طوفان الأقصى يعري أطروحات الاستشراق الجديد في إيطاليا
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
تورينو- عملية "طوفان الأقصى" هدمت أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، وشاهد العالم بأسره ذلك يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل نسفت أيضا ثنائية تاريخية صمدت في إيطاليا لعقود طويلة اسمها اليمين واليسار.
ذانك الفصيلان اللذان اتفقا على ألا يتفقا في أي شأن سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي كان، اجتمعا يوم الـ10 من أكتوبر/تشرين الأول تحت قبة البرلمان الإيطالي للوقوف مع إسرائيل، وهو ما نوه به ماتيا فيلتري، مدير موقع "هاف بوست إيطاليا"، مشيرا بفخر إلى أن إيطاليا "تقف على الضفة الصحيحة للعالم".
من جهته، خصص فرانتشيسكو بورغونوفو نائب رئيس تحرير الجريدة اليمينية "لافيريتا" مقاله ليوم 11 من أكتوبر/تشرين الأول للحديث عما أسماه "تبرّؤ اليسار من حلفائه المسلمين" عقب هذه الحرب، حيث ذكّر بورغونوفو قُرّاءه بأن القضية الفلسطينية طالما كانت مدعومة من اليسار الإيطالي، قبل أن يقرر التقدميون وعلى رأسهم أكبر الأحزاب اليسارية في البلاد (الحزب الديمقراطي)، أن المقاومة الفلسطينية "فصيل فاشي يعتنق أيديولوجيا يمينية متطرفة".
ساحة "مريضة بالأيديولوجيا"والواقع أن اليسار الإيطالي عمل طيلة عقود على تقديم سردية مشوهة عن القضية الفلسطينية أسقط منها عمدا أحد أهم عناصر الهوية الثقافية الفلسطينية، ألا وهو الدين، واعتبره "مكونا رجعيا" في حياة الشعوب ينبغي تفكيكه، وهكذا ركزت الساحة الثقافية اليسارية "المريضة بالأيديولوجيا" -بحسب توصيف الشاعر الإيطالي دافيدي روندوني- كل جهودها البحثية والترجمية للترويج أمام الرأي العام الإيطالي لـ"ثقافة فلسطينية وعربية" مزيفة وصلت حد محاولات تسويقها في السنوات الأخيرة على أنها ثقافة إلحادية ونسوية راديكالية مؤمنة بقضايا ما يعرف بالنوع الاجتماعي (الجندر) والمثلية الجنسية.
وعلى الرغم من أن هذه السردية الهشة والمتساقطة لم تكن تقنع حتى أصحابها، فإنها كانت تمر على بعض الفئات من أنصار اليسار الراديكالي الذين بدوا "مصدومين كليا" بعملية "طوفان الأقصى"، ولا غرابة في ذلك لأنهم خضعوا لسنوات من التضليل الذي جعلهم لم يتقبلوا صور رجال مسلحين يدافعون عن أرضهم، لأنهم ربما تعوّدوا فقط على صور نساء بشعر أزرق ورجال يرتدون الكعب العالي يُطلقون "صرخات متحولين جنسيا ينشدون الحرية".
ويضاف إلى ما سبق أن الديانة الإسلامية في إيطاليا تتعرض للرقابة، ليس فقط من اليمينية، بل من طرف اليسار نفسه أيضا، لأسباب أيديولوجية تتعلق باحتقار المكون الديني واعتبار المقدس عنصر تفرقة بين الشعوب. وهذا الحظر الثقافي أثّر على نحو بالغ في وصول الصورة الحقيقية للقيم المجتمعية الفلسطينية إلى إيطاليا، وهو ما ظهر في كيفية تلقّي المَشاهد الأولى لعملية "طوفان الأقصى".
فعلى الرغم من أن جريدةً كبرى تعد هي الأكثر انتشارا في إيطاليا ("كورييري ديللا سيرا") نشرت فيديو على صفحتها بفيسبوك يُظهر مقاومين وهم يهدئون من روع سيدة إسرائيلية مع ابنيها وإظهار عدم تعرض الفلسطينيين لها إذعانا لأوامر دينية، فإن التعليقات السلبية التي حصدها الفيديو تؤكد العطب الذي ألحقه "أصدقاء فلسطين السابقون" -على حد تعبير بورغونوفو- بالشخصية الفلسطينية من خلال مراكمة سرديات مضادة للدين على مدى سنوات في مخيال المتلقي الإيطالي بشأنها.
هذا العطب حال بين المتلقي الإيطالي وتقبّل فيديو واضح لا لبس فيه عن مقاوم فلسطيني لم يؤذِّ أُما وأبناءها لدواع دينية. ليستحضر المتلقي بدلا من ذلك صور "الأبوية" و"الذكورية المتعفنة"، والصور المروجة لكراهية النساء، وكل التنظير الأيديولوجي الببغائي الذي لا تخلو منه أي دراسة إيطالية عن فلسطين والعالم العربي.
رقابة سلطويةفهل نحن أمام عملية ذهنية تم التحضير لها ونحتها لسنوات من أجل الوصول إلى هذا العمق من نكران الحقائق، حتى لو كانت مسجلة بالصوت والصورة، عندما يتعلق الأمر بالثقافة العربية؟ وهل اليمين هو المسؤول عن ذلك بوصفه "الشر المطلق" في إيطاليا، كما يحاول أن يوحي بذلك اليسار باستمرار، مقدما نفسه على أنه المنافح الوحيد عن الثقافة العربية والإسلامية في الغرب؟
في تصريح جريء لها على بودكاست "فيه ما فيه" مع الإعلامي الفلسطيني سائد نجم أكدت الباحثة الإيطالية في الأدب العربي يولندا غواردي أن الجامعة في إيطاليا "أداة سلطوية تفرض رقابة على الباحثين" وأن هناك مواضيع محددة فقط هي ما يُسمح بمناقشتها بشأن المنطقة العربية.
أما إن حاول الباحث التغريد خارج السرب فستتراوح الإجراءات العقابية في حقه من الإقصاء من المشاركة في الملتقيات، إلى الحرمان من الترقية الوظيفية أو عدم التعيين أساسا.
وذكرت الباحثة أنها هي نفسها دفعت ثمنا غاليا جدا لقاء حريتها الفكرية. هذا التصريح يأخذ أبعادا مُدويّة عندما نعلم بأن مفاصل الجامعة الإيطالية في مبحث الإنسانيات تحديدا يسيطر عليها اليسار وليس اليمين.
يجعلنا هذا المعطى نتساءل إن كانت المنظومة الاستشراقية الأكاديمية قد عادت للعمل في الغرب من بوابة اليسار من أجل تبرير حملات عسكرية حقيقية تقوم بها حاليا إسرائيل ضد فلسطين على النحو الذي نظّر له المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل إدوارد سعيد.
فإن نحن عدنا قليلا إلى آخر الإصدارات بخصوص فلسطين باللغة الإيطالية، سنجد مثلا أنها لا تخلو من التذكير بتحالف الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين مع النظام الفاشي دون أن يتم وضع سياق هذا التحالف في إطاره التاريخي، وهو الذي كان يعد خطوة إستراتيجية لا بد منها آنذاك للطرف الفلسطيني باعتراف مؤرخين إسرائيليين، على غرار المؤرخ اليهودي البارز آفي شلايم. إلا أن "الأصدقاء" اليساريين في إيطاليا لم يجدوا مانعا في التذكير به بلا أي مناسبة، بل والتنديد به بأثر رجعي.
"الفاشية الجديدة"الفلسفات والاتجاهات المعادية للدين الإسلامي، والتي يُعدها اليسار الإيطالي ويدسها في كتب يُروّج لها على أنها صديقة للعرب والمسلمين، نجد أنها هي ما مهّد لأطروحة "الفاشية الفلسطينية" الأخيرة التي اعتنقها رسميا يساريو إيطاليا من خلال أحد أبرز الصحفيين المختصين بما يعرف باسم "الفاشية الجديدة" باولو بيريزي في مقال على جريدة "لاريبوبليكا" اليسارية، ذهب فيها للتأكيد على أن "الفاشية الجديدة تتحالف مجددا مع الإرهابيين". والإشارة هنا تعود إلى حزب "فورزا نووفا" من أقصى اليمين (غير الممثل في البرلمان الإيطالي) والذي وقف رئيسه روبيرتو فيوري مع حماس معلقا على الحرب الأخيرة بالقول إنه "لا سلام بلا عدل".
"الغوغائية" اليسارية حوّلت في اليومين الأخيرين جميع من يصطف مع الحق الفلسطيني في المقاومة إلى عنصر "فاشي رجع إلى أصله المعادي للسامية".
أما معسكر أصدقاء فلسطين اليساري الراديكالي الذي احتضن طيلة سنوات أطروحات الاستشراق الجديد عن قِصر نظر منه، أو طمعا في الحصول على فُتات بعض الامتيازات من حلفائه في معسكر اليسار المعتدل المعروف بالتصهين، فقد كان التخبط والارتباك والحرج سيد الموقف عندهم منذ الساعات الأولى لعملية طوفان الأقصى تبعتها محاولة الخروج بموقف بكائي في انتظار الرد الإسرائيلي.
"أصدقاء فلسطين"اللحظة الفلسطينية الكبيرة التي أفلتها "أصدقاء فلسطين" التاريخيون، قبض عليها باقتدار أليساندرو أورسيني، أستاذ علم الاجتماع المختص بالإرهاب الدولي، حين كتب على صفحته بفيسبوك دون مواربة أو محاولة استدرار دموع أحد أن نتنياهو يمارس إرهاب دولة وأنه لا بديل آخر أمام الفسطينيين سوى حمل السلاح.
الباحث البارز الذي أصبح منذ سنتين منبوذا في وسائل الإعلام الإيطالية بسبب تحليلاته السياسية التي لا تتوافق مع سردية التيار السائد التي ترعاها الصالونات اليسارية في إيطاليا، ذكر في حوار له يوم أمس على القناة الرابعة (التابعة لشبكة ميدياست اليمينية التي أسسها رئيس الوزراء الإيطالي الراحل سيلفيو بيرلوسكوني) أن "حياته المهنية تدمرت حرفيا" منذ فترة، وأنه يعاني من إجراءات انتقامية في الجامعة وضغوط رهيبة قد تدفعه عاجلا أو آجلا للبحث عن عمل خارج إيطاليا.
تصريحات أورسيني التي تلتقي مع تصريحات غواردي تُحيلنا لسؤال كبير يتعلق بالقدرة على إيصال الصورة الحقيقية لِما يحدث أمام الرأي العام الإيطالي في ضوء كل ما تتعرض له الأصوات المغردة خارج السرب من محاولات تضييق وخنق، وفي ظل عودة قوية للمنظومة الاستشراقية من الباب الخلفي.
أسماء جريئةبعيدا عن الأنشطة والإصدارات الأكاديمية التي يحوم حولها الكثير من الشبهات فيما يخص القضايا العربية، من خلال مؤلفات ملغمة وملتقيات مفخخة، تظهر بالمقابل أسماء جريئة في المشهد الاعلامي، على غرار رومانا روبيو رئيسة تحرير النسخة الإيطالية من صحيفة "بالستاين كرونيكل".
الصحفية الإيطالية التي يُحسب لها الانحياز التام للمقاومة الفلسطينية منذ الدقائق الأولى لـ"طوفان الأقصى"، يُعرف عنها أنها الصحفية الوحيدة في المشهد الإيطالي التي تعتمد السردية الفلسطينية النقية بعيدا عن أي محاولة لتلوينها بأيديولوجيات الموضة السائدة، وقد صدرت لروبيو مؤخرا ترجمة لكتاب الصحفي الفلسطيني رمزي بارود "الأرض الأخيرة"، وهي من الترجمات القليلة جدا التي لم توظّف سياسيا للطعن في مكونات الهوية الثقافية الفلسطينية والعربية في إيطاليا.
وتبقى للمفارقة، الأصوات غير المحسوبة على اليسار أو أصوات اليمين نفسها هي الأقدر على التأثير الإيجابي في الرأي العام الإيطالي حول القضايا العربية. وإذ تجدر الإشارة للصدى الذي تركه منشور فيتوريو زغاربي، وكيل وزارة الثقافة في حكومة ميلوني، الذي وصف الأعمال التي تقوم بها إسرائيل في الرد على حماس بأنها إرهابية. والأمر هنا يتعلق بأحد أشهر نقاد الفن في إيطاليا وأكثرهم تأثيرا في الساحة الثقافية.
في المقابل، نجد اليسار الإيطالي الذي لا ينشر حاليا مثقفوه المتعصّبون أيديولوجيا سوى الجهل والسطحية على حد تعبير الشاعر الإيطالي دافيدي روندوني، يكشف عن وجهه الحقيقي بعد سعيه طيلة سنوات لتدجين الصوت العربي ومحاولة الاستئثار برسم صورة الفلسطيني وصياغة سرديات كاذبة عنه تَخضع لأيديولوجيا مكروهة شعبيا. وهي نفسها الأيديولوجيا التي دفعت الناخب الإيطالي قبل سنة لإعطاء صوته لليمين، والتي تحاول الآن تسويغ إبادة الشعب الفلسطيني ومقاومته بدعوى محاربة الفاشية.
فهل آن الأوان لفتح ملفات هؤلاء المستشرقين الجدد والكلام بالتفصيل عن الفظاعات الثقافية التي ارتكبوها في حق فلسطين والعالم العربي في السنوات الأخيرة؟ أو أن "طوفان الأقصى" سيدفع هؤلاء تلقائيا للتنحي جانبا مُخرجا للمشهد أسماء تمثل مفاجأة، تقف في صف الحق الفلسطيني، وقد تأتي من ضفاف غير متوقعة؟!
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: طوفان الأقصى فی إیطالیا على أن
إقرأ أيضاً:
التقاطع المزراحي الفلسطيني الذي لا يتحدث عنه أحد
#التقاطع_المزراحي #الفلسطيني الذي لا يتحدث عنه أحد
الدكتور #حسن_العاصي
أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا
قد لا توجد كلمة أكثر كراهية في الوقت الحالي بين صفوف اليمين الصهيوني والمحافظين الأميركيين من “التقاطعية”. حيث يُنظَر إلى التقاطعية باعتبارها “نظام الطبقات الجديد” الذي يضع الأشخاص غير البيض وغير المغايرين جنسياً في القمة.
مقالات ذات صلة زيلينسكي في واشنطن: صفقة بلا توقيع… وسلام بلا ملامح 2025/03/01بالنسبة لليمين تعني التقاطعية أنه لأنك أقلية، تحصل على معايير خاصة، ومعاملة خاصة في نظر البعض. إنها تعزز الأنانية على المستوى الشخصي والانقسام على المستوى الاجتماعي. وتمثل شكلاً من أشكال النسوية التي تضع علامة عليك. إنها تخبرك بمدى اضطهادك. إنها تخبرك بما يُسمح لك بقوله، وما يُسمح لك بالتفكير فيه. وبالتالي فإن التقاطعية “خطيرة حقًا” أو “نظرية مؤامرة للضحية”.
وهذا مستوى غير عادي للغاية من الازدراء لكلمة كانت حتى قبل عدة سنوات مصطلحًا قانونياً غامضاً نسبياً خارج الدوائر الأكاديمية.
إن التقاطعية، في النظرية الاجتماعية، التفاعل والآثار التراكمية لأشكال متعددة من التمييز تؤثر على الحياة اليومية للأفراد، وخاصة النساء الملونات. يشير المصطلح أيضًا على نطاق أوسع إلى إطار فكري لفهم كيفية تفاعل جوانب مختلفة من الهوية الفردية – بما في ذلك العرق والجنس والطبقة الاجتماعية والجنسانية – لخلق تجارب فريدة من الامتياز أو القمع.
أصل مصطلح التقاطعية
صاغت “كيمبرلي كرينشو” Kimberlé Crenshaw وهي مدافعة أمريكية بارزة عن الحقوق المدنية وباحثة رائدة في نظرية العرق النقدية، مصطلح التقاطع في مقالها عام 1989 بعنوان “إزالة التهميش عن تقاطع العرق والجنس: نقد نسوي أسود لعقيدة مكافحة التمييز والنظرية النسوية والسياسة المناهضة للعنصرية”. قدمت كرينشو المفهوم لمعالجة تجارب القمع التي لا يمكن فهمها بشكل كافٍ كنتيجة لأنماط عادية من التمييز. وقد كررت فائدة المفهوم في مقالتها عام 1991 بعنوان “رسم خريطة الهوامش: التقاطعية، وسياسات الهوية، والعنف ضد النساء الملونات”.
نشأ عمل كرينشو كرد فعل على القيود المفاهيمية التي حددتها في المناقشات بين النسويات ومناهضي العنصرية خلال الثمانينيات. وزعمت أن تجارب النساء السود تتشكل من خلال مزيج من التحيزات القائمة على العرق والجنس، مما يؤدي إلى تقارب مميز بين التمييز والحرمان. كما زعمت أن مثل هذه التجارب لا يمكن معالجتها أو علاجها بشكل مناسب من خلال الأنظمة القانونية والاجتماعية التي تقيم التمييز العنصري والجنسي بشكل منفصل.
قبل كرينشو بوقت طويل، وضع عالم الاجتماع الأمريكي الأفريقي “ويليام إدوارد بورغاردت دو بوا” William Edward Burghardt Du Bois نظرية حول كيفية تعزيز فئات العرق والطبقة والثقافة للتمييز والطبقية الاجتماعية بشكل متبادل، على الرغم من أنه لم يدرج الجنس صراحة في تحليله. في سبعينيات القرن العشرين، تناولت “مجموعة كومباهي ريفر” Combahee River Group وهي مجموعة من النسويات الاشتراكيات من السود المثليات، بشكل ملحوظ “القمع المتشابك” للعنصرية والتمييز على أساس الجنس والمعيارية الجنسية، مما أدى إلى تطوير الأساس للتفكير التقاطعي.
تم توسيع مفهوم التقاطعية منذ ذلك الحين إلى ما هو أبعد من إطاره الأولي للعرق والجنس. وهو يشمل الآن مجموعة واسعة من التصنيفات الاجتماعية، مثل الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، والتوجه الجنسي، والعمر، والإعاقات الجسدية أو الفكرية، وأبعاد أخرى للهوية الفردية. تؤكد التقاطعية على أن الأبعاد المختلفة للهوية ليست معزولة عن بعضها البعض؛ بل إنها تتشابك وتتداخل بطرق معقدة، مما يؤدي إلى مزايا، أو عيوب مميزة، أو فوائد، أو أضرار.
قدمت كرينشو التعريف التالي للتقاطع: “التقاطع هو استعارة لفهم الطرق التي تتراكم بها أشكال متعددة من عدم المساواة أو الحرمان أحيانًا وتخلق عقبات غالبًا ما لا يتم فهمها بين طرق التفكير التقليدية.”
لم يدخل مصطلح “التقاطعية” في الاستخدام اليومي بعد، ولكن الوعي به يتزايد في السياقات الأكاديمية وصنع السياسات. ومن الضروري أن يتم تعريف المصطلح بوضوح قبل تطبيقه على صنع السياسات، وفهم الآثار المترتبة على البحث وتحليل البيانات.
التقاطع المزراحي الفلسطيني
منذ أن أطلق اليهود المزراحيون عبارة “نحن ندافع عن ضحايا عنف الدولة الإسرائيلية” أثارت هذه المقولة حالة من الجنون في الأوساط السياسية، وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وهذه الفكرة تستند إلى عقيدة مفادها أن اليهود يجب أن يتضامنوا مع الفلسطينيين لأن تحرر اليهود مرتبط بشكل جوهري بتحرير الفلسطينيين. قد يبدو هذا الأمر غريباً للمتلقي، لكنه ليس كذلك. فبسبب تركيز اليهود على التاريخ السائد المتمركز حول يهود الأشكناز الغربيين، تم تجاهل إلى أي مدى تعود هذه الفكرة بين المزراحيين، اليهود من الأراضي العربية.
لم يكونوا يستخدمون مصطلح “التقاطعية” في ذلك الوقت بالطبع لكن المزراحيين كانوا يطورون سياسة وثقافة تقاطعية قوية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. وبينما كانوا يناضلون في “المعبروت” أي معسكرات العبور، رأى العديد من المثقفين والفنانين المزراحيين أن مصيرهم مرتبط بشكل لا ينفصم بمصير العرب الأصليين، الذين لم يتشاركوا معهم العلامات الثقافية مثل اللغة العربية فحسب، بل شاركوا أيضاً تجربة المعاناة القاسية والتمييز على يد الحكومة الإسرائيلية.
عكست منشوراتهم هذه النظرة التقاطعية البدائية. في عام 1953، أنشأ المثقفون الناطقون باللغة العربية مجلة الجديد، وهي مجلة تضم الشعر والرواية التي كتبها اليهود الشرقيون مثل اليهودي من أصل عراقي “ساسون سوميخ” Sasson Somekh والعرب مثل الشاعر العربي الفلسطيني “توفيق زياد”. وقال المحررون إنهم يريدون تسليط الضوء على التمييز ضد المزراحيين والعرب “من منطلق روح تأسيس التضامن العربي اليهودي، وفقًا لكتاب أستاذ الدراسات اليهودية الأمريكي “بريان روبي” Bryan Roby الذي صدر عام 2015 بعنوان “عصر التمرد الشرقي: نضال إسرائيل المنسية من أجل الحقوق المدنية” The Mizrahi Era of Rebellion: Israel’s Forgotten Civil Rights Struggle.
وفي حين أكد المزراحيون، مثل المؤرخ الإسرائيلي “جدعون جلعادي” Gideon Giladi وشرح المؤرّخ في كتاب “الخلاف في صهيون” Discord in Zion كيف ساعد الاستعمار البريطاني الصهيونيّة العالميّة بالسيطرة على اليهود المحليين وتوطيد أسس حكم ذاتي للأشكناز (الغربيين) في أرض عربيّة. ركز آخرون على ما يمكن أن يحققه السكان الذين تعرضوا للإساءة من خلال الاتحاد معاً.
يقول “لطيف دوري” Latif Dori اليهودي عراقي المولد وسكرتير لجنة الحوار الإسرائيلي/الفلسطيني الذي أحب الحديث عن “الشعبين الشقيقين” اللذان يقفان “يدا بيد أمام الموجات القومية”، قال إن المراهقين المزراحيين والعرب يجب أن يشكلوا حركة شبابية اشتراكية مشتركة لتعزيز “جسر التفاهم”. بين الشعبين اليهودي والعربي”.
امتداد الفكر القومي الأوروبي
وقام مزراحيون آخرون بتحليل الجذور الأيديولوجية للمشكلة، والتي حددوها في الصهيونية نفسها. لقد جادلوا بأن الصهيونية انبثقت من الفكر القومي الأوروبي في القرن التاسع عشر، والذي أظهر وفرة من الاستعمار والاستشراق – وبالتالي فهي بالطبع تصور الأشكناز الغربيين على أنهم متحضرون، والعرب الشرقيين (اليهود وغير اليهود على حد سواء) على أنهم غير متحضرين.
كتب المفكر اليهودي من أصل بولندي والدبلوماسي السابق “إلياهو إلياشار” Eliahu Eliachar «في نهاية المطاف، ترتبط المشكلة الشرقية ارتباطاً وثيقاً بالمشكلة العربية: لأنه فقط عندما تكون إسرائيل قادرة على الاعتراف لنفسها بأنها، من بين أمور أخرى، دولة شرقية، لن تتمكن من ذلك. سيكون الإسرائيليون قادرين على إعداد أنفسهم للقاء بناء مع العرب”.
لم يكن التضامن المزراحي العربي مجرد حجة فكرية: بل تُرجم إلى احتجاجات مشتركة في الشوارع، والتي قامت الشرطة الإسرائيلية بقمعها باستخدام القوة المفرطة. وفي محاولة لمنع التفاعل بين المجموعتين، قال أحد الضباط لأحد البدو الذين كانوا يتحدثون مع المزراحيين في بئر السبع: “يجوز لك زيارة المدينة، ولكن ليس من الصواب أن تتحدث إلى السكان”.
بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، حاولت مجموعات مثل قوس قزح الديمقراطي المزراحي تذكير المزراحيين بالعصر الماضي عندما ساروا مع العرب – عندما كانوا عرباً – لكنهم حققوا نجاحاً محدوداً. تقول عالم الأنثروبولوجيا “سمادار لافي” Smadar Lavie التي كانت ناشطة في الحركة الديمقراطية الثورية، أن المجموعة لا تحظى الآن بدعم شعبي كبير. ومع التزام المثقفين الشرقيين بالهدوء بشأن القضية الفلسطينية خوفاً من فقدان تمويلهم ودوائرهم الانتخابية اليمينية، فإن النموذج التقاطعي “رومانسي، لكنه غير قابل للتطبيق” في إسرائيل المعاصرة، كما قالت لافي. “لا شيء يتحرك في التقاطع، لقد أصبح ازدحاماً مرورياً”.
ولكن ماذا عن النهضة الثقافية المزراحية التي شهدناها في السنوات القليلة الماضية؟ ماذا عن الشعراء الشباب المتمردين مثل الشاعر “روي حسن” Roy Hasan والشاعرة “أدي كيسار” Adi Keissar وفرق مثل “بنت الفنك” Funk Girl الذين يضعون عروبتهم في المقدمة والمركز؟ إنهم يتمتعون بشعبية كبيرة ورائعين في رفع مستوى الوعي، ولكن من الصعب معرفة مدى قدرتهم على إحداث تغيير في السياسة المزراحية السائدة. ويحذر البعض، مثل لافي، من أن النهضة الثقافية لا تعني بالضرورة تغييراً سياسياً في الواقع، يمكن أن يصرف الانتباه عن الحنين المزراحي السياسي، ويعيد إحياء الحنين المزراحي مع الحفاظ على الصمت المزراحي بشأن فلسطين.
من هي الجماعات التي يقودها الفلسطينيون واليهود والتي تقود الاحتجاجات ضد إسرائيل؟
أثناء تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة الحرب اشتعلت معركة مريرة على الرأي العام في الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، مع مسيرات غاضبة في العديد من الجامعات واحتجاجات تخريبية في أماكن بارزة في العديد من المدن الكبرى.
ومن بين المحفزين هناك الجماعات التي يقودها الفلسطينيون واليهود والتي نشطت لسنوات في معارضة السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والتي طالبت بوقف إطلاق النار في غزة. واشتبكوا مع الجماعات المؤيدة لإسرائيل.
ولهذه المجموعات جذور في حركة تعرف باسم BDS، والتي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. ولّدت تلك الحملة خطاباً ساخناً قبل وقت طويل من قيام مقاتلي حماس بمهاجمة إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر وقيام إسرائيل بشن عدوانها الهمجي على القطاع. وكتب المناصرون مقالات افتتاحية لصحف الحرم الجامعي مع نداءات لحماية حقوق الإنسان الفلسطيني، واتهموا في كثير من الأحيان إسرائيل بالاستعمار والعنصرية.
ولعب المجموعات المشاركة في تلك الجهود السابقة دوراً رئيسياً في الاحتجاج على القتال، من خلال أعمال في الجامعات وخارجها. أدت الاحتجاجات إلى اضطرابات في مبنى الكابيتول هيل، وفي محطة قطار رئيسية في شيكاغو ومحطة غراند سنترال في مدينة نيويورك. كما ساعدوا في تنظيم مظاهرة خارج مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية في واشنطن، مما أدى إلى اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين. فمن هي المجموعات المعنية؟
1ـ الصوت اليهودي من أجل السلام
وتصف منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” Jewish Voice for Peace، التي تأسست عام 1996، نفسها بأنها “أكبر منظمة يهودية تقدمية مناهضة للصهيونية في العالم”. وتقول المجموعة على موقعها على الإنترنت: “نحن ننظم حركة شعبية ومتعددة الأعراق وعبر الطبقات والأجيال لليهود الأمريكيين تضامناً مع النضال من أجل الحرية الفلسطينية، مسترشدة برؤية العدالة والمساواة والكرامة لجميع الناس”.
لدى المنظمة أكثر من 300 ألف مؤيد، ولديها مليون متابع على منصة X، المعروف سابقاً باسم Twitter، ولها فروع في العديد من الجامعات الأمريكية. تم تعليق فرعها في جامعة كولومبيا بزعم انتهاك سياسات الجامعة بشأن إقامة أحداث الحرم الجامعي.
بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، قال الحاخام برانت روزين، المقيم في شيكاغو، والمؤسس المشارك للمجلس الحاخامي لحزب JVP، إنه يشعر بالحزن على زملائه اليهود الذين قتلوا، لكنه حافظ على تضامنه مع الفلسطينيين.
2ـ رابطة مكافحة التشهير
إن “رابطة مكافحة التشهير” Anti-Defamation League مجموعة مناصرة يهودية تتحدث بشكل متكرر ضد معاداة السامية والتطرف، تهاجم باعتبارها “مجموعة ناشطة متطرفة مناهضة لإسرائيل ومعادية للصهيونية تدعو إلى مقاطعة إسرائيل والقضاء على الصهيونية”.
بالرغم من أن المنظمة هي مجموعة ضغط يهودية أمريكية تأسست عام 1913 بهدف وقف التشهير باليهود واليهودية، إلا أنها تناهض الصهيونية. في إقراراتها الضريبية الفيدرالية لعام 2021، أعلنت عن إيرادات تقارب 2.9 مليون دولار؛ وتقول إن الجزء الأكبر من دخلها يأتي من المساهمات الفردية.
3ـ إذا لم يكن الآن
تأسست منظمة “إذا لم يكن الآن” IfNotNow خلال الحرب بين إسرائيل وحماس عام 2014، عندما قُتل أكثر من 2000 فلسطيني حين شنت القوات الإسرائيلية غارات جوية وغزواً برياً على غزة.
وتقول المجموعة على موقعها على الإنترنت: “لقد اجتمع الشباب اليهود الغاضبون من الرد المتشدد للمؤسسات اليهودية الأمريكية تحت شعار IfNotNow”. وهدفها المعلن هو: “تنظيم مجتمعنا لإنهاء الدعم الأمريكي لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي والمطالبة بالمساواة والعدالة والمستقبل المزدهر لجميع الفلسطينيين والإسرائيليين”.
في الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي على غزة، أدانت منظمة IfNotNow عمليات قتل المدنيين على الجانبين، في حين كررت انتقاداتها للسياسة الإسرائيلية.
وقالت المجموعة في 7 تشرين الأول/أكتوبر: “لا يمكننا أن نقول ولن نقول إن الأعمال التي قام بها المسلحون الفلسطينيون اليوم غير مبررة. إن الحصار الخانق على غزة هو استفزاز. المستوطنون يرهبون قرى فلسطينية بأكملها، والجنود يداهمون ويهدمون منازل الفلسطينيين. … هذه هي استفزازات الحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل”.
وقالت “إيفا بورغواردت” Eva Borgwardt المديرة السياسية لمنظمة IfNotNow، إن المجموعة نظمت خدمات صلاة في بعض المدن لليهود الذين أرادوا الحداد على اليهود والفلسطينيين الذين قتلوا في الصراع. اتهمت رابطة مكافحة التشهير منظمة IfNotNow بتوجيه انتقادات “متطرفة” للحكومة الإسرائيلية و”الخطاب المثير للانقسام، والذي قد يكون بعضها ذا أهمية”. تضم IfNotNow عشرات الآلاف من الأعضاء والمؤيدين في صفوفها. ووفقًا للنماذج الضريبية، كان إجمالي إيراداتها في عام 2021 أقل بقليل من 397 ألف دولار.
4ـ طلاب من أجل العدالة في فلسطين
تتواجد منظمة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” Students for Justice in Palestine في الجامعات الأمريكية منذ عقود، وتقوم باحتجاجات متكررة تطالب بتحرير الفلسطينيين ومقاطعة إسرائيل. وهي منظمة طلابية تعمل تضامناً مع الشعب الفلسطيني وتدعم حقه في تقرير المصير. وهي ملتزمة بإنهاء احتلال إسرائيل واستعمارها لجميع الأراضي العربية وتفكيك جدار الفصل العنصري.
تقول الشبكة غير المتصلة بشكل جيد أن لديها أكثر من 200 فرع في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا. وتقول على موقعها على الإنترنت إن مهمتها هي “تمكين وتوحيد ودعم المنظمين الطلابيين أثناء دفعهم لمطالب التحرير الفلسطيني وتقرير المصير في جامعاتهم”. وفي الشهر الماضي، انضمت إلى الدعوات المطالبة بإضراب وطني للطلاب في حرم الجامعات.
وتتهمها رابطة مكافحة التشهير بالقيام بدعاية مناهضة لإسرائيل “مليئة بالخطابات التحريضية والقتالية في بعض الأحيان”.
وفي بيان بعد العدوان ال‘سرائيلي على غزة قالت الحركة إنه من “الواجب الأخلاقي” دعم صمود الشعب الفلسطيني الذي “تحمل 75 عاما من القمع والتهجير والحرمان من حقوقه الأساسية”، وقالت إن ذلك يشمل “المقاومة المسلحة”.
مجموعات أخرى
وتشارك فروع متعددة أيضًا في الاحتجاجات. حيث تقوم منظمة “المسلمون الأمريكيون من أجل فلسطين” American Muslims for Palestine بتنظيم وتنسيق أنشطة الاحتجاج ضد إسرائيل على مر السنين مع منظمة IfNotNow.
وفي جامعة براون تم القبض أثناء الاحتجاجات على عشرين طالباً من مجموعة “يهود براون من أجل وقف إطلاق النار الآن” Brown Jews for Ceasefire Now بعد رفضهم مغادرة مبنى الحرم الجامعي أثناء الاعتصام. ونشرت المجموعة على موقع X أنهم يدعون الجامعة إلى تعزيز “وقف فوري لإطلاق النار والسلام الدائم” بالإضافة إلى سحب استثماراتها من الشركات التي “تسمح بارتكاب جرائم حرب في غزة”.
وحتى مجموعات مثل “اليونيسف”Unicef و”منظمة العفو الدولية” Amnesty International واجهت التدقيق. وفي “سكوتسديل” Scottsdale بولاية “أريزونا” Arizona دفع عرض قدمته مجموعة من طلاب المدارس الثانوية حول الأزمة الإنسانية في غزة، مدير التعليم العام بالولاية “توم هورن” Tom Horn إلى حث المدارس على طرد المجموعتين الدوليتين من الحرم الجامعي. وقال مسؤولو المدرسة المحلية إن مجموعات الطلاب تمثل جميع وجهات النظر وتعمل على إخماد الضجة.