ثلاثة مفاهيم أساسية في دورة صنع السياسات العامة تأخذ حيزها من النقاش الموسع في أوقات الإصلاحات وتبني السياسات الجديدة أو الانتقال إلى نماذج تنموية جديدة. وهذه المفاهيم هي (المشاركة الاجتماعية Community participation) و(التهيئة الاجتماعية Community preparation) و(إدماج المجتمع Community integration). تحدد هذه المفاهيم الضمانات الأساسية التي يمكن من خلالها أن يتحقق القبول (الفهم والاستيعاب) العمل بالنسبة للمجتمع في إطار أي سياسة عامة أو مقاربة تنموية جديدة.

ومع ذلك رغم تعدد المنهجيات والمقاربات التي تتخذها الدول وصناع السياسات العامة لتحقيق المفاهيم الثلاثة؛ إلا أنها ما زالت تمثل إشكالًا محوريًا أمام صناع السياسات العامة في مستويات تحقيقها، وفي المنهجيات المناسبة لضمان اكتمالها في دورة السياسة العامة. وهذا أمر طبيعي لأننا نتحدث عن مجتمعات تتسم بثلاث سمات أساسية: تغير مطرد في التطلعات وفي النظرة إلى الأولويات، وسطوة للفردانية تحتم النظر في أغلب الأحيان من منظور المصلحة الذاتية المباشرة، وارتفاع في مستويات التعلم ونوعية الحياة يقتضي توقعات عالية من الأفراد إزاء نوعية التنمية ومشاريعها وبرامجها وسياساتها. هذه حقيقة اجتماعية تكاد تتشارك فيها كافة المجتمعات في دورة معيشها الحاضر، ولذا يصبح من التعقيد بمكان إيجاد وضع مثالي لتهيئة المجتمعات لقبول السياسات العامة والإدماج فيها بدون تبني مفهوم (تخطيط المجتمع Community planning).

في أدبيات التنمية فإن (تخطيط المجتمع) يعني عنصرين متكاملين:

أ. من وجهة نظر صانع السياسات، أي كيفية استخدام عملية التخطيط الاجتماعي لإنشاء سياسة تحقق أهدافها بأفضل النتائج الإيجابية لكل فرد في المجتمع، وكذلك لصانعي السياسات أنفسهم.

ب. من منظور القاعدة الشعبية، كيفية التعامل مع صانعي السياسات في بداية العملية، حتى يتمكن الأشخاص في المجتمع المتأثرين بتغيير السياسة من المشاركة في التخطيط لها وتنفيذها.

وفي تقديرنا فإن الاستخدام الجيد لأدوات (تخطيط المجتمع) يعني بالضرورة تصميم منهجية جيدة ومعتبرة بالنسبة (للمشاركة الاجتماعية)؛ وهذه المنهجية في ذاتها تضمن جزءا من (التهيئة الاجتماعية) الجيدة لقبول السياسات العامة والاندماج فيها. إذن كلا العنصرين المشار إليهما هما رهن التخطيط الجيد لفهم المجتمع. وأولى أسئلة (تخطيط المجتمع) هو: هل المجتمع مندمج بشكل واسع في المشاركة المدنية؟ في مقالة سابقة على هذه المساحة بعنوان: «محركات المشاركة المدنية» اقترحت وضع سجل وطني للمشاركة المدنية؛ يشمل رصدًا لأوجه مشاركة الأفراد مدنيًا في الحياة العامة من المشاركة الانتخابية بأوجهها المتعددة إلى الانتساب إلى مؤسسات المجتمع المدني والأندية الأهلية والرياضية وغرف التجارة والصناعة إلى الإسهامات الطوعية الرسمية. واقترحت كذلك أن يرتبط هذا السجل ببعض التفضيلات التي يمكن منحها للفرد سواء في الفرص الدراسية أو الفرص الوظيفية أو فرص الترقي المهني أو مجمل الفرص الاقتصادية. في تقديري سيشكل هذا السجل «أداة» لفهم المجتمع، ومعرفة الأوجه التي ينخرط فيها الأفراد في الحياة المدنية، وكذلك حجم تلك المشاركة وصعودها وهبوطها. إن الحياة المدنية في المجتمع العُماني هي تعبير عن أصل المجتمع؛ ذلك أنها مرتبطة بالأساس بالمؤسسات والأنشطة التي تستهدف فعل التنمية في المقام الأول، من جمعيات خيرية ومهنية وجمعيات مرأة عُمانية إلى فعل التطوع والثقافة، ومشاركة مؤسسية في الانتخابات للمجالس البلدية ومجلس الشورى. وهذه كلها تكوينات تعضد الفعل التنموي من ناحية، وتجعل الأفراد منخرطين في المجال العام من ناحية أخرى. وبالتالي بالنسبة لي -كمختص في العلوم الاجتماعية- فإن هذا الفعل المدني هو معبر عن مدى انخراط المجتمع في المجال العام. ولا يكفي هنا الإشارة إلى نشاط مؤسسات المجتمع المدني والتكوينات الموازية بدون التنبه إلى مستوى التغير في إقبال أفراد المجتمع عليها، وكيف يتفاعلون مع أنشطتها، وينخرطون في أعمالها، وتتزايد مع السنوات وتيرة المنتسبين إليها.

إن وجود مجتمع مدني فاعل وممكن (في كافة الأشكال المشار إليها) هو ضامن أساس لفهم المجتمع وتخطيطه في المقام الأول، ويمكن من معرفة مداخل التهيئة الاجتماعية المناسبة التي يمكن لصانع السياسة التنموية انتهاجها. هذا يقتضي أسئلة مهمة ودقيقة، فإذا أخذنا على سبيل المثال جمعيات المرأة العُمانية كأحد أشكال المشاركة المدنية؛ يمكن تتبع ثلاثة أسئلة حيالها: كيف تغير إقبال المنتسبات لها خلال أمد زمني معين (10 سنوات مثالًا) ؟ - كيف تغير حجم الطلب والإقبال على أنشطتها خلال أمد زمني معين مع مراعاة النمو السكاني في الولاية التي تقع فيها الجمعية؟ - ما طبيعة ونوعية الفئات المنتسبة والمشاركة في الأنشطة من ناحية (المستوى التعليمي - المستوى الوظيفي - المستوى العمري)؟ وهل تغير خلال أمد زمني معين؟ هذه الأسئلة هي مداخل لفهم المشاركة المدنية في عنصر واحد من أشكالها؛ يمكننا لاحقًا من فهم تغير المشهد الكلي وبالتالي معرفة ما إذا كان المجتمع منخرطًا في الحياة المدنية العامة. على الجانب الآخر؛ فيما يتصل بالمشاركة الاجتماعية، نعتقد أن المشاركة الاجتماعية -متى ما كانت منهجية وموسعة وممثلة للمجتمع/ القطاع- متى ما كانت إحدى الأدوات والعتبات الأساسية لتهيئة المجتمع. يمكن التفكير في إيجاد منصة وطنية على سبيل المثال تستخدم لاستطلاع رأي المجتمع في بعض الجوانب التي يعتزم تنظيمها وتأطيرها في القوانين المتصلة بالشأن الاجتماعي. وليس بالضرورة هنا أن يعرض نص مشروع القانون بالكامل، وإنما تستخدم ما يعرف بأسئلة قياس الاتجاهات Attitude measurement questions لفهم الكيفية التي يفكر فيها المجتمع تجاه الخيارات والبنود التي يمكن أن يحتويها مشروع القانون. سيمكن ذلك من فهم المواقف والاتجاهات وتوقعها، وبالتالي إيجاد أدوات التهيئة المناسبة، والشروحات الدقيقة التي تمكن المجتمع من فهم سياق ومسار هذه القوانين والسياسات وآثارها.

نرى أن هناك اتصالًا وثيقًا بين (تخطيط المجتمع لغرض فهمه وإشراكه وبالتالي تهيئته في دورة صنع السياسات العامة والمشروعات التنموية). وتحقيق هذه الأغراض لا يمكن أن يكون في كيانات مؤسسية منفصلة. المرحلة الراهنة في تقديرنا تتطلب جمع هذه العناصر الثلاثة في سياق مؤسسي واحد مركزي وممكن، يستثمر في أحدث ما توصلت إليه الدراسات والأدلة في علوم الاجتماع والاتصال والنفس والسلوك والاستراتيجيات لتخطيط هذه المنظومة، ويكون مدعومًا بأذرع بحثية ترصد بشكل مستمر التغيرات الطارئة على توقعات المجتمع بحيث تكون عمليات التهيئة مواءمة ومتواكبة مع تلك التطورات. هناك فرص كبيرة لتحقيق هذا الجمع المؤسسي خصوصا في ظل عمليات المراجعة التشريعية التي بدأت في عام 2020 وفي ظل الانتقال التنموي، وكذلك في ظل الانتقال لتفعيل وحدات الإدارة المحلية وتمكينها.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المشارکة الاجتماعیة السیاسات العامة التی یمکن فی دورة

إقرأ أيضاً:

التحقيق مع منسق الاحتلال الأسبق بالضفة يؤآف مردخاي في قضية قطر غيت

قالت وسائل إعلام عبرية بأن وحدة التحقيقات في الجرائم الخطيرة والدولية استجوبت، منسق الاحتلال الأسبق بالضفة الغربية، اللواء المتقاعد  من جيش الاحتلال، يوآف بولي مردخاي، في إطار التحقيقات الجارية في ما يعرف بقضية "قطر غيت".

ويشتبه في ضلوع مردخاي بارتكاب جرائم تتعلق بتلقي رشوة والتواصل مع عميل أجنبي، ويأتي ذلك بعد ظهور اسمه في القضية منذ أشهر، عقب اعتقال مسؤول كبير سابق في جهاز الموساد، كان قد أسس شركة خاصة بالشراكة مع مردخاي.

وبحسب موقع "واللا"، تحقق شرطة الاحتلال في مصادر تمويل مستشار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، يوناتان أوريتش، والذي عمل سابقًا تحت إشراف مردخاي في مكتب المتحدث باسم جيش الاحتلال.



وتشير التحقيقات إلى أن أوريتش، إلى جانب شريكه إسرائيل أينهورن، تواصلا مع شركات تابعة لمردخاي منذ عام 2021، في سياق التحضيرات لاستضافة قطر لكأس العالم.

وزعمت أن "المعطيات تشير إلى أن أوريتش وأينهورن عملا في حملات علاقات عامة بغرب أوروبا، عبر مقالات وتقارير إعلامية متعاطفة، بالتوازي مع محاولات لتقليص الدور المصري كوسيط في صفقات التهدئة مع غزة".

كما لفتت التقارير إلى أن مردخاي سبق أن استُدعي في أيار/مايو الماضي للإدلاء بشهادته في القضية ذاتها، في ظل علاقاته مع المتورطين فيها.

مقالات مشابهة

  • التحقيق مع منسق الاحتلال الأسبق بالضفة يؤآف مردخاي في قضية قطر غيت
  • دراسة تحليلية حول ظاهرة ثقافة التصلب في المجتمع العراقي وأبعادها الاجتماعية
  • اللجنة المكلفة بصياغة مشروع قانون الخدمة المدنية تعقد أولى جلساتها
  • مجلس جامعة التقنية يعتمد عددا من السياسات والبرامج
  • جامعة مدينة السادات تنظم قافلة طبية بقرية كفر قرشوم
  • بالصور.. أرضية ملعب “حسين آيت أحمد” تخضع لاعادة التهيئة
  • الجنسية البرتغالية ستصبح واحدة من أصعب الجنسيات التي يمكن الحصول عليها في أوروبا
  • مدبولي يطالب المجتمع الدولي بتقديم الدعم لـ مصر في ضوء الأعباء الملقاة على عاتقها
  • أخنوش: الذكاء الإصطناعي في صلب السياسات العمومية والحكومة تولي أهمية للتحول الرقمي
  • أيهما أكثر ترطيباً للجسم: الماء أم الحليب؟