رغم مأساوية المشهد، وكل التكاليف المرعبة التي تكتنفها لحظاته المحمّلة بكَم لا يُوصف من التوحش، نحن أمام لحظة ليس ما قبلها كما بعدها.

لا نتحدث عن الحرب والفاعلين فيها، وإنما عن رعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان الدوليين، وعالم ما بعد الغرب. قد لا تحمل الجغرافيا اتجاها رئيسيا خامسا غير الجهات الأربع، لكن السياسة تفعل، بل ولا تتوقف عن توليد الخيارات كلما ضلّ اتجاه.

جديد المشهد في غزة يكمن في نقطتين، الأولى حجم التوحش غير المسبوق. والثاني في الدفاع عنه ومنحه الغطاء.

موقف الدول الغربية السياسي اليوم يمكن وصفه بالتعايش الإجباري مع كونك وحشا. يفقد الغرب القدرة على تغليف الازدواجية، وهي وظيفة كانت واحدة من إبداعاته السياسية في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ففي الوقت الذي أجاد الغرب إنتاج نظام دولي يرتكز على القانون الدولي والتعاون البيني وإنهاء الاستعمار وترسيخ قيم حقوق الإنسان، تمكن من توظيف كل ذلك كأداة تفوق وهيمنة.

شن الغرب، مجتمعين ومنفردين، حروبا من أجل الدمقرطة والقضاء على الإرهاب، وهي أسماء غلّفت هدف الهيمنة الجوهري بغطاء تعليم "البرابرة" طريقة الأكل بالسكين والشوكة. الفكرة هي الهيمنة بغطاء إنساني وفكرة عالمية.

وهي فكرة لم يكن بها بأس كمشروع حضاري إنساني عند كثيرين في حال ارتكزت على المساواة والعدل، على مبدأ الجميع رابح، المُهيمِن والمُهيمَن عليه. بمعنى أن مشروع الغرب استند على ثنائية الهيمنة والفكرة الإنسانية معا.

بينما كانت أزمته في مشهد الإبادة الذي تتعرض له غزة، في عجزه عن ترويج هذه الثنائية، فاستند لأحادية الهيمنة فقط. وبخلاف معظم وربما كل الاستحقاقات العالمية لحشد موقف ضد أو مع قضية ما، يفقد الغرب سرديته لأول مرة، وتبدو مواقفه مقطوعة كأنها نصف جملة.

طبيعة النظام الدولي

عند حدود الجيب الفلسطيني المُسمى غزة، كما يحلو لبعض أدبيات الغرب الإعلامي والأكاديمي وصفه (Gaza enclave)، تتشكل لحظة إستراتيجية ما على مستوى أكبر بكثير من جغرافيا الـ360 كيلومترا مربعا، هي الأكثر كشفا عن حجم أزمة الذات التي يعيشها الاجتماع الدولي الغربي في صورة انكفاءات تدريجية لم تتوقف سياسيا وأخلاقيا واقتصاديا منذ سنوات.

ليس هذا من قبيل تضخيم الأثر أو التنبؤ بخلاف ما هو قائم، وإنما هو تعزيز لما بات من المسلمات في دوائر التفكير عند الحديث عن طبيعة النظام الدولي الحالي ومكانة الغرب فيه. عدا الولايات المتحدة الأميركية التي تمتلك مخزونا هائلا من القوة العسكرية والاقتصادية ومركبا فريدا من الاستثناء الجغرافي والتاريخي والنفسي، فإن حكومات غربية أخرى لم تعد تمتلك هيبة التفوق حين تلتقي مسؤولاً في أي دولة عادية أو ربما هامشية في العالم.

تنامت ندّية دولية لافتة في العقدين الأخيرين تجاه حكومات الغرب، والمواقف في ذلك أكثر من أن تُحصى. خذ مثالاً إيران التي أجبرت بريطانيا على دفع ما يمكن اعتباره فدية لإطلاق سراح مواطنة بريطانية-إيرانية بعد سنوات من الإذلال، والشيء نفسه قبل شهرين مع الولايات المتحدة.

خذ قطر التي عقدت أكبر ملتقى دولي في كأس العالم التي واجهت واحدة من كبرى حملات الشيطنة المنظمة الغربية ولم ترضخ لأبسط المطالبات. خذ السعودية التي تتحرك دوليا وإقليميا في مساحات كانت حتى وقت قريب من المحرمات في الممارسة التقليدية لحلفاء الغرب.

والأمثلة تمتد أكثر من ذلك في سلسلة الانقلابات العسكرية في أفريقيا، وفي مساحات الأدوار المثيرة للجدل لبعض الدول، إلا أنها تتحرك في نطاق سيلان هيبة التفوق الغربي وانكفاء مظلته الدولية.

هذه اللحظة الإستراتيجية تتجلى اليوم في انكشاف الموقف السياسي للغرب وممارسته بطريقة التوحش الاستعماري التقليدي ما قبل الحرب العالمية الثانية المؤطر بالقوة والقدرة على الفعل فقط.

لا مجملات ولا مساحيق قيمية يمكن إضافتها. تحريك أساطيل حربية. تكثيف دبلوماسي على مستوى الاتصالات والزيارات لاستعراض التعاطف مع الاحتلال. تعميمات على الناطقين الرسميين بدعم إسرائيل بانحياز مطلق، وبعدم استخدامات عبارات معينة تمثل جوهر القيم العالمية للنظام الدولي المعاصر من قبيل الالتزام بالقانون الدولي أو المطالبة بخفض التصعيد مثلاً.

ورسم مشهد بصري في عواصم الغرب الذي لا تعكس منصاته الدعائية الازدواجية وحسب، فنحن اليوم بمرحلة ما بعد ذلك، بل تعكس أيضا النزعة المطلقة، فهذا نحن وهذا اصطفافنا والباقي غير مهم. كل هذا من أجل ماذا؟ حماية نظام فصل عنصري بشهادة المنظمات الدولية والأمم المتحدة.

حماية الاحتلال الاستيطاني الوحيد المتبقي في العالم، حماية المستوطنة الدولية الغربية في الشرق الأوسط. كل هذا لا يعني أن الغرب عاجز من حيث القوة، وإنما عاجز في تغليف هذه القوة أخلاقيا، فيُضطر لاستعراضها عارية!!

نزع السياق

في ظل هذا الجنون، وكسر التوازن النسبي المعهود (لم يكن عادلاً بأي حال)، يقوم موقف الغرب تجاه ما يجري في غزة اليوم على فكرة "نزع السياق".

وهذه الفكرة جوهرية في الخطاب والتصريح السياسي والإعلامي منذ بدء الحرب. وذلك من أجل تسهيل محاكمة المشهد كحالة معزولة عن التاريخ الطويل والمفضوح للاحتلال والدعم الغربي له. إن نزع السياق هو تكتيك يجعل النقاش بالضرورة ساقطا ذاتيا (Self-defeated)، ويضع النتائج قبل المقدمات، ويطالبك بالتسليم سلفا بوجهة نظره قبل مناقشتها.

لقد لاحظنا إستراتيجية معظم وسائل الإعلام الغربية، والتي بدا كأن بينها اتفاقا، عند حوار أي طرف فلسطيني أو متضامن مع القضية الفلسطينية كيف تبحث عن إدانته قبل التحاور معه. فتبدأ بسؤال الإقرار لا الكيف، هل تؤيد أم لا تؤيد ما حصل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول؟!

وفيما يرغب الإعلام عادةً في بناء الفهم من أجل أن يصل المشاهد نفسه لتطوير حكم منطقي، كانت السردية الغربية الرسمية وتيارها الإعلامي السائد في معركة لمنع بناء عملية منهجية للحكم من خلال نزع السياق.

باتت مقارنة أوكرانيا بفلسطين وازدواجية المعايير مستفزة لوسائل الإعلام الغربية، لدرجة أن الإعلامي أو السياسي يمكنه منع ذلك بوضوح كجزء من الإطار التحريري. وفي بعض الحوارات الأكاديمية كان الامتناع عن المقارنات شرطا مسبقا للنقاش.

المقارنة التي هي منهج علمي بالمناسبة قبل أن تكون وسيلة معرفية في مستويات إعلامية أو سياسية. بل إن المقارنة حقل دراسي قائم بذاته، وهو أفضل المناهج وأيسرها من أجل تحصيل معرفة منطقية وبناء أحكام راشدة.

لا يرى المتابع للنقاش المحتدم في الغرب إلا بوادر انقسام كبير في نسيج بلادٍ امتازت طوال عقودها الماضية في قدرتها على إدارة التنوع واستثماره. اللاجئون نوعان، واحد يشبهنا والآخر لا، بحسب القدرة على تشغيل الغسالة الآلية.

الجنس البشري ثلاثة، وممكن أكثر حسب الرغبة. أما القتل ففكرتان، واحدة دفاع عن النفس، والأخرى بربرية، حسب القاتل والمقتول. وهي سرديات لا يمكن الدفاع عنها إلا من خلال نزع السياق، وعزل الوقائع عن المقارنات!

ولأجل ذلك تُبث روح من التخويف بالعقاب والتجريد من الحقوق الأساسية وخسارة الفرص، إن لم يكن بواسطة القانون، فمن خلال وسائل تشويه السمعة والشيطنة التي تقود للنتيجة ذاتها. تجري تعديلات قانونية تناقض جوهر الديمقراطية، القيمة الذهبية التي يقوم عليها نظام التفوق الغربي.

كما تجري تقسيمات نمطية سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا داخل المجتمعات المحلية، تتولد عنها ظواهر لا يمكن أن تمر دون أن تعكس التراجع، وهذا التراجع بحد ذاته قد يصلح سياقا موضوعيا لفهم موقف الغرب من المجزرة التي ترتكبها مستعمرته في غزة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ما بعد من أجل

إقرأ أيضاً:

صحيفة روسية: انضمام أصدقاء أميركا للبريكس يقلق الغرب

تناول تقرير نشرته صحيفة "نيوز ري" الروسية تزايد طلبات الانضمام لمجموعة "بريكس" وإثارة هذا الأمر لقلق الغرب، وما يمكن أن تحققه هذه المجموعة من تغييرات في العلاقات بين دول العالم.

وقال التقرير، الذي كتبته يلينا فاسيلتشينكو ومارينا إميليانتسيفا إن عدد الدول التي ترغب في الانضمام إلى "بريكس" يتزايد باستمرار، حيث قدمت ماليزيا وتايلند طلبات للانضمام مؤخرا، وأعربت تركيا عن رغبتها في التعاون مع المجموعة، وهناك أكثر من 30 طلبا من دول ترغب في الانضمام.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أفريكا إنتليجنس: الحرس القديم لعمر البشير في صفوف حميدتيlist 2 of 2فايننشال تايمز: هل تسعى إسرائيل لإنشاء "منطقة ميتة" في لبنان؟end of list

ونقل التقرير عن خبراء قولهم إن شعبية هذه المجموعة تثير قلق الغرب الذي سيحاول عرقلة تطورها، لأن قوة هذه المجموعة ستتسبب في إضعاف النظام الدولي القائم، والذي يصب في مصلحة الغرب.

نظام دولي عادل

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أكد أن "بريكس" تمثل قاطرة لبناء نظام دولي عادل وديمقراطي قائم على مبدأ المساواة الحقيقية وخالٍ من الإملاءات والضغوط القسرية.

ونسب الموقع إلى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قوله إن بلاده ترغب في الانضمام إلى المجموعة واصفا إياها بأنها منصة بديلة للتعاون الاقتصادي.

ووصف مدير مركز دراسات تركيا الحديثة في معهد الاستشراق الروسي، أمور غادجييف، فكرة المنصة البديلة للتعاون الاقتصادي بأنها تتماشى تماما مع السياسة الخارجية لأنقرة، مشيرا إلى أن الشركاء الغربيين لا يعتبرون تركيا شريكا كاملا، مما يدفعها للانضمام إلى "بريكس" رغم عضويتها في حلف "الناتو" والعقوبات المحتملة.

ويرى ألكسندر تولماشيف نائب الدوما "البرلمان الروسي"، وفقا للتقرير، أن شعبية "بريكس" المتزايدة مرتبطة بتفرّدها، موضحا أن الدول تبحث عن مراكز قوة سياسية واقتصادية جديدة قادرة على وقف الفوضى في العلاقات الدولية، وهو ما تقدمه المجموعة بتمثيلها العالمي وانتشارها.

ومن شأن توسع "بريكس" أن يعود بالنفع على روسيا، حيث إن زيادة عدد الدول الأعضاء يمنحها المزيد من الفرص للحفاظ على توازن القوى على الصعيد العالمي.

لا تهيمن عليها دولة واحدة

ويعتقد فلاديمير كوزولين، مدير مركز الأكاديمية الدبلوماسية في وزارة الخارجية الروسية، أن الدول تنجذب إلى "بريكس" بسبب مبدأ المساواة الذي تروّج له. وأضاف أن دول الجنوب العالمي ترغب في المشاركة بشكل أكبر في حل القضايا العالمية، وأن بريكس لا تتبنى هيمنة دولة واحدة، بل تُتخذ جميع القرارات بالتوافق، وتضم المنظمة دولا ذات ديانات وأنظمة سياسية مختلفة، مما يجعلها تعمل لصالح الجميع.

وأشارت وكالة "بلومبيرغ" الإخبارية إلى أن التوسع النشط لـ"بريكس" منح روسيا والصين نقاطا سياسية في مواجهتهما مع الغرب. وسعي المزيد من الدول الآسيوية للانضمام إلى المنظمة يظهر خيبة أملهم من النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والمؤسسات الغربية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

ويقول وزير الخارجية الماليزي السابق، سيف الدين عبد الله، إن بعض الدول، بما فيها دولته نفسها، يرون أنه يجب إيجاد حل لمشكلة النظام المالي والاقتصادي الدولي غير العادل، وأن "بريكس يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق بعض التوازن".

سيحاول عرقلتها

وأشار كوزولين إلى أن الغرب لم يأخذ بريكس على محمل الجد في البداية، وواجهت المنظمة انتقادات بسبب عدم وجود ميثاق خاص بها أو هيئة إدارية أو ميزانيات لدعم أنشطتها. ولكن الأمور تغيرت في الآونة الأخيرة حيث بدأت دول ذات موارد مالية كبيرة وسياسات مستقلة بالانضمام إليها، مما جعلها تجذب الدول الأخرى.

وتوقع التقرير أن يحاول الغرب بقيادة الولايات المتحدة، عرقلة توسع "بريكس" عن طريق التأكيد على عيوبها واعتبارها ناديا للاهتمامات وليس منظمة، بالإضافة إلى محاولة التأثير على الدول التي تفكر في الانضمام إلى "بريكس" لجذبها إلى كتلهم الخاصة.

مقالات مشابهة

  • أحزاب سياسية تشيد بتخصيص 60% من أرباح مهرجان العلمين لدعم غزة
  • مجلة بولندية تشيد بظاهرة فريدة للاقتصاد الروسي
  • «السياسة الدولية» تناقش مرتكزات الدولة المصرية تجاه قضية فلسطين وتداعيات الصراع الإيراني - الإسرائيلي
  • أول رد فلسطيني على خطة تسليم غزة لقوات دولية
  • الرئاسة الفلسطينية ترد على التصريحات الإسرائيلية بتسليم قطاع غزة لقوات دولية
  • فلسطين تدعو لاجتماع عربي طارئ بشأن استيطان الضفة والحرب على غزة
  • الرئاسة الفلسطينية توضح موقفها من تسليم غزة لقوات دولية
  • باحث في العلاقات الدولية: المملكة وضعت الأمور في نصابها الصحيح للضغط على الدول الصديقة للقيام بواجباتها تجاه فلسطين
  • فلسطين تطلب عقد اجتماع عربي طارئ لبحث مواجهة "الجرائم" الإسرائيلية
  • صحيفة روسية: انضمام أصدقاء أميركا للبريكس يقلق الغرب