عبدالرزاق الربيعي يكتب: “غزّة”؛ زمن العبور إلى ضفّة الحلم
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
أثير- عبدالرزّاق الربيعي
وصفها ابن بطوطة حين زارها سنة 1355م بأنها” كبيرة ومزدحمة بالسكان وفيها العديد من المساجد”.
تلك هي مدينة غزة التي تعدّ إحدى أهم المدن الفلسطينية ذات تاريخ عريق، فقد أسّسها الكنعانيون في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وتسمّى ( غزّة هاشم) لوجود قبر هاشم بن عبد مناف الجد الثاني للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أما كيف انتقل من الجزيرة ووصل إلى غزة؟ فالجواب البديهي أن (غزّة) كانت مركزا للطرق التجارية، وتتّجه (رحلة الصيف) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، إلى الشام وتتمركز في (غزة)، أمّا (رحلة الشتاء)، فقد كانت تمضي إلى اليمن، فمن المرجح أن يكون (هاشم بن عبد مناف) في (غزة)، وعندما أدركته المنيّة، دُفن فيها، وهي مسقط رأس الإمام الشافعي سنة 767م.
وإلى جانب ثقلها السكاني، والتاريخي والاقتصادي، لغزة ثقل آخر هو ثقل إنسانها المليء بالعزيمة، والإصرار على بلوغ الهدف، يقول الشاعر محمود درويش في مقال له حمل عنوان” صمت من أجل غزّة” نشره قبل حوالي عقدين أنّ (غزّة) “تعادل تاريخ أمّة ” ليس لأنها أجمل المدن، ولا أكبرها وأرقاها، بل لكونها” لن تقول للغزاة: نعم، وستستمر في الانفجار ” فهذا هو “أسلوب غزّة في إعلان جدارتها بالحياة”، وتعود (غزّة) لتحقّق نبوءة الشاعر الذي غادر عالمنا في التاسع من أغسطس 2008م بعد سنوات من رحيله، هذه النبوءة ليست بعيدة عن نبوءة الطغرائي، الذي عاش قبل تسعة قرون حين تحدّث عن انتصار شباب غزّة، في قصيدة له، كما كتب الدكتور ضياء خضير في صفحته، مشيرا إلى أن القصيدة تبدو كأنّها مكتوبة اليوم، وليس هذا بغريب، فقد عاش الطغرائي، والكلام للدكتور ضياء، ” شطرا من حياته في ظلّ السلاجقة في الموصل غير بعيد عن فلسطين” التي كانت وما زالت مركزا للأحداث، فقال :
سيُغلب الجمعُ ثم الذلُّ ملبسهمْ
وإن تعالوا وإن قد جمَّعوا العَتَدا
بالأمس نرمي الحصى واليوم قد كبرت
أشبالُ غزّة حتى أحمكوا السددا
وما رميتَ ولكنّ الإله رمى
بعزِّهِ وحَبَاكَ الجُندَ والعددا
لقد كبر (أشبال غزّة ) وكبرت أحلامنا وتوهّج حماسنا الذي اشتعل قبل نصف قرن في حرب السادس من أكتوبر حين انهار (خط بارليف) تحت أقدام الجنود، وللشاعر حميد سعيد قصيدة عنوانها (الحضور) كتبها في عام 1973م، قبل حرب أكتوبر، وأهداها (إلى الثوار الذين يعبرون صوب بيوتهم في فلسطين) يقول فيها ” الوجوه التي ترحل الآن صوب فلسطين..
فمن بين يافا وقلبي يمرون ..
وغدا يكبرون
يرسمون
على حافّة الكتب المدرسية أحلامهم”
إنه زمن العبور إلى ضفة الحلم الذي تتصدّره (غزّة) .
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
ضياء الدين بلال يكتب: القوة الخفية التي هزمت حميدتي (2-2)
سألني كثيرون عن عدم ذكر شرائح مجتمعية مهمة كان لها إسهام كبير في هزيمة مشروع حميدتي الانقلابي.
لكن القائمة التي أوردتها لم تكن حصرية لمصادر القوة الخفية الناعمة في الدولة السودانية، بل كانت مجرد نماذج، دون أن يعني ذلك امتيازها على الآخرين.
بدأت أشعر بالقلق من أن معارك جديدة ستنشب بعد الحرب الحالية، محورها: من صنع النصر؟ ومن كانت له اليد العليا فيه؟!
لا شك أن هناك من لعبوا أدوارًا مركزية في هزيمة مشروع الميليشيا بعيدًا عن الأضواء، وسيأتي ذكرهم في يوم ما.
بعض الأصدقاء والقراء لاموني على عدم ذكر مشاركة السلفيين وجماعة أنصار السنة، وآخرون تساءلوا عن عدم الإشارة إلى دور الشعراء وكبار المغنيين، مثل الرمز والقامة عاطف السماني.
أما اللوم الأكبر فجاء من عدد كبير من القراء، بسبب عدم التطرق لدور الإعلاميين، لا سيما في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.
نعم، لم تكن الحرب التي اندلعت في السودان يوم 15 أبريل 2023 مجرد مواجهة عسكرية تقليدية بين جيش نظامي ومجموعة متمردة، بل كانت حربًا شاملة استهدفت الدولة والمجتمع معًا.
فبينما كانت الرصاصات والقذائف تحصد الأرواح، كانت هناك معركة أخرى، لا تقل ضراوة، تدور في ميدان الوعي والمعلومات، حيث لعب الإعلام الوطني الحر دورًا محوريًا في التصدي لهذا المشروع الغاشم.
في بدايات الحرب، أصيبت مؤسسات الدولة بالشلل، وغابت الأجهزة التنفيذية والإعلام الرسمي.
أما القوات المسلحة، فكانت محاصرة بين الهجمات الغادرة ومحاولات التمرد فرض واقع جديد بقوة السلاح.
وفي تلك اللحظة الحرجة، برز الإعلام كسلاح أمضى وأشد فتكًا من المدافع، يخوض معركة الوعي ضد التزييف والخداع، ويقاتل بالحجة والمنطق لكشف الحقائق ودحض الأكاذيب.
راهن المتمردون ومناصروهم على التلاعب بالسردية الإعلامية، فملأوا الفضاء الرقمي بالدعاية والتضليل، محاولين قلب الحقائق وتقديم أنفسهم كقوة منتصرة تحمل رسالة الحرية والديمقراطية.
لكن الإعلام الوطني الحر كان لهم بالمرصاد، فكشف فظائعهم، وفضح انتهاكاتهم، وعرّى أكاذيبهم.
لم تعد جرائمهم مجرد روايات ظنية مبعثرة، بل حقائق موثقة بالصوت والصورة، شاهدة على مشروعهم القائم على النهب والدمار وإشاعة الفوضى.
لم يكتفِ الإعلام بتعرية التمرد، بل حمل لواء المقاومة الشعبية، فكان منبرًا لتحفيز السودانيين على الصمود، وحشد الطاقات، وبث روح الأمل.
اجتهد الإعلام الوطني في رفع معنويات الجيش، مؤكدًا أن هذه ليست نهاية السودان، وأن القوات المسلحة ستنهض مهما تكالبت عليها المحن، وأن الشعب ليس متفرجًا، بل شريك أصيل في الدفاع عن وطنه.
لم يكن هذا مجرد تفاعل إعلامي عابر، بل كان إعادة تشكيل للوعي الجمعي، وصناعة رأي عام مقاوم يحمي السودان من السقوط في مستنقع الفوضى.
ومع مرور الوقت، استعاد الجيش أنفاسه، وعاد أكثر تنظيمًا وقوة، والتحم بالمقاومة الشعبية التي بشّر بها الإعلام.
وهكذا، تحولت الحرب من مواجهة بين جيش ومتمردين إلى معركة وطنية كبرى ضد مشروع تدميري عابر للحدود.
لقد أثبت الإعلام الوطني أن الكلمة الصادقة، حين تكون في معركة عادلة، تملك من القوة ما يعادل ألف طلقة، وأن الوعي، حين يُدار بذكاء وصدق، يصبح درعًا لا يخترقه التضليل، وسيفًا يقطع أوهام الباطل من جذورها.
هكذا انتصر السودان في معركة الوعي، وهكذا هُزم التمرد قبل أن يُهزم في ميادين القتال.
ضياء الدين بلال
إنضم لقناة النيلين على واتساب