لم تحس بطعمها، تحركت نحو غرفتها، وكانت خطواتها ثقيلة غير منتظمة.

أمل المغيزوية
كاتبة عمانية

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ما زالت غیر أن

إقرأ أيضاً:

مكتبة الإسكندرية تصدر عددًا جديدًا من "ذاكرة مصر"

 أصدرت مكتبة الإسكندرية العدد 55 من مجلة "ذاكرة مصر" والذي يتضمن أحداثًا وشخصيات بارزة، لم تحظ باهتمام واسع في تاريخ مصر الحديث بالإضافة إلى موضوعات أخرى متباينة. 

وقد خصص الدكتور أحمد زايد؛ مدير مكتبة الإسكندرية افتتاحية العدد، للحديث عن الطبيب المصري العالمي الدكتور مجدي يعقوب، بوصفه عنوانًا للنضارة الأخلاقية.

وشمل العدد مساهمات من كبار المتخصصين في تاريخ مصر، حيث تناول الدكتور هيثم الحاج علي "الهوية القومية المصرية والنهضة الثقافية في القرن التاسع عشر"، وتحدث الدكتور أحمد الفقي عن السجون المصرية في عصر محمد على باشا، واستعرض الباحث سامح عيد الوقف الخيري ودوره في دعم العلم والثقافة متخذا من الوقفية الفهمية نموذجًا، أما الدكتور أحمد منصور فقد تناول أول لجنة مصرية رسمية لمراجعة وضبط طباعة المصحف الشريف، وناقشت الدكتورة هند الشربيني سواقي الهدير أبرز المعالم الاثرية بالفيوم، واستعرض اللواء اركان حرب الدكتور محمد قشقوش دور المرأة المصرية ومسيرة التضحيات ولا سيما في نصر أكتوبر 1973. 

وشمل العدد أيضًا مقالا للباحث أيمن محمد عيد عن المدفعية الصاروخية وتأثيرها في مسرح العمليات أبان حرب أكتوبر 1973، واستعرض الدكتور رامي عطا صديق مسيرة الدكتور ميلاد حنا وهو رائد من رواد الثقافة والفكر في الذكرى المئوية لميلاده.

ومن ناحية أخرى، وفي إطار استعراض الشخصيات التاريخية المؤثرة، استعرضت الدكتورة عزة عزت مسيرة العالم الأثري محمود بك حمزة؛ أول مدير مصري للمتحف المصري بالتحرير، وتناول الباحث أحمد حسن عائلة خانكي وهي عائلة أرستقراطية مصرية ذات أصول أرمينية. أما الدكتور حسين عبد البصير فقد استعراض أصداء ملحمة الحرافيش للأديب الكبير نجيب محفوظ والتي عكست بعمق ودقة تحولات المجتمع المصري عبر الاجيال، وتحدثت الكاتبة إخلاص عطا الله عن توفيق الحكيم من زاوية فكره السياسي، وبوصفه أحد رواد الرواية وكتابة المسرحية، كما ناقشت الكاتبة زينب عبد الرزاق اشتباكات الأديب الكبير يوسف إدريس العنيفة ومعاركه الثقافية مع بعض رموز المجتمع.

وبمناسبة مرور 100 عام على بداية مشوار صاحبة الحنجرة الذهبية كوكب الشرق ام كلثوم استعرض الاستاذ محمد مطش أبرز محطات حياتها ومسيرتها الفنية.

هذا وتستعد مكتبة الإسكندرية لطرح الأعداد الأخيرة من مجلة "ذاكرة مصر" في جناحها بمعرض القاهرة الدولي للكتاب خلال الفترة المقبلة. يرأس تحرير المجلة الدكتور سامح فوزي، وتتولي الباحثة إيمان الخطيب سكرتارية التحرير.
 

 

مقالات مشابهة

  • شاهد بالفيديو والصور| هكذا تمت عملية تطهير منطقة حنكة آل مسعود من “داعش” والأماكن التي كانت تتمترس فيها العناصر التكفيرية وطريقة تعامل رجال الأمن مع الأسرى
  • مكتبة الإسكندرية تصدر عددًا جديدًا من مجلة "ذاكرة مصر
  • مكتبة الإسكندرية تصدر عددًا جديدًا من "ذاكرة مصر"
  • استمرار جهود البحث عن مفقودين جراء الحريق في لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأمريكية
  • السلطات الأمريكية تواصل البحث عن مفقودين جراء الحريق في لوس أنجلوس
  • "ذاكرة الوطن" تصحب زوارها من الصحراء إلى الفضاء
  • دفاع النواب: الضربات الاستباقية للداخلية أجهضت الخطط الإرهابية
  • تعرف على جزيرة غرينلاند الغنية التي يريد ترامب الاستيلاء عليها
  • جمعة: الحب الحقيقة الكبرى التي قام عليها الكون
  • الإعلان عن اسم الغوريلا التي عثر عليها بمطار إسطنبول