تأملات في محاكمة العقل العربي «2-2»
تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT
يشكّل نموذج العقل الجمعي العربي -في مجموعه الكلّي- سلسلة من الظروف والتأثيرات ذات الطابع الديني والسياسي التي تراكمت ممارساتها ونتائجها؛ فيتضح النمط التفكيري للفرد العربي، ونمط سلوكه الظاهر والباطن، وما ينعكس بشكل جمعي «العام» على الظاهرة المجتمعية عبر الممارسات الاجتماعية المبنية على مبدأ القِيَم والعُرف، والتي لسنا بحاجة إلى أن ننقدها ونطالب بإعادة صياغتها بمضمونها المطلق والشامل طالما لم تخالف جوهر المنهج القرآني الصميم الذي تأكد نجاح تجربته «ظاهرته» في المجتمع العربي خصوصا والمجتمعات الإنسانية -الإسلامية في وقتنا- عموما، مع عدم إنكارنا لفقداننا -منذ قرون عدة وحتى وقتنا- عناصر هذه التجربة الحضارية التي أحدثت ثورة فكرية ناجحة في العقل العربي.
هناك من يرى أن العودة إلى الإسلام الصميم كما أراده الله وقت بعثة نبيّه محمد -عليه الصلاة والسلام- يكون حلا لمشكلة انتكاسة العقل العربي، وهناك من يرى عكس ذلك؛ إذ يرى التجربة الغربية في ثورتها الفكرية النابذة للدين أنموذجا ناجحا يمكن الاحتذاء به، وهناك من يرى ضرورة وجود التوازن، وإيجاد الوسطية بين الحفاظ على الهوية القومية المتمثلة في اللغة والثقافة العربية، والحفاظ على الوسطية الدينية، وقبل الخوض في طبيعة كل من الهوية الدينية والهوية القومية ينبغي التذكير أن الدين الإسلامي وفقا لمنهجية القرآن لا يناقض معقولا صميما، ويدعو إلى التعقّل والتفكّر، ولكن ما إن تتداخل التأويلات المتباينة في تفسير النصوص القرآنية؛ يبدأ ظهور الاختلال في منهجية المعرفة، ويبدأ العقل في مواجهة مع احتمالات كثيرة تُورده الشكوك والالتباس، ويتفاقم هذا مع سريان السرد الروائي المتناقض مع النص القرآني الذي يصنع دائرة فقهية تعكس -في بعض حالاتها وليس تعميما لكل المسارات الفقهية- ظاهرة للظرفية السياسية المهيمنة في زمنها، والتي بدورها تساهم في صناعة العقل -العربي خصوصا- المتناقض مع واقعية الحياة والنص القرآني المتوافق -في أصله- مع مسارات الحياة السليمة.
أين تكمن مشكلة العقل العربي وتأخره في الركب الحضاري؟ تكمن المشكلة في نوع العقل وأدواته المعرفية ومصادرها؛ فالعقل العربي بجانب مَيزته في كونه يمتلك قيمًا مثل الكرم والشجاعة والنخوة، إلا أن التربية الدينية والاجتماعية غير المتوافقة مع التجربة القرآنية الصميمة صنعت سلبية في العقل العربي تتمثل في ازدواجية شخصيته التي تحاول أن تتقمص دور الإنسان الأخلاقي المتبع لقيم الدين والمجتمع بينما يتهاون في التمسك بهذه القيّم والمبادئ في حالات يكون فيها بعيدا عن الرقيب الديني والمجتمعي -دون تعميم هذه الظاهرة التي تُظهر التناقض في سلوك العقل العربي-، وهذا وصف أجاد الدكتور علي الوردي في تفصيله عبر كتبه مثل كتاب «وعّاظ السلاطين» وكتاب «مهزلة العقل البشري»، وكذلك الكاتب الياباني «نوبوأكي نوتاهارا» في كتابه «العرب: وجهة نظر يابانية»؛ فنجد طغيان العقلية الازدواجية في المجتمعات العربية؛ فساهم في تفشي الكذب، وعدم الأمانة، والظلم، وهذه المثالب تعدّ تناقضًا مع قيم سامية شجّع عليها الدين والمجتمع العربي. نجد كذلك أن العقل العربي -في كثير من حالاته- لا يميل إلى تقبّل النقد والتعددية الفكرية، ويمكن أن يوصف أنه عقل يهرب من العقلانية خوفا من تجاوز المألوف، ويتجنب التجريبية؛ لأنه يرى التجربة لا تضيف شيئًا مع موجود مُكتشف -حال إقحامه للدين في قضايا العلم-، ومردّ ذلك يرجع إلى المنهجية المعرفية وأدواتها التي اعتادها العقل مثل السرد الروائي المُنتحل -الذي لا يصل بصلة إلى القرآن والسنة النبوية الصحيحة- مما صنع تراثا يختلط فيه الغث والسمين، ويعمل على برمجة العقل على أساليب عقلية جامدة تُعدم فيها سلطة العقل على حساب نص إما أنه منتحل ومكذوب -مثل الإسرائيليات والروايات ذي الطابع السياسي- وإما أنه نص أوّل لغير معناه وجوهره، وهذا بدوره فاقم أزمة تعشعش الخرافة في العقل، وحدّ من قدرته الإبداعية والإنتاجية؛ كون العقل شُغِل بقضايا غير محسوسة، وغائبة عن المنهج التجريبي أو حتى العقلي، وبوجود هذه الروايات التي ساهمت في صناعة الخرافة تلاشى دور النص القرآني المؤثر إما عبر بعض التأويلات المتأثرة بمثل هذه الروايات -المنتحلة- التي لم يَعُدْ لها دورٌ سوى دغدغة العقول الساعية إلى المثالية غير الواقعية، وهنا من سيظن أنني ربما أهاجم «الميتافيزيقا» وتسخير الفلسفة في فحصها عبر انتقادي للدور السلبي الذي أحدثه السرد الروائي المنافي للمنهج القرآني والسنة النبوية الصميمة، وفي الواقع لا إشارة للميتافيزيقا أو علم الإلهيات والوجود هنا؛ فهذا مبحث فلسفي له أصوله وأدواته الخاصة التي لا أرى أثرها السلبي على العقل، بل على العكس أرى أن تغييب مثل هذه المباحث الفلسفية يُلغي دور العقل الشكّي المنهجي الذي مارسه أمثال أبي حامد الغزالي؛ ليخرج الغزالي بنتيجة تنسف هذا المنهج، وهاجم فيها مباحث الفلسفة في الميتافيزيقا؛ لينتصر للتصوف كما جاء في كتابه «المنقذ من الضلال»، وكذلك «تهافت الفلاسفة»؛ فيأتي بعدها ابن رشد محاولا أن ينقذ ما حاول الغزالي أن يهدمه في الفلسفة عبر كتب مثل «تهافت التهافت» و«فصل المقال». بعيدا عن هذه السجالات التاريخية التي أُحدثت في نطاق العقل العربي، أعود إلى محور التأثير السلبي للسرد الروائي الذي شكّل جزءا من التراث الديني والاجتماعي عند العرب -خاصة- والمسلمين -عامة-، وأثّر في تكوين ماهية العقل لديهم، الذي بدوره أثّر على المسار الحضاري وقاده إلى الركود، وذلك ما ينعكس على التخلف الصناعي والتعليمي والاقتصادي.
هناك الكثير من التفصيلات التي يمكن أن تحيل حيثيات هذه المحاكمة للعقل العربي إلى مرحلتها الأخيرة «النطق بالحكم»، ولكن أرى أن هذا المشروع أكبر من أن يستوعبه مقال أو مقالان، بل بحاجة إلى أن يتحول إلى مشروع أمة؛ يُستكمل عبره ما بدأه عمالقة الفلسفة والعلم والفكر أمثال أبي حامد الغزالي، وابن رشد، وابن سينا، والفارابي، وعلي الوردي، ومحمد عابد الجابري وغيرهم -مع اختلاف اجتهاداتهم وتوجهاتهم، حتى إن اختلفنا مع توجهات بعضهم-. يمكن أن أختم هذا المقال بضرورة العودة إلى المنهج القرآني الساعي لإخضاع المعرفة إلى العقل الذي لا يمكن عبر ضوابطه المنطقية أن يتناقض مع قاعدة إيمانية -المسلّمات البدهيّة للدين- أو بشكل خاص مع نص قرآني، ومن الضرورة أن يتخلص العقل من شوائب النصوص -مثل السرد الروائي الذي يتنافى مع المنهج القرآني والنبوي- التي تتنافى مع القواعد الإيمانية والقواعد المنطقية الخاصة بالعقل، ولا يمكن أن يعمل العقل بعقلانية محضة بل لابد من التجريبية المنهجية التي توازن بين معطيات العقل والمحسوسات الظاهرة، وهذا بدوره يجعل من العقل العربي عقلا ملتزما بضوابطه الإيمانية «الدينية»، وعقلا يقيم للعلم وزنًا لا يدافعه بالتداخلات الدينية غير الصميمة. كذلك إعادة القوة إلى مكانة اللغة العربية واستعمالاتها الشاملة بما في ذلك حركة المعرفة والعلوم؛ يضاعف من لمّ شمل العقل العربي بهويته العربية المتمثلة في اللغة والثقافة، وهذا يحتاج إلى مضاعفة جهود الترجمة والتعريب الدقيق لمصطلحات العلوم -كون هناك هوّة سحيقة بين اتصال العلوم الطبيعية ومصطلحاتها باللغة العربية حتى وإن وجدت بعض الجهود-. كذلك سيقود تحقق الاستقرار السياسي في العالم العربي إلى استقرار اقتصادي ومعيّشي يُركّز عبره على تطوير التعليم والبحث العلمي والصناعة والإنتاجية بجميع جوانبها، ومن الممكن أن يُفسحَ هذا الاستقرار للعقل العربي مساحة لتطبيق مراجعة شاملة تصحيحية للتكوين العقلي وتوجهاته.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العقل العربی یمکن أن
إقرأ أيضاً:
للحفاظ على حدة العقل.. 8 عادات يجب توديعها
المناطق_متابعات
يتطلب الحفاظ على حدة العقل مع التقدم في السن أكثر من مجرد تمارين عقلية، فهو يتعلق بتجنب العادات التي يمكن أن تضعف القدرات المعرفية بمرور الوقت.
ويمكن لسلوكيات معينة، مثل إهمال التحديات الفكرية أو الوقوع في الروتين غير الصحي، أن تعيق الوضوح العقلي والتركيز.
أما بالنسبة لأولئك، الذين يرغبون في اتخاذ هذه الخطوة، فإن هناك ثماني عادات ينبغي التفكير في التخلص منها، بحسب ما نشره موقع Blog Herald.
1. تعدد المهامالتعامل مع مهام متعددة في وقت واحد وتوفير الوقت والشعور بالإنجاز، ولكن عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على الحدة العقلية، فربما يكون تعدد المهام هو أسوأ عدو للمرء. إن دماغ الإنسان غير مجهزة لتعدد المهام.
ومن المفاهيم الخاطئة الشائعة أن التوفيق بين المهام يعزز خفة الحركة العقلية، لكن في الواقع العكس هو الصحيح، حيث إن تعدد المهام يمكن أن يؤدي إلى التوتر والأخطاء ومشاكل في الذاكرة.
كما يمكن لتغييرات صغيرة أن تقطع شوطا طويلا في الحفاظ على الوضوح العقلي مع التقدم في العمر.
2. السهر أمام الشاشاتالإفراط في مشاهدة البرامج المفضلة حتى الساعات الأولى من الصباح أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي بعد منتصف الليل يكون ضارا بالتركيز والقدرات المعرفية.
ومع التقدم في العمر، يمكن ملاحظة وجود صلة واضحة بين الوقت الذي يتم قضاؤه أمام الشاشات في وقت متأخر من الليل وجودة التفكير في اليوم التالي مع شعور بالضبابية وتأثر حدة الذاكرة. تدعم الأبحاث أن الضوء الأزرق المنبعث من الأجهزة الإلكترونية يتداخل مع النوم، وهو أمر ضروري للوظائف المعرفية مثل الذاكرة والانتباه وحل المشكلات.
3. أسلوب حياة الأريكة والبطاطسفيما النشاط البدني مفيد للجسم وللعقل أيضا وممارسة التمارين الرياضية بانتظام، حتى ولو كانت بسيطة مثل المشي السريع، يمكن أن تعزز صحة الدماغ، ما يؤدي إلى تحسين الإدراك والذاكرة وحتى إبطاء شيخوخة الدماغ.
بمعنى آخر، النشاط البدني يشبه تمرين الدماغ، وكما هو الحال مع العضلات، يحتاج الدماغ إلى الحفاظ على لياقته أيضًا.
4. التوتريعد التوتر جزءًا من الحياة، فهو يساعد على الاستجابة للتهديدات ويحفز الشخص، على سبيل المثال، على الالتزام بالمواعيد النهائية، ولكن عندما يصبح التوتر مزمنًا، يصبح الأمر مختلفًا تمامًا.
ويمكن أن يكون للتوتر المزمن تأثير ضار على صحة الدماغ؛ يمكن أن يؤدي إلى فقدان الذاكرة، والتدهور المعرفي، وحتى زيادة خطر الإصابة بمرض الزهايمر. ولذلك يعد التحكم والتقليل من التوتر ضرورة إذا كان الشخص يرغب في الحفاظ على الحدة العقلية مع تقدمه في السن.
5. تجاهل الروابط الاجتماعيةمع التقدم في السن، تلعب الروابط الاجتماعية دورًا أكثر أهمية من مجرد رفع المعنويات، لأنها تبقي الذهن حادًا. إن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية المنتظمة توفر التحفيز الذهني وتقلل من التوتر ويمكن أن تقلل من خطر التدهور المعرفي.
ولا ينبغي التقليل من شأن قوة الروابط الاجتماعية، ويجب الحرص على التواصل والتفاعل مع الأقارب والأصدقاء والجيران.
6. وسائل التذكير الرقميةفي عصر أصبحت فيه الهواتف الذكية قادرة على تذكر كل شيء بدءًا من أعياد الميلاد وحتى قوائم البقالة، فمن السهل تفريغ هذه المهام لمساعدين رقميين. ولكن هنا يكمن الضرر حيث إنه لا يكون الخيار الأفضل لصحة الدماغ.
والقيام بتذكر معلومات خاصة بمهمة أو حدث ما يعد شكلاً من أشكال التمارين العقلية ويساعد في الحفاظ على حدة العقل.
7. نظام غذائي غير متوازنيحتاج الدماغ إلى مجموعة متنوعة من العناصر الغذائية ليعمل على النحو الأمثل؛ إن اتباع نظام غذائي غني بالأطعمة المصنعة والمشروبات السكرية والدهون غير الصحية يمكن أن يكون له آثار ضارة على صحة الدماغ.
من ناحية أخرى، يمكن لنظام غذائي غني بالفواكه والخضروات والبروتينات الخالية من الدهون والحبوب الكاملة أن يوفر العناصر الغذائية التي يحتاجها الدماغ ليظل نشطًا.
8. إهمال النومويعد النوم ليس ترفا، بل هو ضرورة، خاصة عندما يتعلق الأمر بإبقاء العقل يقظا. أثناء النوم، يعمل الدماغ بجد لترسيخ الذكريات وإصلاح نفسه. إن التقليل من النوم يعيق هذه العمليات الأساسية، ما يؤدي إلى التفكير الضبابي والنسيان وانخفاض الوظيفة الإدراكية.
ويجب التأكد من الحصول على قسط كافٍ من النوم الجيد كل ليلة. إنها واحدة من أفضل الخطوات التي يمكن القيام بها لصحة الدماغ مع التقدم في العمر.