سودانايل:
2025-04-18@22:47:40 GMT

عودة الي مشروع الجزيرة (3)

تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT

صلة لما نشرناه في الحلقة الماضية عن كيفية إنشاء الشركة الزراعية والتي تحولت إلي مجلس إدارة مشروع الجزيرة في العام 1950 م.. لعل العديد من الناس لا يعلمون ما كان يقدمه مشروع الجزيرة لمجتمع الجزيرة والمناقل العريض قبل انهياراته في السنوات الأخيرة ، فضلاً علي أن آثار نجاحاته الجانبية الأخرى كانت تتمثل في انتعاش الأسواق المحلية بمدن وقري المشروع العديدة، وما رافق ذلك من قيام صناعات وطنية هامة تعتمد علي الخام الزراعي الناتج من محاصيل المشروع:
• كصناعات النسيج (مجموعة مصانع شرف العالمية)
وهي ثلاث مصانع غزل ونسيج في مارنجان
• ومعاصر للزيوت والصابون،
• ثم مطاحن الغلال بعد التوسع في إدخال زراعة القمح في النصف الثاني من القرن العشرين.


• قيام مصانع نسيج الصداقة في الحصاحيصا
• مصنع غزل الحاج عبدالله
• مصنع غزل سنار
• قيام صناعات غذائية في مدني والمناقل وسنار
فضلاً علي إتباع نظام الدورة الزراعية الذي يتيح للمزارع زراعة المحاصيل الغذائية والخضروات والبصل والفول، وهي محاصيل جانبية ولكنها مهمة للمزارعين ويدخل عائدها كاملاً ومباشرة إلي جيب المزارع وأسرته، بالإضافة علي توفر الأعلاف الزراعية للحيوان في كل قرى الجزيرة .
لذلك ، فإن الشركة الزراعية الانجليزية في الجزيرة كانت تقوم بأدوار هامة في الاقتصاد الوطني بالسودان عبر مسيرتها منذ عهد الإدارة البريطانية إلي أن تم تأميمها وتحويلها إلي مؤسسة وطنية مائة في المائة في عام 1950م حسب عقد تاسيسها وانتهاء اجلها للستثمار في السودان بعد مضي ٢٥ سنة من بداية نشاطها عقب قيام خزان سنار في العام ١٩٢٥م فسميت بمجلس إدارة مشروع الجزيرة بالسودان، حيث كان أول من ترأس مجلس إدارة مشروع الجزيرة المرحوم عبد الحافظ عبدالمنعم محمد ، كما كان يحتل منصب المحافظ بعداستقلال البلاد هو الراحل السيد مكي عباس عبدالله الكارب خلفاً لآخر محافظ إنجليزي وهو المستر جيتسكل المشهور جداً لأنه كان قد تدرج في خدمة الجزيرة منذ أن كان خريجاً شاباً عمره 22 عاماً في عام 1930م حيث عمل جيتسكل عند تعاقده من لندن مع الشركة الزراعية للعمل بالجزيرة مبتدئاً من وظيفة صراف صغير بالغيط بمكتب عبدالحفيظ التابع للقسم الاوسط ورئاسته ( ودالشافعي) التي اتخذت كرئاسة لسكة حديد الحزيرة ( الترماي ) وظل جيتسكل متدرجاً في الوظائف المختلفة عبر السنوات الطوال حتي وصل لدرجة محافظ لمشروع الجزيرة.
ولقد ذكرنا كل هذه المقدمة الطويلة عن هذا المشروع حتي تدرك الأجيال الجديدة ما كانت تقوم به الزراعة في هذا الوطن العزيز من أدوار في مسيرة الاقتصاد السوداني حتي وصل عائد البلاد من الناتج الزراعي وحده في بعض المواسم الزراعية إلي قرابة المليار دولار في السنة، ولقد كانت أقل سنوات المردود الزراعي في عام 1989م ( قبل الإنقاذ) حيث وصل الناتج الزراعي لوحده إلى ستمائة مليون دولار تقريباً ( أي تعادل نصيب السودان من إنتاج البترول في بداياته الأولي) . لذلك كان مشروع الجزيرة فيما بعد هو القدوة لقيام مشاريع حكومية صغيرة مثيلة له كمشروع الرهد ومؤسسة حلفا والسوكي كي يزيد الناتج الزراعي للتصدير ولتستقر الحياة الاقتصادية لسكان تلك المناطق .
وعند إتباع سياسة التحرير في منتصف العشر سنوات الأولي للانقاذ ، كانت من أكبر أخطائها تجاهل هذا المشروع بتقليل مساحات القطن فيه إلي أقل قدر وبنسبة انخفاض وصلت إلى سبعين بالمائة من مساحته، واستبدلت تلك المساحات بتوسيع زراعة القمح الذي له مخاطره الأخرى، فهو محصول مكلف ويحتاج إلى مناخات شتوية محددة التوقيت وغير متقلبة (كمناخات وسط السودان) حسب رأي الخبراء في هذا المجال، والقمح أصلاً عالمياً يعتبر متوفراً ومن أرخص المنتجات المطروحة في السوق العالمي وليس بالسلعة النادرة مثل القطن، ولا ندري حتي اللحظة من هو هذا الفيلسوف صاحب المشورة المدمرة الذي أدار عجلة الزمان بالجزيرة سبعين عاماً إلى الوراء بسبب الخوف من قيام حصار اقتصادي دولي علي السودان كانعكاس لتداعيات أزمة الخليج الثانية في عام 1990م عند احتلال العراق للكويت وما بعدها، حيث اشار بتقليص مساحة زراعة القطن من اربعمائة الف فدان إلى مائة ألف فدان فقط في معظم السنوات الأولى للإنقاذ ، مع اتساع مساحات القمح الذي كان وبالاً علي الدولة والمزارع علي السواء، فإذا بكل دول العالم تسارع في إرسال إنتاجها من سلعة القمح والدقيق الفاخر إلي السودان بأرخص الأسعار، مما أدى إلي كساد القمح السوداني الرديء والمكلف جداً للخزينة العامة، وبدأ بذلك انسحاب السودان من معظم أسواق القطن والغزول العالمية بعد ان كان مسيطرا علي اسواق القطن عالميا ، وقد اتجه وقتها الغزالون العالميون في غرب العالم وشرقه إلى مناطق أخرى من الكرة الأرضية للبحث عن دول بديلة تغطي حاجاتهم من الأقطان طويل التيلة وقصيرها، فبدأ العد التنازلي لهذا المشروع العملاق وتعطلت حركة الأبحاث الزراعية وتم إبعاد كل الكفاءات المتميزة بالمشروع بالكامل وتم إتباع سياسة القفز بالعمود في إدارة المشروع، واستشري التخبط وسط الإدارة التي ظل يتبدل مديروها كل سنة أو سنتين من عديمي الخبرة العريقة بعد أن استغني المشروع من كل الجيل الخبير في شتى أقسامه منذ سنوات الإنقاذ الأولى، فالكل كان يريد تكبير كومه من السلطات وحدث التضارب الإداري في القرارات، وتقلص دخل صادر القطن من مئات الملايين من الدولارات إلى سبعين مليوناً فقط في عام 1999م إلى أن إنهار المشروع بالكامل بعد أن ظلت وظيفة المدير العام يتم التعيين لها من أصحاب الولاء – عديمي الخبرة – من خارج إطار المشروع، وكلهم قد فشلوا فشلاً بائناً في إنقاذه مما دعا أصحاب الخصخصة والتحرير في المركز لتكوين اللجان لدراسة إمكانية خصخصة وبيع هذا المشروع العملاق ( بأثمان بخسة) كما تعطلت إثر ذلك كل المصانع المحلية التي كانت تشتري موادها الخام من أقطان مشروع الجزيرة وتحولت تلك المصانع إلي ماكينات هامدة وتشردت العمالة وأصبح سكان ولايات الجزيرة وحيواناتهم يتسولون لقمة العيش من خشاش الأرض ومن دواوين الزكاة ومن تحويلات المغتربين الذين هربوا من البلاد زرافات ووحدانا بعد أن سدت كل سبل الكسب أمامهم وهم يرون أهاليهم تسوء أحوالهم المعيشية، ورغم ذلك فإن البنوك الإسلامية بمرابحاتها العالية الفائدة التي تقارب الخمسين في المائة من أصل القرض في ذلك الزمان قبل ظهور النفط بالبلاد قد ساعدت في عملية إعسار ثم إفلاس قطاعات هامة من المزارعين الذين باع معظمهم أصوله الإنتاجية القديمة كاللواري والجرارات، وبعضهم باع منازله المرهونة للمصارف ، فأصبحت سياسة التحرير هذه قد أضرت بقطاعات هامة من جماهير الشعب السوداني بعد ان كانت كل حياتهم تسير في تناغم وتؤدة ونجاحات معقولة وسترة حال عبر عشرات السنين، ولم نشهد في تاريخ السودان كله أن قام الناس ذات يوم ببيع كل أشيائهم الجميلة والعريقة ومعها ذكرياتهم الحلوة خلال سنوات محدودة إلا في عهد تحرير الاقتصاد هذا الذي رافقته حملات دعائية كانت تشعرك بأن السودان سيكون جنة الله في الأرض بعد خمس أو ست سنوات، فإذا بالسنوات العجاف تتزايد سنة بعد أخرى، وإذا بفلاسفة تلك السياسة التحريرية يصمتون صمت القبور ويشغلون أنفسهم باختراع مؤسسات أخرى لعلها تقنع الشعب في الداخل والعالم الحر بالخارج بأن بلادنا أيضاً تستطيع دخول عالم التجارة التقنية الحديثة من بيع أسهم وسندات وأسواق مالية ومضاربات، ناسين أن السودان واقتصاده المنهار لا يمكن أن ترتفع فيه أسعار اسهم أو سندات لمؤسساته المصرفية المفلسة حيث ظلت تختفي مصارفه ومؤسساته المالية من الوجود الواحدة تلو الأخرى شأنها في ذلك شأن البقالات التي تغلق أبوابها بسبب عدم وفاء الزبائن بسداد مديونياتهم، ولنا أن نراجع الأداء المالي لأي مصرف سوداني خاص وهي كثيرة العدد لنرى كم هي الأرباح التي تحققت للمساهمين في العشر سنوات الأخيرة، لا شيء، فتات فقط .. نعم فتات فقط…
ورغم ذلك كان البعض يتشدق بعبارات (أسلمة البنوك) ذات الفائدة التي تصل إلى خمسين بالمائة من أصل القرض في ذلك الزمان البائس ( زمن الربا الفاحش ) ، ونذكر هنا أن فائدة البنوك قديماً كانت عشرة في المائة فقط ، وكل الذي تغير أننا أبدلنا كلمة قرض إلى مرابحة فأصبح الأمر (أسلمة البنوك) وهو مجرد شعار فضفاض فقط ، ثم رفعوا نسبة الفائدة احتراماً لكلمة أسلمة هذه ، وهذا رعب فكري أصولي بائن لا تخطئه العين. والنتيجة كانت كلها إعساراً في سداد المرابحات، وحصل ما حصل لعملاء المصارف.
لذلك نقول أن تحرير الاقتصاد إذا لم يرافقه تحرير لإرادة الناس وفتح المجالات الفكرية لإسهاماتهم فإن الموقف سيكون (مكانك سر)، وهذه طبعاً أفضل من (إلي الخلف دور) التي حدثت للاقتصاد السوداني عبر سنوات تحرير الاقتصاد، إذ لا زلنا نأمل في أن يعاد النظر في مسألة إعادة الحياة لمشروع الجزيرة عمليا بتوفير التمويل وليس نظريا كإقناع لاهل السودان، وذلك لسبب بسيط لا يخفى علي الإدارة الاقتصادية التنفيذية بالبلاد في عهد الحكومة الانتقالية او القادمة بعدها ، وهي أن هذا المشروع به من الأصول الثابتة ما لا يحتاج بعده إلي إي إضافات أصول أخرى لمدة خمسين سنة قادمة علي الأقل، فهنالك قيمة أصل خزان سنار ولا نحتاج بالطبع إلي قيام خزان آخر لري أراضي المشروع تحديداً، وهنالك وجود الأراضي نفسها كأصل قوي وثابت بذات تقسيماتها وتفاتيشها التي تبلغ ( 114 ) تفتيشا ( أي مكاتب الغيط ) وتندرج تحت 19 قسما منها 10 اقسام بالجزيرة و9 أقسام بإمتداد المناقل ، مع توفر مؤسسة أعمال الري بكل آلياتها الضخمة وخبراتها المعطلة وهي تحتاج ايضا الي تجديد لانها قامت اصلا لتغطية احتاجيات المشروع لري اراضيه، ووجود قنوات الري والترع والتي نحتاج إلى تنظيف وتطهير من الحشائش ثم إعادة تعميقها لتنساب منها المياه القادمة من الترعة الرئيسية من خزان سنار ( الميجر كنال ) ، فلا نحتاج إلي إنشاء تفاتيش جديدة او شق قنوات جديدة في نظام الري، وهنالك المكاتب والمساكن والمخازن والورش التي تغطي كل أقسام الجزيرة والمناقل وقد تم نهبها تماما بعد ان غادرها العاملون عند فصلهم الخدمة وكذا الحال للمخازن والورش المنتشرة عبر تفاتيش الجزيرة والمناقل ، وهنالك هناقر المحالج الضخمة في مارنجان والحصاحيصا والباقير، وهنالك أصول رئاسة المشروع في تلك المنطقة الاستراتيجية الهادئة الجميلة (بركات).
ولكن وللأسف الشديد فإن الذين تسرعوا في بيع أسطول قاطرات ومقطورات سكك حديد الجزيرة ( الترماي ) والتي ظلت ولسبعين عام تنقل الإنتاج من الغيط إلي المحالج بمثلما تنقل التقاوي والاسمدة من مخازن المشروع بمارنجان والحصاحيصا الي التفاتيش ( الحواشات ) والتي للأسف قد استعجلوا في بيعها كخردة ولم يتركوها للأجيال القادمة بفهم أن الأمر قد دان لهم مدي الحياة في حكم البلاد ، أي نعم باعوا قطارات الترماي ومسطحاتها وعرباتها (خردة)، وحتي قضبان السكة الحديد الخاصة بمسار الترام والتي يبلغ طولها اكثر من ألف ومائتين كيلو متر تم تفكيكها وبيعها وبالتالي فقد دمروا البنية التحية لهذا الناقل التاريخي ، مما يضع جبالا من المصاعب للاجيال القادمة إن إرادت تطبيق ذات المسارات .. فتأمل مستوي الحقد هذا علي الشعب السوداني .
ونواصل ؛؛؛؛؛

bashco1950@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: مشروع الجزیرة هذا المشروع فی عام

إقرأ أيضاً:

السودان وتشاد: الفرصة التي لا ينبغي تفويتها

تدخل الحرب المفروضة على السودان وشعبه عامها الثالث، وقد تغيّر كثيرٌ من معالم المعركة، وتغيّر ميزان القوى في ميدان القتال، وأثّر ذلك على مواقف الفاعلين الإقليميين والدوليين بشكل ملحوظ.

فقد أدّت انتصارات القوات المسلحة السودانية الباهرة، والهزيمة النكراء التي لحقت بمليشيا الدعم السريع، إلى فرض إرادة الدولة السودانية التي كادت أن تُختطف، وتعزّزت السردية الحقيقية لهذه الحرب، والتي تهدف إلى السيطرة على الدولة، وتهجير سكانها وفرض واقع اجتماعي مختلف تمامًا. ويؤكد ذلك ممارسات مليشيا الدعم السريع غير الأخلاقية تجاه المدنيين الأبرياء وممتلكاتهم.

وغالبًا ما تدفع التحولات الجيوسياسية الكبيرة في الصراعات كل اللاعبين الفعليين والثانويين إلى إعادة التموضع، ومحاولة تلمُّس الخطى واستبانة الطريق القويم.

ولما كانت السياسة لا تعرف العداءات الدائمة، فإن مراجعة الدول لسياساتها وتصحيح مواقفها يُعتبر من الحكمة الدبلوماسية والفطنة السياسية المحمودة، وهي سُنّة ماضية في السلوك السياسي للأنظمة والدول.

ولما نشاهده اليوم من أن كثيرًا من الدول والجماعات تسعى لتصحيح موقفها من الحرب المفروضة على الدولة والشعب السوداني، فإن هذا المقال هو نداء صارخ لكل من السودان وتشاد لتصفير المشكلات، وإعادة ضبط إيقاع العلاقة التاريخية بينهما، والعودة إلى الوضع الطبيعي لهذه العلاقات، التي ظلّ التعاونُ والتكامل وحسن الجوار هو الأصلَ فيها، والخلاف والنزاع شأنًا عابرًا.

إعلان الثابت والمتغير في العلاقات

من أهم الثوابت في هذه العلاقة أنها علاقات قديمة ضاربة الجذور في التاريخ والثقافة والموروث الاجتماعي بين المجموعات العرقية والقبائل المشتركة، وهي علاقة ذات ديناميكية اجتماعية متجددة.

يربط السودان وتشاد حدود طويلة تزيد عن 1.400 كيلومتر، وهي أطول حدود تربط السودان بدول جواره السبع بعد حدوده مع دولة جنوب السودان.

والحدود بين البلدين مفتوحة لا تعيقها تضاريس وعرة، مما جعل حركة السكان سهلة وميسّرة ويصعب السيطرة عليها. فهي أرض شاسعة، منبسطة وخصبة، تمتد في شكل حزام طويل واسع ومتداخل من منطقة موندو وأبشي وأدري في تشاد، مرورًا بولايات دارفور وحتى غرب كردفان في السودان.

هذا السهل الشاسع تسكنه أكثر من عشرين قبيلة مشتركة بين البلدين، ولها امتدادات اجتماعية عميقة، تعززت بالزواج والمصاهرة والنظم والتقاليد القبلية الصارمة لدى هذه المجتمعات.

وفي الواقع، فإنّ التداخل القبلي والاندماج المجتمعي والتواصل الأسري الميسور بين مواطني السودان وتشاد هو حالة متفرّدة، بالنظر إلى علاقات السودان مع جميع جيرانه الآخرين.

الثوابت القوية والمتعددة في العلاقة بين البلدين جعلت الأصل في العلاقة بينهما هو التعاون والتكامل والتنسيق في كل المجالات، وجعلت العداء هو الاستثناء.

وباستعراض تاريخ البلدين نجد أن الدبلوماسية السودانية ظلّت دومًا ناشطة وفاعلة في تعزيز العلاقات بين البلدين وفي ترسيخ السلم والأمن في تشاد، أثناء الحروب الطويلة التي شهدتها منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1960، وحتى وصول الرئيس الراحل إدريس ديبي إلى السلطة في العام 1991، وهي أطول فترة استقرار نسبي تعيشها تشاد في تاريخها المعاصر.

وقد أسهم السودان بشكل كبير في استقرار تشاد، واستضاف العديد من مؤتمرات السلام والمصالحة بين الفرقاء التشاديين.

لذلك، فإنّ حالة الجفاء التي سادت العلاقات بين السودان وتشاد بسبب الحرب المفروضة على السودان، هي حالة عابرة، لأنّها تنافي ثوابت العلاقة التاريخية بين البلدين.

إعلان

ومن مصلحة قيادة وشعب البلدين التحلّي بالشجاعة والكياسة السياسية للعودة بالعلاقات إلى طبيعتها المسالمة، والطريق الأسهل لذلك هو العمل على تصفير المشكلات، مهما كان دافعها.

تشاد ومعضلة الأمن والاستقرار

يؤكد تاريخ جمهورية تشاد المعاصر أنها دولة مليئة بالاضطرابات والنزاعات والصراعات السياسية والأمنية منذ الاستقلال وحتى اليوم. يُعتبر الرئيسُ فرانسوا تمبلباي، أبا الاستقلال وأول زعيم للدولة الحديثة، لكنه لم يكن محل إجماع وطني، مما دفع القوميات الشمالية إلى الثورة.

وهكذا بدأت الحرب في الدولة الوليدة منذ العام 1963 تقريبًا، واستمرت سلسلة الحروب والتمرّد والعصيان على الدولة حتى يوم الناس هذا.

وتختلف الصراعات والحروب في تشاد عن نظيرتها في السودان، حيث ينحصر الصراع في السودان في إقليم معين، وغالبًا في الأطراف، ولا يكاد المواطن العادي في العاصمة والمدن الكبرى يشعر بذلك. ولم تنجح أي حركة تمرّد على الدولة في تاريخ السودان في الوصول إلى العاصمة، أو انتزاع السلطة المركزية بقوة السلاح.

بالمقابل، فإن الحروب في تشاد تستهدف العاصمة مباشرة، وتنتزع السلطة في المركز بالقوة، وتقوم بإعادة بناء الدولة من جديد. هكذا فعلت حركة فرولينا بقيادة جوكوني عويدي، التي أسقطت نظام الرئيس مالوم وسيطرت على العاصمة، وحكمت تشاد بقوّة السلاح.

وعلى ذات النهج سار الدكتاتور حسين حبري، الذي تمرّد على جوكوني ونظّم حرب عصابات قوية استطاعت أن تُسقط الحكومة المركزية، وتدخل بالقوّة إلى العاصمة نجامينا، وتستبيحها، وحكم حسين حبري بقوة الحديد والنار حتى أطاح به وزير دفاعه الجنرال إدريس ديبي في العام 1990 بثورة مسلّحة.

إن حالة الفوضى والاضطراب السياسي المتكرر في تشاد أدّت إلى هشاشة الدولة، وضعف المؤسسات المدنية والعسكرية، وطغيان الروح القبلية، لأن كل حركة كانت تعتمد على قبائل بعينها تُشكّل العمود الفقري لقواتها.

إعلان

ويؤكد ذلك أنه، ومنذ استقلال تشاد عن فرنسا في العام 1960، جرت استباحة العاصمة نجامينا ثلاث مرّات، وحُلّ الجيش الوطني ثلاث مرّات، وأُعيد بناء الخدمة المدنية ثلاث مرّات على الأقل.

أما النقطة الأهم، والجديرة بالنظر، فهي أنّ كل الحركات التي نجحت في انتزاع السلطة في نجامينا جاءت عن طريق شرق تشاد، أي غرب السودان.

ويعلم العسكريون جيدًا أن الحدود الوحيدة التي يمكن أن تهدد الأمن والاستقرار في تشاد هي حدودها مع السودان. ويؤكد ذلك أنه طوال تاريخ تشاد المضطرب لم تسلك أي حركة عسكرية الحدود الجنوبية مع أفريقيا الوسطى، بل إن ليبيا القذافي، وفي صراعها الطويل مع تشاد، احتلت شريط أوزو، وتمدّدت في المناطق الصحراوية في شمال تشاد، ولكنها لم تنجح في الوصول إلى العاصمة. حتى هزمها وزير الدفاع حينها، إدريس ديبي، في معركة مشهورة أكدت العبقرية العسكرية لهذا القائد التشادي، وجرى القبض على الجنرال خليفة حفتر، قائد القوات الليبية، في شريط أوزو، قبل أن يُفرج عنه في صفقة معروفة.

تمدّد الحركات السالبة

تواجه تشاد تحديات أمنية كبيرة في منطقة حوض بحيرة تشاد، وذلك بسبب النشاط المتزايد لجماعة بوكو حرام وأخواتها من الحركات السالبة. وقد ساهمت السياسات الخاطئة التي اعتمدتها الدول المتشاطئة على البحيرة في تعظيم نفوذ هذه الجماعة الإرهابية.

وبالرغم من أنّ الحركات السالبة في منطقة البحيرة وعلى امتداد الحدود بين تشاد والنيجر من جانب، وبين تشاد والكاميرون ونيجيريا من جانب آخر، تُعتبر مهددًا لكل دول منطقة الساحل، فإن تشاد تعاني أكثر من الدول الأخرى، وذلك ربما لأنّ جيشها هو الأكبر في المنطقة بعد نيجيريا، وقد قام بعمليات كبيرة ناجحة ضد هذه الجماعات، مما جعلها تستهدف تشاد بشكل أكبر.

ومن شأن استمرار التوتر والحروب في ولايات دارفور، أن يشكل مهددًا أمنيًا إضافيًا لمناطق شرق تشاد المكتظة بالسكان، ومثل هذا الجو الموسوم بالانفلات الأمني يمكن أن يشجع جماعة بوكو حرام وأخواتها على التمدد إلى جبهة شرق تشاد، وحينها ستُشكل تهديدًا أكبر، لا سيما في ظل حالة السيولة الأمنية في الحدود بين تشاد وأفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى الوجود القديم والمستمر لحركات معارضة تشادية في المناطق الصحراوية الشمالية.

إعلان

إن تعدد بؤر التوتر في تشاد سيؤدي إلى تشتيت جهود المؤسسات العسكرية والأمنية، مما يهدد بقاء الدولة المركزية.

خيارات تجارية أكبر

ومن شأن الخلاف السياسي والمشكلات المتصاعدة بين تشاد والسودان أن يحرما تشاد من تعظيم تعاونها التجاري والاقتصادي مع السودان، وهو تعاون مهم ومربح ومفيد جدًا لكلا البلدين، لكنه أكثر أهمية لتشاد لأنها دولة حبيسة.

وقد شهد التعاون الاقتصادي تطورًا كبيرًا في عهد الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو، لدرجة أنه بدأ التفكير عمليًا في إنشاء خط أنابيب ناقل للبترول التشادي عبر ميناء بورتسودان.

وقام الرئيس التشادي بعدة زيارات إلى بورتسودان لتخصيص ميناء للواردات والصادرات التشادية، وبدأت فعليًا عملية نقل الواردات التشادية عبر ميناء بورتسودان إلى ميناء أدري الجاف في عام 2016.

وتفيد الدراسات التي أُجريت أن استخدام تشاد ميناءَ بورتسودان يقلل مدة وصول البضائع إلى نصف المدة، مقارنة مع الطريق الحالي الذي تستخدمه تشاد عبر ميناء دوالا في الكاميرون.

وفي الواقع، فإن فكرة استخدام تشاد ميناءَ بورتسودان فكرة قديمة بدأت فور استقلال تشاد، حيث وقّع الرئيسان التشادي فرانسوا تمبلباي والسوداني إسماعيل الأزهري مذكرة تفاهم؛ لتعبيد الطريق البري بين البلدين من نيالا إلى أبشي في تشاد، وذلك في عام 1967.

أزمة المجال الحيوى السوداني

تؤثّر الخلافات بين تشاد والسودان بشكل كبير على السودان أيضًا، ويشمل ذلك التأثير المجالَ الأمني والاقتصادي والثقافي والاجتماعي على السواء، لكنه في المقام الأول يؤثر على تمدد النفوذ السوداني نحو منطقة الساحل الأفريقي الممتدة من تشاد وحتى تخوم المحيط الأطلسي في السنغال وموريتانيا. وهذه قضية ذات بُعد إستراتيجي يجب ألا يهملها صانع القرار السياسي السوداني.

معلوم أن لكل بلد نطاقًا حيويًا يؤثر فيه بشكل واضح ويُعدّ منطقة نفوذ أساسية، تخدم رؤيته ومصالحه الإستراتيجية في المنطقة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الولايات المتحدة الأميركية، مهما عظم نفوذها في العالم، تعتبر أن أميركا الجنوبية هي منطقة نفوذ حيوي لها، والصين مهما تمددت لن تسمح بالمنافسة في بحر الصين الجنوبي، وكثير من الصراعات الدولية الكبيرة – كما في أوكرانيا الآن – إنما هي في المقام الأول للحفاظ على مناطق النفوذ الحيوي التي يُعدّ الحفاظ عليها جزءًا من الحفاظ على الأمن القومي.

إعلان

وبالنظر إلى السودان، فإن مجاله الحيوي القاري يمتد شرقًا وغربًا وليس شمالًا وجنوبًا كما يعتقد البعض. وإذا كان الأمر كذلك، فإن تشاد تمثل البوابة الأساسية لانفتاح السودان نحو نطاقه الحيوي الخصيب في غرب أفريقيا عامة ودول الساحل الأفريقي خاصة.

إن التأثير الثقافي والاجتماعي للسودان على دول الساحل الأفريقي كبير جدًا وملحوظ، وله جذور تاريخية ضاربة تعود لحقبة الحضارة النوبية الأولى في شمال السودان، وهناك شواهد كثيرة على ذلك يضيق هذا المقال عن ذكرها.

ويستطيع السودان أن يلعب دورًا أكثر حيوية في هذه المنطقة ثقافيًا واقتصاديًا وأمنيًا. من أجل ذلك، وحتى لا يعزل السودان نفسه عن نطاقه الحيوي، فإن الحفاظ على علاقات التعاون وحسن الجوار مع تشاد يكتسب أهمية إستراتيجية بالغة.

الأمن لا يتجزأ

كما هو معلوم، فإن الأمن كل لا يتجزأ، لأن أمن جارك من أمنك، بل إن أمن الإقليم الذي تنتمي إليه هو جزء من أمنك، لأننا نعيش في عالم متداخل، والعلاقات فيه متشابكة.

لقد أكدت الحرب الجارية في السودان الآن صدق هذه المقولة، فقد ظل إقليم الساحل الأفريقي ساحة مليئة بالنزاعات والصراعات المختلفة، مما ساعد في ظهور حركات سالبة عابرة للحدود، وتطورت الجريمة المنظمة، وأصبحت تجارة الأسلحة غير المشروعة وتهريب البشر والجماعات المسلحة المستعدة لبيع بندقيتها لمن يدفع، ظاهرة بارزة في المنطقة.

وربما لم يكن المواطن السوداني البسيط في قرى ولاية الجزيرة يتوقع يومًا أن هذه الجماعات البعيدة جغرافيًا عنه، يمكن أن تصبح مهددًا حقيقيًا لأمنه، وتُصوّب بندقيتها المأجورة لإخراجه من داره والسيطرة على ماله وممتلكاته.

لقد كان هناك قادة عظام في كل من تشاد والسودان أدركوا أهمية، بل قدسية، علاقات حسن الجوار بين بلديهما وشعبيهما، من أمثال فرانسوا تمبلباي، وإدريس ديبي، وجعفر نميري، وعمر البشير، كانوا يتغاضون عن الخلافات الصغيرة من أجل المصالح الكبيرة.

إعلان

ويشهد على ذلك أنه رغم حدة الأزمة الأمنية بين البلدين في عام 2008، بعد عملية الذراع الطويلة، وعملية محاصرة قصر الرئاسة في نجامينا، فإن البلدين سرعان ما تجاوزا هذه الأزمة، وعَمِلا على تطويقها باعتماد أكبر مبادرة لتعزيز الأمن الجماعي، وهي تجربة قوات الحدود المشتركة.

وتُعدّ تجربة القوات المشتركة لمراقبة وحفظ أمن الحدود بين تشاد والسودان، التي بدأت في عام 2010، واحدة من أهم مبادرات التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، وقد أتاحت الحدود الآمنة سهولة انسياب حركة البضائع والبشر، وعزّزت التعاون المشترك بشكل غير مسبوق.

وفي هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها علاقات البلدين، فإن الثوابت المشتركة والعميقة بينهما كفيلة بفتح آفاق جديدة، أكبر وأوثق، للتعاون والشراكة وحسن الجوار، يبدأ ذلك بتصفير المشكلات العالقة.

وهذا ليس عسيرًا إذا توفرت الإرادة السياسية، والابتعاد عن الاعتماد على الخارج، لأن قبول أجندة الخارج له ثمن، وربما يكون صعبًا ومكلفًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • نقابة أطباء السودان: مقتل أكثر من 230 طبيبا واغتصاب 9 طبيبات بولاية الجزيرة
  • وزارة الري السودانية تُحدد تكلفة تعافي منظومة الري بمشروع الجزيرة
  • السودان وتشاد: الفرصة التي لا ينبغي تفويتها
  • 10 مليارات دولار.. الجزيرة نت تكشف خسائر القطاع الزراعي في السودان
  • كهرباء السودان تكشف أسباب تأخير عودة التيار وتحذر هؤلاء
  • والي الجزيرة: لن نقف مكتوفي الأيدي حتى تنعم كل الولاية بالكهرباء
  • شركة كهرباء السودان: تأخر عودة الخدمة يعود إلى تكرار عمليات القصف التي استهدفت الشبكة
  • مناوي: الخرطوم كانت محاصرة والآن هي حرة .. الجزيرة كانت محاصرة والآن هي حرة
  • وزارة الخارجية تعرب عن إشادة المملكة بالإجراءات التي اتخذتها الجهات الأمنية في الأردن لإحباط مخططات كانت تهدف إلى المساس بأمنه وإثارة الفوضى
  • خلال 6 أشهر.. الأمم المتحدة تتوقع عودة 2,1 مليون نازح إلى الخرطوم