لا يكاد يُذكر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية حتى يومنا، إلا وتُذكر قصة "العبودية" و"تجارة الرقيق" والتمييز العنصري ضد من هم من أصول إفريقية.

هذه الإشكالية المعقدة دفعت من أجلها الولايات المتحدة مئات ألوف الضحايا ولا نزال نسمع حتى اليوم عن حوادث عنصرية تقع في هذه الولاية الأمريكية أو تلك عن مصادمات بين رجال الشرطة وبين السود تفضي في بعض الأحيان إلى عمليات اعتداء وقتل سافرة.

ولم تكن السينما بعيدة عن رصد تلك الإشكالية المعقدة، فتاريخ السود في الولايات المتحدة بقي مزامنا مع ظهور وتطور السينما لكن في المقابل كانت هنالك شخصية استثنائية في تاريخ الولايات المتحدة ممثلة في الرئيس ابراهام لينكولن محرّر العبيد الحقيقي والذي ثار على نظام الرق وذلك في سبتمبر 1862 ومن خلال ما عرف بإعلان لينكولن لتحرير العبيد ليتزامن ذلك مع حرب أهلية طاحنة بين الولايات الأمريكية الشمالية والجنوبية امتدت لأربع سنوات (1861 - 1865) وقع فيها قرابة سبعمائة ألف ضحية وكان موضوع الرق والعبودية وتحرير العبيد الركن والسبب الرئيسي في اشتعالها لتنطفئ على يد لينكولن ويعيد بالقوة الولايات الأمريكية المتمردة والتي أرادت المضي في نظام العبودية واسترقاق ذوي البشرة السمراء.

لهذا ليس مستغربا أن تخلّد السينما الرئيس الأمريكي السادس عشر للولايات المتحدة، إذ قدمت السينما الأمريكية خلال مائة عام قرابة 20 فيلما حملت اسم لينكولن كان أولها في عام 1923 وآخرها هو الذي نتحدث عنه اليوم، هذا عدا تلك الأفلام الكثيرة التي كان موضوعها هو ثورات الزنوج والكفاح من أجل الحريات المدنية والتي يمر فيها ذكر لينكولن أو ظهوره المختصر أو أحاديثه.

على هذه الخلفية الدراماتيكية التي خلّدها التاريخ تنطلق أحداث هذا الفيلم للمخرج أنطوان فوكوا (مواليد 1965) وهو واحد من ألمع مخرجي هوليوود من السود وقد أخرج حتى الآن قرابة 20 فيلما روائيا طويلا، نذكر في مقدمتها الثلاثية الشهيرة ايكوالايزر التي ظهر الجزء الثالث منها مؤخرا ودائما من بطولة النجم العالمي دينزل واشنطن بالإضافة إلى أفلام مهمة مثل: فيلم يوم التدريب، وفيلم دموع الشمس، وفيلم الملك آرثر، وفيلم السبعة المدهشون وفيلم المذنب وفيلم القطار الطلقة وغيرها.

يعالج الفيلم ابتداء من مشاهده الأولى عملية القبض على ذوي البشرة السوداء أينما وجدوا وأخذهم من قراهم ومنازلهم بالقوة لغرض القيام بأعمال السخرة الشاقة أو للالتحاق بالجيش وجعلهم في المقدمة لكي يقتلوا بلا رحمة.

هذا هو المدخل الأول لهذا الفيلم المأخوذ عن قصة حقيقية وها نحن مع بيتر - يقوم بالدور الممثل المعروف ويل سميث، وهو مشارك في الإنتاج أيضا، فهو واقعيا مجرّد عيّنة فاقعة للمعاناة الإنسانية المريرة لمجتمع السود لكن ميزة بيتر أنه سوف يتمرّد على رؤسائه البيض وهو مدعوم نفسيا بعقيدة دينية مسيحية قوية وقد ترك من خلفه أسرته الصغيرة المتماسكة التي يبادلها محبة كبيرة.

ها هو بيتر يقوم بالأعمال الشاقة لغرض إنشاء سكة للقطار وهي أعمال سخرة تشبه الأشغال الشاقة التي تطبق على السجناء وكان يعيش في كل لحظة مشاعر الإحباط والمرارة والعجز في ظل نظام عنصري وعبودية مطلقة، فلا يظهر الزنجي إلا والسلاسل والأصفاد تكبّله.

تتكون رحلة بيتر من سلسلة مثيرة من التحولات وهي في الواقع مغامرات قاسية إذ انه خلال خروجه على رؤسائه وبالتزامن مع انتشار خبر إعلان لينكولن عن إطلاق الحرية وعتق العبيد وانتهاء نظام العبودية، خلال ذلك سوف يواجه ملاحقة مضنية وقاسية في وسط المستنقعات من أجل الوصول إلى الحرية النهائية.

على وفق تلك اليوميات ولنسمّها يوميات العذاب، كان بيتر يلخص عذابات زملائه الآخرين في سلسلة من المشاهد شديدة القسوة فضلا عن التجويع والاحتقار لكن يقينه بالحرية لم ينطفئ.

عمد المخرج إلى لغة صورية مكثّفة قوامها التصوير بالأبيض والأسود وبذلك عمق الإحساس الوجداني بعالم السود وقدم لغة سينمائية رمزية مشبعة بالتفاصيل والمشاعر، إذ كانت شجاعة ومروءة بيتر علامة فارقة واستثنائية لم يستطع البيض على الجانب الآخر قبولها ولا التسامح معها لأنها ببساطة ليست إلا نواة للتمرد.

على الجانب الآخر كان حرق منازل السود وترويعهم وصلبهم على الأشجار أو شنقهم وترى الرؤوس متدلية من الأشجار، كان كل ذلك يتواصل بلا نهاية بينما أنسام الحرية لا تكاد تفارق إحساس بيتر في كفاحه المرير من أجل حريته بكل ما تحمله من رمزية خاصة.

ها هي زوجته المضحية تقدم يدها لتطحنها ماكنة حلج القطع لا لشيء لكي لا تباع وتشترى بين المالكين السود الذين قرروا تشتيت أسرتها وبيعها وبيع بناتها في سوق العبيد.

هذه التراجيديا المتصاعدة وظف المخرج وفريقه من أجلها أدوات تعبيرية متنوعة ابتداء من التصوير بالدرونز والقطع السريع والانتقالات المتصاعدة بحسب قوة المشهد الدرامي وهي كلها أسهمت في تقديم حصية تعبيرية متميزة فضلا عن خطاب وجداني وإنساني بليغ.

انتهت العبودية فعليا في الولايات المتحدة في ربيع عام 1865 عندما استسلمت الجيوش الكونفدرالية. وأفرج إعلان تحرير العبيد عن جميع العبيد في الكونفدرالية، والذي نص على أن العبيد في المناطق الكونفدرالية أحرار في تلك اللحظة الفارقة يكون بيتر قد وصل إلى عائلته ولتنتشر صورته ( بورتريت) ليس لوجهه الحزين والمسالم ولكن لظهره الذي كان تحول إلى خريطة أوجاع لا تنتهي بسبب أثار التعذيب بالسياط والكيّ بالنار والتمزيق بالسكاكين حتى كان شكل ذلك الظهر صدمة هائلة وقد انتشرت صوره.

اهتم كثير من النقاد بهذا الفيلم ومن ذلك ما كتبه الناقد روبرت دانييلز في موقع روجر ايبرت من أن هذا الفيلم يحافظ على نسق التوتر المقترن بالسيرة الذاتية والإثارة، والوحشية والبطولة، والدراما المرموقة، وأفلام الحركة المشوقة.

وواقعيا يستغرق هروب بيتر معظم وقت الفيلم وهو يجتاز مناظر طبيعية خالية من الألوان، مستذكرًا المناظر الطبيعية لبيئة مزقتها الحرب في فيلم "طفولة إيفان" للمخرج أندريه تاركوفسكي.

أما الناقد المعروف بيتر برادشو في الغارديان البريطانية فيختصر تقييمه لهذا الفيلم قائلا انه فيلم قوي وعنيف ومؤثر.

أما الناقدة مانولا دارغيس، فقد كتبت في نيويورك تايمز رؤيتها عن الفيلم قائلة انه فيلم ليس فيه نساء حسان من البيض ولا سادة بيض مهذبون ولا الصورة التقليدية لمزارع هوليوود القديمة. انه باختصار فيلم يهدف إلى إظهار الثمن الهمجي الذي تفرضه العبودية على البشر، فرديًا وجماعيًا وهو بمثابة تصحيح ضروري للقصص الخيالية المألوفة التي تُعرض على الشاشة الكبيرة حول تجارة الرقيق الأمريكية.

تراجيديا قاسية برع فيها الممثل ويل سميث في واحد من أدواره المتميزة وقدم المخرج بناء سرديا فيلميا متماسكا جمع فيه ما بين الإثارة والسيرة الذاتية وبعض ملامح الفيلم التاريخي في مزيج ملفت للنظر سلط الضوء على حقبة متفجرة واستثنائية في التاريخ الأمريكي.

....

إخراج/ أنطوان فوكوا

سيناريو / وليم كولاغ

تمثيل / ويل سميث، بين فوستر، تشارمين بينغوا، مصطفى شاكر، جيسون ورنر سميث.

مدير التصوير/ روبرت ريتشاردسون

إنتاج وتوزيع/ أبل وشركاء آخرون

..

تقييم روتين توماتو 5.5 من 10، تقييم أي ام دي بي 6.5 من 10 ، تقييم الغارديان 4 من 5 نقاط.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة هذا الفیلم

إقرأ أيضاً:

اكتشاف أكبر حروب ما قبل التاريخ .. أجزاء منها وقعت في مصر والعراق

كشف علماء آثار أسرار جديدة حول الحرب العالمية الأولى الحقيقية - وهي سلسلة من الصراعات التي اندلعت في معظم أنحاء أوروبا والبحر الأبيض المتوسط ​​وشمال إفريقيا والشرق الأوسط منذ حوالي 32 قرنا من الزمان.

 

وبحسب صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، كشفت دراسة بحثية جديدة نُشرت أمس الاثنين كيف قاتل جيشان كبيران من جزأين مختلفين من أوروبا حتى الموت في معركة كبرى جنوب بحر البلطيق مباشرة، وجاء الجيشان من مسافة 400 ميل على الأقل - جيش جنوبي من بافاريا (أو مما يُعرف الآن بجمهورية التشيك) ​​وجيش شمالي من ما يُعرف الآن بشمال شرق ألمانيا.

وتعتبر المعركة شارك فيها ما يصل إلى 2000 مقاتل جزءًا من سلسلة من الصراعات والأزمات التي تسببت في الفوضى في مساحة كبيرة من العالم من الدول الاسكندنافية إلى الصحراء الكبرى ومن أوروبا الغربية إلى ما يعرف الآن بالعراق.

ودارت المعركة، جنوب بحر البلطيق مباشرة، في وادي نهر تولنس في حوالي عام 1250 قبل الميلاد.

 

وقال أحد أبرز الخبراء العالميين في تلك الفترة، البروفيسور باري مولوي من جامعة كلية دبلن: "يبدو أن هذا كان مجرد قمة جبل الجليد للصراع الذي نشر الاضطرابات عبر مناطق شاسعة في منتصف إلى أواخر القرن الثالث عشر وأوائل إلى منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد".

شملت الاضطرابات انهيار إمبراطورية الحثيين في الشرق الأوسط في تسعينيات القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وإضعاف مصر القديمة منذ حوالي عام 1180 قبل الميلاد، وانحدار بابل بحلول عام 1155 قبل الميلاد.

 

كما شهدت الانهيار النهائي لحضارة وادي السند في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وانحدار المراكز السياسية الكبرى في رومانيا والمجر وشمال صربيا في القرن الثاني عشر، وبناء الأسوار الدفاعية في بافاريا والنمسا وبوهيميا، وحتى الغرب في أيرلندا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.

 

وفي نفس الوقت تقريبا، كانت هناك اضطرابات اقتصادية واجتماعية كبرى في شمال شرق الصين وارتفاع واضح للغاية في تصوير العنف العسكري في الدول الاسكندنافية.

في العام الماضي فقط، نشر علماء أمريكيون بحثًا جديدًا حاسمًا حول انهيار الإمبراطورية الحثية - كما اكتشف علماء الآثار الفرنسيون وغيرهم أدلة جديدة رئيسية على مدار السنوات الأخيرة، تكشف كيف أثر انهيار العصر البرونزي المتأخر على اليونان ومنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.

 

لم تكن المعركة التي دارت رحاها في شمال ألمانيا في حوالي عام 1250 قبل الميلاد أقدم معركة كبرى معروفة في أوروبا فحسب، بل كانت أيضًا أكبر بكثير مما كان يُعتقد سابقًا.

وتوصل علماء الآثار إلى بقايا 160 محاربًا، لكنهم لم يحفروا سوى جزء ضئيل من ساحة المعركة، لذا فمن المرجح أن يتم اكتشاف عظام المزيد من محاربي العصر البرونزي.

كماعثروا حتى الآن أيضًا على 54 رأس سهم برونزي - ولكن يُعتقد أن معظم الأسهم والأسلحة الأخرى استعادها المنتصرون حتى يتمكنوا من إعادة استخدامها.

كشف فحص إصابات المحاربين أن السهام كانت على الأرجح السبب الرئيسي للوفاة - ولكن تم أيضًا استخدام الهراوات الخشبية والرماح والسيوف البرونزية ذات التأثير المميت.

 

وكانت الدراسة التفصيلية لرؤوس الأسهم البرونزية هي التي أثمرت الكشف الأكثر إثارة للإعجاب - ألا وهو أنها كانت من تصميمين مختلفين تمامًا: أحدهما من شمال شرق ألمانيا، والآخر من جنوب ألمانيا أو من بوهيميا أو مورافيا في ما يعرف الآن بجمهورية التشيك.

 

وتعد هذه المعلومات الأساسية التي تشير إلى أن الجيشين جاءا من أجزاء مختلفة للغاية من أوروبا الوسطى، على بعد 400 ميل على الأقل. يتم نشر الدليل الجديد الحاسم اليوم من قبل المجلة الأكاديمية المرموقة التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها.

 

وقال عالم الآثار الذي أجرى البحث على رؤوس الأسهم، ليف إنسلمان، من جامعة جوتنجن في ألمانيا، إن النتائج "تشير إلى أن القوات القتالية الأوروبية في العصر البرونزي كانت أكثر قدرة على الحركة مما كان يُعتقد سابقًا".

مقالات مشابهة

  • الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة ستنسق الرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية مع إسرائيل
  • اكتشاف أكبر حروب ما قبل التاريخ .. أجزاء منها وقعت في مصر والعراق
  • جيمي كارتر يصبح أول رئيس أمريكي في التاريخ يصل الى 100 عام
  • بيغولا تودّع من ثمن النهائي وتشانغ تكتب التاريخ
  • تركيا.. العثور على أقدم كحل في التاريخ
  • على ضوء التاريخ: نصر الله بين الجدل والإرث المقاوم
  • الولايات المتحدة تعترف بإسقاط الطائرة الأمريكية الـ11 في اليمن
  • الوزير صباغ: لا يمكن فصل جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي وعدوانها المستمر على سورية عن الدور التخريبي الذي انتهجته بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث واصلت تلك الدول انتهاك سيادة سورية ووحدة وسلامة أراضيها عبر استمرار وجود قوات
  • وحش ضخم يظهر وسط الثلوج.. صورة مذهلة للبيسون الأمريكي فماذا تعرف عنه؟
  • موسم الرياض يطرح تذاكر أغلى بطولة تنس في التاريخ