لجريدة عمان:
2024-09-19@05:30:52 GMT

تأملات في محاكمة العقل العربي «2-2»

تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT

يشكّل نموذج العقل الجمعي العربي -في مجموعه الكلّي- سلسلة من الظروف والتأثيرات ذات الطابع الديني والسياسي التي تراكمت ممارساتها ونتائجها؛ فيتضح النمط التفكيري للفرد العربي، ونمط سلوكه الظاهر والباطن، وما ينعكس بشكل جمعي «العام» على الظاهرة المجتمعية عبر الممارسات الاجتماعية المبنية على مبدأ القِيَم والعُرف، والتي لسنا بحاجة إلى أن ننقدها ونطالب بإعادة صياغتها بمضمونها المطلق والشامل طالما لم تخالف جوهر المنهج القرآني الصميم الذي تأكد نجاح تجربته «ظاهرته» في المجتمع العربي خصوصا والمجتمعات الإنسانية -الإسلامية في وقتنا- عموما، مع عدم إنكارنا لفقداننا -منذ قرون عدة وحتى وقتنا- عناصر هذه التجربة الحضارية التي أحدثت ثورة فكرية ناجحة في العقل العربي.

لكن يتضح وجود كليات لا نحفل بها، ولا نهتم بها، تتفرع منها جزئيات مثل التي ذكرتها في الجزء الأول لهذا المقال -المنشور في الأسبوع المنصرم- مثل جزئية مشكلة التراث الديني وتشعباته الكثيرة، وفقدان الهوية التي آلت إلى قصور مستويات التعليم والصحة والمعرفة والصناعة، وهذه المشكلات بحاجة إلى تأمل وإعادة الفحص والاختبار لمعرفة دورها وتأثيرها في أي نتائج توصم بالفشل أو الركود والتخلف، ولعقد هذه المحاكمة للعقل العربي ينبغي أن ننظر إلى الكليات التي إن صُححت؛ صَلُحت الجزئيات الناتجة من الكليات. يتفاوت العقل الإنساني -بشكل عام- إلى عدة أنواع؛ فهناك العقل النقدي، والعقل الدغمائي «المطلق»، والعقل الشكّي، والعقل الواقعي، والعقل المثالي، والعقل التجريبي، والعقل الجمعي الذي يحدد مسار العقل السائد في المجتمع وليس الفرد، ونحاول عبر مثل هذه الأقسام للعقل تحديد ماهية العقل العربي -جذور المشكلة وكلياتها المخفية- وليس مظاهره المحسوسة مثل السلوك الفردي والمجتمعي ومشكلاته الجزئية، وأزمة هشاشة الهوية والثقافة، وأسباب تبنّيه لمنهجيات عقلية دون غيرها، وتأثير ذلك في أدوات المعرفة ومناهجها، وتأثيره في ظهور الأسباب الفرعية المتعلقة بالجزئيات الناتجة من الكليات المجهولة.

هناك من يرى أن العودة إلى الإسلام الصميم كما أراده الله وقت بعثة نبيّه محمد -عليه الصلاة والسلام- يكون حلا لمشكلة انتكاسة العقل العربي، وهناك من يرى عكس ذلك؛ إذ يرى التجربة الغربية في ثورتها الفكرية النابذة للدين أنموذجا ناجحا يمكن الاحتذاء به، وهناك من يرى ضرورة وجود التوازن، وإيجاد الوسطية بين الحفاظ على الهوية القومية المتمثلة في اللغة والثقافة العربية، والحفاظ على الوسطية الدينية، وقبل الخوض في طبيعة كل من الهوية الدينية والهوية القومية ينبغي التذكير أن الدين الإسلامي وفقا لمنهجية القرآن لا يناقض معقولا صميما، ويدعو إلى التعقّل والتفكّر، ولكن ما إن تتداخل التأويلات المتباينة في تفسير النصوص القرآنية؛ يبدأ ظهور الاختلال في منهجية المعرفة، ويبدأ العقل في مواجهة مع احتمالات كثيرة تُورده الشكوك والالتباس، ويتفاقم هذا مع سريان السرد الروائي المتناقض مع النص القرآني الذي يصنع دائرة فقهية تعكس -في بعض حالاتها وليس تعميما لكل المسارات الفقهية- ظاهرة للظرفية السياسية المهيمنة في زمنها، والتي بدورها تساهم في صناعة العقل -العربي خصوصا- المتناقض مع واقعية الحياة والنص القرآني المتوافق -في أصله- مع مسارات الحياة السليمة.

أين تكمن مشكلة العقل العربي وتأخره في الركب الحضاري؟ تكمن المشكلة في نوع العقل وأدواته المعرفية ومصادرها؛ فالعقل العربي بجانب مَيزته في كونه يمتلك قيمًا مثل الكرم والشجاعة والنخوة، إلا أن التربية الدينية والاجتماعية غير المتوافقة مع التجربة القرآنية الصميمة صنعت سلبية في العقل العربي تتمثل في ازدواجية شخصيته التي تحاول أن تتقمص دور الإنسان الأخلاقي المتبع لقيم الدين والمجتمع بينما يتهاون في التمسك بهذه القيّم والمبادئ في حالات يكون فيها بعيدا عن الرقيب الديني والمجتمعي -دون تعميم هذه الظاهرة التي تُظهر التناقض في سلوك العقل العربي-، وهذا وصف أجاد الدكتور علي الوردي في تفصيله عبر كتبه مثل كتاب «وعّاظ السلاطين» وكتاب «مهزلة العقل البشري»، وكذلك الكاتب الياباني «نوبوأكي نوتاهارا» في كتابه «العرب: وجهة نظر يابانية»؛ فنجد طغيان العقلية الازدواجية في المجتمعات العربية؛ فساهم في تفشي الكذب، وعدم الأمانة، والظلم، وهذه المثالب تعدّ تناقضًا مع قيم سامية شجّع عليها الدين والمجتمع العربي. نجد كذلك أن العقل العربي -في كثير من حالاته- لا يميل إلى تقبّل النقد والتعددية الفكرية، ويمكن أن يوصف أنه عقل يهرب من العقلانية خوفا من تجاوز المألوف، ويتجنب التجريبية؛ لأنه يرى التجربة لا تضيف شيئًا مع موجود مُكتشف -حال إقحامه للدين في قضايا العلم-، ومردّ ذلك يرجع إلى المنهجية المعرفية وأدواتها التي اعتادها العقل مثل السرد الروائي المُنتحل -الذي لا يصل بصلة إلى القرآن والسنة النبوية الصحيحة- مما صنع تراثا يختلط فيه الغث والسمين، ويعمل على برمجة العقل على أساليب عقلية جامدة تُعدم فيها سلطة العقل على حساب نص إما أنه منتحل ومكذوب -مثل الإسرائيليات والروايات ذي الطابع السياسي- وإما أنه نص أوّل لغير معناه وجوهره، وهذا بدوره فاقم أزمة تعشعش الخرافة في العقل، وحدّ من قدرته الإبداعية والإنتاجية؛ كون العقل شُغِل بقضايا غير محسوسة، وغائبة عن المنهج التجريبي أو حتى العقلي، وبوجود هذه الروايات التي ساهمت في صناعة الخرافة تلاشى دور النص القرآني المؤثر إما عبر بعض التأويلات المتأثرة بمثل هذه الروايات -المنتحلة- التي لم يَعُدْ لها دورٌ سوى دغدغة العقول الساعية إلى المثالية غير الواقعية، وهنا من سيظن أنني ربما أهاجم «الميتافيزيقا» وتسخير الفلسفة في فحصها عبر انتقادي للدور السلبي الذي أحدثه السرد الروائي المنافي للمنهج القرآني والسنة النبوية الصميمة، وفي الواقع لا إشارة للميتافيزيقا أو علم الإلهيات والوجود هنا؛ فهذا مبحث فلسفي له أصوله وأدواته الخاصة التي لا أرى أثرها السلبي على العقل، بل على العكس أرى أن تغييب مثل هذه المباحث الفلسفية يُلغي دور العقل الشكّي المنهجي الذي مارسه أمثال أبي حامد الغزالي؛ ليخرج الغزالي بنتيجة تنسف هذا المنهج، وهاجم فيها مباحث الفلسفة في الميتافيزيقا؛ لينتصر للتصوف كما جاء في كتابه «المنقذ من الضلال»، وكذلك «تهافت الفلاسفة»؛ فيأتي بعدها ابن رشد محاولا أن ينقذ ما حاول الغزالي أن يهدمه في الفلسفة عبر كتب مثل «تهافت التهافت» و«فصل المقال». بعيدا عن هذه السجالات التاريخية التي أُحدثت في نطاق العقل العربي، أعود إلى محور التأثير السلبي للسرد الروائي الذي شكّل جزءا من التراث الديني والاجتماعي عند العرب -خاصة- والمسلمين -عامة-، وأثّر في تكوين ماهية العقل لديهم، الذي بدوره أثّر على المسار الحضاري وقاده إلى الركود، وذلك ما ينعكس على التخلف الصناعي والتعليمي والاقتصادي.

هناك الكثير من التفصيلات التي يمكن أن تحيل حيثيات هذه المحاكمة للعقل العربي إلى مرحلتها الأخيرة «النطق بالحكم»، ولكن أرى أن هذا المشروع أكبر من أن يستوعبه مقال أو مقالان، بل بحاجة إلى أن يتحول إلى مشروع أمة؛ يُستكمل عبره ما بدأه عمالقة الفلسفة والعلم والفكر أمثال أبي حامد الغزالي، وابن رشد، وابن سينا، والفارابي، وعلي الوردي، ومحمد عابد الجابري وغيرهم -مع اختلاف اجتهاداتهم وتوجهاتهم، حتى إن اختلفنا مع توجهات بعضهم-. يمكن أن أختم هذا المقال بضرورة العودة إلى المنهج القرآني الساعي لإخضاع المعرفة إلى العقل الذي لا يمكن عبر ضوابطه المنطقية أن يتناقض مع قاعدة إيمانية -المسلّمات البدهيّة للدين- أو بشكل خاص مع نص قرآني، ومن الضرورة أن يتخلص العقل من شوائب النصوص -مثل السرد الروائي الذي يتنافى مع المنهج القرآني والنبوي- التي تتنافى مع القواعد الإيمانية والقواعد المنطقية الخاصة بالعقل، ولا يمكن أن يعمل العقل بعقلانية محضة بل لابد من التجريبية المنهجية التي توازن بين معطيات العقل والمحسوسات الظاهرة، وهذا بدوره يجعل من العقل العربي عقلا ملتزما بضوابطه الإيمانية «الدينية»، وعقلا يقيم للعلم وزنًا لا يدافعه بالتداخلات الدينية غير الصميمة. كذلك إعادة القوة إلى مكانة اللغة العربية واستعمالاتها الشاملة بما في ذلك حركة المعرفة والعلوم؛ يضاعف من لمّ شمل العقل العربي بهويته العربية المتمثلة في اللغة والثقافة، وهذا يحتاج إلى مضاعفة جهود الترجمة والتعريب الدقيق لمصطلحات العلوم -كون هناك هوّة سحيقة بين اتصال العلوم الطبيعية ومصطلحاتها باللغة العربية حتى وإن وجدت بعض الجهود-. كذلك سيقود تحقق الاستقرار السياسي في العالم العربي إلى استقرار اقتصادي ومعيّشي يُركّز عبره على تطوير التعليم والبحث العلمي والصناعة والإنتاجية بجميع جوانبها، ومن الممكن أن يُفسحَ هذا الاستقرار للعقل العربي مساحة لتطبيق مراجعة شاملة تصحيحية للتكوين العقلي وتوجهاته.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العقل العربی یمکن أن

إقرأ أيضاً:

شاهد: الرئيس العليمي يقلد رئيس البرلمان العربي وسام الوحدة اليمنية 22 مايو من الدرجة الاولى

شاهد: الرئيس العليمي يقلد رئيس البرلمان العربي وسام الوحدة اليمنية 22 مايو من الدرجة الاولى

مقالات مشابهة

  • انطلاق ملتقى الشعر العربي في نيجيريا
  • شاهد: الرئيس العليمي يقلد رئيس البرلمان العربي وسام الوحدة اليمنية 22 مايو من الدرجة الاولى
  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • بزرعة دماغية.. هكذا يمكن التحكم عبر العقل بـأليكسا التابعة لأمازون
  • الحياة.. فرصة!
  • هل تعاني من الأفكار السلبية؟
  • اختيار 5 عروض في الدورة الخامسة من مهرجان المسرح العربي
  • تأجيل محاكمة متهمي تنظيم الجبهة
  • الصمغ العربي.. مكون رئيسي يُستخدم في صناعة الأدوية ومستحضرات التجميل والأغذية
  • رئيس المجلس العربي للمياه: ‏التحديات التي نواجهها هائلة ولكنها ليست مستعصية على الحل