شاع مصطلح «الصدمة» في الأوساط السياسية والإعلامية خلال الأيام الأولى من حرب السادس من أكتوبر ١٩٧٣، حينما كان عنصر المباغتة بمثابة الصدمة التي تلقاها الجيش الإسرائيلي بعد أن تفككت قواه خلال الأسبوع الأول من الحرب، وهو ما حدث يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وقد استيقظ الإسرائيليون على اجتياح كتائب عز الدين القسام «الجناح العسكري لحركة حماس» المستوطنات الإسرائيلية الواقعة على حدود غزة، وقد راح الإعلام الفلسطيني يبث الأحداث لحظة وقوعها، ومساء اليوم نفسه وصل عدد القتلى من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين إلى ٣٠٠، فضلًا عن أعداد الجرحى والمفقودين، وقد عجزت إسرائيل عن حصر أعدادهم، وقد وصل عدد القتلى بعد مرور أسبوع من هذا الصراع إلى ما يقرب من ٢٠٠٠ شهيد فلسطيني، و٨٠٠٠ مصاب الكثير منهم إصابتهم خطيرة، بينما وصل عدد القتلى من الجانب الإسرائيلي إلى ١٣٠٠، إضافة إلى الأسرى والمفقودين.
لم تفق إسرائيل من صدمتها، وقد جيشت كل عدادها وعدتها معلنة الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة، وراحت الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الاتحاد الأوروبي ودول أخرى كثيرة يعلنون عن دعمهم العسكري والسياسي، لدرجة وصول حاملة الطائرات الأمريكية إلى حدود فلسطين شرق البحر المتوسط، في مشهد سوف يسجله التاريخ دليلًا على افتقاد العدالة في هذا العالم المجنون، الذي تترأسه الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يشعر الساسة والعقلاء بأن هذا يعد عدوانًا فاضحًا على شعب أصابه اليأس بعد أن انصرف العالم كله عن قضيته العادلة، التي صدر بشأنها العديد من قرارات الأمم المتحدة بقيام دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧، وهي القرارات التي رفضتها إسرائيل، ولم تعترف حتى بحقوق الفلسطينيين الإنسانية، لدرجة اجتياح منازلهم وقتل أطفالهم وشبابهم، بعد أن أعطى العالم ظهره لقضيتهم العادلة، ورغبتهم في حياة كريمة على أرضهم، والمؤسف أن معظم الدول العربية قد أسقطت من اهتمامها القضية الفلسطينية، التي لم يبق منها إلا بيانات إنشائية تصدر أحيانًا من جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، بينما الفلسطينيون في الضفة والقطاع يواجهون الموت بصدور مكشوفة يوما بعد يوم.
عند كتابة هذا المقال، تواجه غزة عدوانًا غاشمًا بالمدافع والطائرات والصواريخ، لدرجة أن ربع المباني قد انهارت على ساكنيها، وتنقل لنا وسائل البث المباشر جثث القتلى من الأطفال والنساء بعد أن تحولت إلى أشلاء وسط صرخات الأمهات والآباء في مشهد مروع لم تلتفت إليه الولايات المتحدة والدول الغربية، وقد تابعنا بكل ألم ومرارة الجهود الدبلوماسية في محاولة لوقف إطلاق النار، إلا انه على ما يبدو فإن إسرائيل ماضية بجبروتها وعنفوانها لهدم مباني كل قطاع غزة تحت وابل متواصل من النيران، بينما حدث الاجتياح الفلسطيني صباح يوم السبت ٧ أكتوبر بأعداد قليلة لا تتجاوز المئات وبأسلحتهم التقليدية، في الوقت الذي تملك إسرائيل أحدث وسائل الحماية والردع، ورغم ذلك فقد استطاع هذا النفر القليل أن يحدث اختراقا مدويا شاهده العالم عبر وسائل الإعلام، حينما راحت تسقط المستعمرات والمعسكرات الإسرائيلية، وحالة الهلع والخوف التي سيطرت على الجنود والضباط، وكان المشهد معبرًا بصدق عن قوة إسرائيل الحقيقية، التي أسست جيوشها من المهاجرين من معظم دول العالم، بينما الفلسطينيون قد عبَّروا بمقاومتهم عن حقهم التاريخي والإنساني باعتبارهم أصحاب الأرض، وهو السبب الذي ضاعف من قوتهم وأعطاهم روحًا عظيمة وطاقة هائلة على القتال.
لم يشعر الغرب ومن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية بمسؤوليتهم عن الحالة المأساوية التي آلت إليها أوضاع الفلسطينيين الإنسانية والمعيشية، بل راحوا يجيشون الجيوش مؤكدين على دعمهم لإسرائيل بكل الوسائل بعد أن راحت الطائرات والصواريخ تضرب غزة صباح مساء، مسببة أضرارًا بالغةً، مستهدفة المنازل على ساكنيها في مشهد مروع يعبر عن وحشية العالم وافتقاده لكل معاني العدالة والإنسانية، وقد استهدفت المستشفيات والمدارس ومحطات الكهرباء والمياه، وقطع كل وسائل الاتصال البري الذي يمد غزة بالغذاء والدواء، وهو أمر غير مسبوق، لو حدث في أي بقعة من العالم لقامت الدنيا ولم تقعد.
المشهد الأكثر إيلامًا هو الموقف المتخاذل للدول العربية، وخصوصًا الجامعة العربية، التي لم تكلف نفسها مجرد اجتماع وزراء الخارجية العرب، إلا بعد مرور عدة أيام، وقد أعلن أمينها العام من موسكو، أنه ينتظر موافقة الدولة رئيس الدورة العربية، للموافقة على الاجتماع.. هل هناك أكثر من هذا هوانًا؟ وقد تمخض اجتماع وزراء الخارجية العرب عن صدور بيان هزيل ألقاه الأمين العام، وهو ما ضاعف من شعور الأمة العربية بالخزي والهوان. أكتب هذا المقال وغزة تشهد أهوالا من الاعتداءات بالصواريخ الذكية والمدفعية الثقيلة، ولم يسأل أحد نفسه: حتى لو انهارت كل بنايات غزة على كل ساكنيها هل سيرضخ الفلسطينيون؟ وهل ستُحل المشكلة؟
كل شعوب العالم التي واجهت مثل هذا الظلم والدمار لم يحصد المعتدون ثمار اعتداءاتهم، فشعور المظلوم وما وصل إليه من يأس كان دائما بمثابة الطاقة التي تجعله قادرًا على هزيمة عدوه، ولنا في الحرب العالمية الأولى وحتى الثانية مثالًا على ذلك، ولعل سؤلًا آخر يطرح نفسه: ما هي مهمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟ ألم يكن في مقدمة أهدافها - بعد أن ذاق العالم ويلات الحروب حل المشاكل العالمية بالطرق السلمية، وإنصاف الدول الضعيفة؟ وقد صدر بشأن القضية الفلسطينية العديد من القرارات بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود ما قبل ٥ يونيو ١٩٦٧، وعاصمتها القدس الشرقية. وقد وافقت الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها من الدول الغربية، ورغم ذلك فقد ظلت إسرائيل مستقوية بالولايات المتحدة والغرب، رافضة هذه الحقوق المتواضعة، ألم يكن ذلك جديرًا باهتمام القوى الكبرى في العالم؟
أعتقد أن الولايات المتحدة تدفع بالعالم إلى أتون حروب متواصلة لا تتوقف، وبدلًا من أن تكون الدبلوماسية والسياسية والعلاقات الدولية هي الوسيلة الناجعة لحل مشاكل العالم إلا أنها قد اختارت الحروب، ولعل ما يحدث من صراع روسي أوكراني، يعد نموذجًا لذلك، فلو بذلت أمريكا من الوسائل السياسية لحل هذا الصراع، لأنقذت البشرية من هول حروب مدمرة، لعل وقتها لم يحن بعد!
أشاهد على التلفاز وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ما يحدث لأهلنا في غزة، ولا نملك بسبب ضعفنا وهواننا إلا أن نستنجد بعدالة السماء.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة بعد أن
إقرأ أيضاً:
واشنطن وطهران.. مقارنة بين اتفاق 2015 ومطالب 2025 وموقف إسرائيل
أعلن وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو أمس الأربعاء قبول واشنطن امتلاك إيران لبرنامج نووي سلمي، في مؤشر على تراجع حدة الخلاف بين الطرفين بعد انخراطهما في عملية تفاوض انطلقت مؤخرا من سلطنة عمان.
إيران أيضا، أرسلت إشارة بإمكانية التوصل لاتفاق، إذ عبر وزير خارجيتها عباس عراقجي عن تفاؤله بإحراز تقدم في التفاوض مع واشنطن.
وكانت إيران توصلت لاتفاق مع القوى الدولية في 2015 بشأن البرنامج النووي، ولكن دونالد ترامب سحب واشنطن من هذا الاتفاق في عام 2018، فردت طهران بتنصلها منه كليا.
فيما يلي مقارنة بين اتفاق 2015، وملامح الاتفاق الذي قد تسفر عنه مفاوضات 2025، إلى جانب الموقف الإسرائيلي:
2015.. تنازلات ومكاسب متبادلة
في 2015، توصلت القوى الدولية وطهران لاتفاق اعتبر لحظة فارقة في علاقات الطرفين التي خيم عليها التوتر الشديد لعقود.
تمحور الاتفاق حول إجراءات تمنع إيران من صنع سلاح نووي، مقابل رفع العقوبات الدولية عنها.
وقد تضمن الاتفاق بنودا واضحة تقيد البرنامج النووي الإيراني من قبيل تخصيب اليورانيوم بنسب منخفضة، ومنع طهران من استخدام أجهزة الطرد المركزي الحديثة.
إلى جانب التفتيش الدولي للمنشآت النووية، حيث يسمح بدخول المفتشين إلى المواقع المشبوهة بما فيها المواقع العسكرية.
كذلك، يشمل الاتفاق عدم إنشاء إيران مفاعلات نووية جديدة تعمل بالماء الثقيل، خلال 15 عاما.
وينص الاتفاق على أن تشرف روسيا على تأمين الوقود النووي لإيران.
إعلانفي المقابل، يقضي الاتفاق برفع العقوبات الاقتصادية والمالية الأوروبية والأميركية على إيران.
وقد نص الاتفاق على أنه مقابل التزامات إيران، تتعهد الأطراف الأخرى، برفع كافة العقوبات عن إيران بما فيها العقوبات المفروضة من الأمم المتحدة.
وبموجب الاتفاق، تتعهد الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بعدم فرض أي حظر جديد على إيران.
وحينها، ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية أن الاتفاق ينص على الإفراج عن جزء من الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج.
لكن ترامب سحب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق في ولايته الأولى عام 2018.
ردا على ذلك، تنصلت إيران من الاتفاق وتمكنت من الوصول بنسبة التخصيب إلى 60%، مقتربة بذلك من النسبة التي تمكّنها من صناعة قنبلة نووية (90%).
كما بدأت بتشغيل أنظمة طرد مركزي أكثر تقدما من تلك التي سمح بها الاتفاق النووي.
2025.. تغيرات سياسية وشروط مشددة
مطالب الطرفين في 2025، لا تختلف في جوهرها عن بنود اتفاق 2015.
ذلك أن الهدف الأساسي الأميركي المعلن هو منع طهران من صنع قنبلة نووية، بينما هدف طهران المعلن يتلخص في بناء برنامج نووي سلمي مع رفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد.
ولكن إيران كانت أقوى سياسيا في 2015 مقارنة بعام 2025، حيث سقط النظام الموالي لها في دمشق، وتلقى حليفها الثاني حزب الله انتكاسة كبيرة في حربه مع إسرائيل.
هذا المتغير يشجع واشنطن على وضع مطالب جديدة، وقد يجبر طهران على تقديم تنازلات كانت مستبعدة في الأعوام الماضية.
وبعد أن كان اتفاق 2015 يبقي تخصيب إيران لليورانيوم في حدود معينة، تطالب واشنطن حاليا بتجريد طهران من هذا الحق بشكل كامل.
وقال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إن بإمكان إيران امتلاك برنامج نووي مدني سلمي إذا أرادت ذلك عبر استيراد المواد المخصبة، وليس بتخصيب اليورانيوم.
وأكد روبيو أن على إيران أن تتخلى عن كل عمليات تخصيب اليورانيوم إذا كانت ترغب في التوصل إلى اتفاق في المحادثات الجارية مع إدارة الرئيس دونالد ترامب وتجنب خطر اندلاع صراع مسلح.
وبشكل عام، يسعى الرئيس الأميركي إلى اتفاق أكثر صرامة، يقيّد البرنامج النووي الإيراني بشكل دائم لا مؤقت.
إعلانكذلك، يطالب ترامب بوضع قيود على تطوير إيران للصواريخ الباليستية، التي يراها تهديدا للولايات المتحدة.
وفي اتفاق 2015، لم يكن البرنامج الصاروخي أصلا محل تفاوض.
أما إيران، فتطالب برفع العقوبات الاقتصادية، التي أدت إلى تدهور قيمة العملة وارتفاع التضخم، وتهدف للعودة بنفطها إلى السوق الدولية وضمان تدفق عائداته، وإعادة اندماجها في النظام المالي العالمي.
كما تطالب برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، بعدما صنفته إدارة ترامب عام 2019.
وتصر على الاعتراف بحقها في برنامج نووي للأغراض السلمية، مثل توليد الطاقة والبحث العلمي.
وتشدد طهران على ضرورة وجود ضمانات ملزمة من الولايات المتحدة بعدم الانسحاب من أي اتفاق نووي جديد، إذ لا تزال تجربة الانسحاب الأميركي من اتفاق 2015 تلقي بظلالها على أي مسار تفاوضي جديد.
الموقف الإسرائيلي
في 2015، عارضت إسرائيل بشدة الاتفاق النووي بين طهران والقوى الدولية، وحاليا تبدي قلقا كبيرا إزاء احتمال التوصل لاتفاق جديد بين إيران والولايات المتحدة.
وبشكل شبه يومي يهدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتوجيه ضربة عسكرية لإيران.
وذكر تقرير الأربعاء أن إيران تعزز التدابير الأمنية حول مجمعين من الأنفاق على عمق كبير يتصلان بمنشآتها النووية الرئيسية، وتكتفي الولايات المتحدة بمطلب سلمية البرنامج النووي الإيراني.
لكن إسرائيل تذهب إلى أبعد من ذلك وتصر على أن أي محادثات يجب أن تؤدي إلى تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل، مثل ما حصل مع التجربة الليبية.