هل ورد في السنة النبوية أحاديث تنهى عن الجلوس على القبر؟ .. رد حاسم من علي جمعة
تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT
ورد في السنة النبوية بعض الأحاديث التي تنهى عن الجلوس على القبر، وورد أيضًا ما يفيد جواز ذلك. فنرجو منكم بيان هذا الأمر، وذكر الحالات التي بيَّن فيها الفقهاء جواز الجلوس على القبر وعدمه.
قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء إنه ورد في السنة المشرفة النهيُ عن الجلوس على القبر في غير ما حديث؛ منها ما أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، ومسلم في "صحيحه"، وأبو داود والنسائي وابن ماجه في "السنن"، وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ».
كما ورد في السنة ما يقتضي جواز الجلوس عند القبر؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ".. إلخ الحديث. متفق عليه، وروى البخاري في "الصحيح" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى القَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ".
واتفق الفقهاء على جواز الجلوس على القبر عند الدفن، كما اتفقوا على أن الجلوس عليه لقضاء الحاجة لا يجوز قولًا واحدًا.
واختلفوا في المراد من أحاديث النهي عن الجلوس على القبر فمنهم من أجاز الجلوس على القبر، وحمل النهي على الجلوس للحديث وقضاء الحاجة؛ احترامًا لصاحبه؛ لأن حرمة الميت كحرمة الحي، وهذا التوجيه مرويٌّ عن أبي هريرة وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، كما ورد عن بعض الصحابة الجلوس على القبر؛ كعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهذا مذهب الإمام مالك، ونقله الإمام الطحاوي عن الإمام أبي حنيفة وأصحابه.
أمَّا الشافعية والحنابلة فيحملون النهي على الكراهة لا على التحريم، ويجعلونه عامًّا في كل جلوس، إلا للحاجة؛ كأن لا يكون له طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء، وكحالة الدفن وعند القراءة على القبر، وفي معناها الدعاء للميت، والقول بالكراهة هو المذكور في كتب الحنفية، وهو مروي أيضًا عن جماعة من السلف.
قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" (ص: 229، ط. المكتبة العصرية): [(ولا يُكره الجلوسُ للقراءة على القبر في المختار)؛ لتأدية القراءة بالسكينة والتدبر والاتعاظ، (وكره القعود على القبور بغير قراءة)] اهـ.
وقال الإمام الباجي المالكي في "المنتقى" (2/ 24، ط. مطبعة السعادة): [تأول مالك رحمه الله هذا على أن النهي عن الجلوس على القبور إنما تناول الجلوس عليها لقضاء الحاجة، وقد قال مثلَ قول مالكٍ: زيدُ بن ثابت رضي الله عنه، وهو الأظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زار القبور وأباح زيارتها، ولا خلاف بين المسلمين في جواز الجلوس عليها عند الدفن؛ فيُحمَل الحديث على ذلك، ويجمع بينه وبين ما رُوِيَ مِن قول علي رضي الله عنه وفعله] اهـ.
وقال الإمام المواق المالكي في "التاج والإكليل" (3/ 74، ط. دار الكتب العلمية): [عندنا أن الجلوس على القبر جائز، والمراد بالنهي عن ذلك الجلوسُ عليه للغائط والبول؛ كذا فسره مالك، ورُوي ذلك مُفَسَّرًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان علي رضي الله عنه يتوسَّدُها ويجلس عليها] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 372، ط. دار الكتب العلمية): [فإن لم يكن طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز؛ لأنه موضع حاجة] اهـ.
وقال العلامة الحجاوي الحنبلي في "الإقناع" (1/ 233، ط. دار المعرفة): [ويُكرَه المبيتُ عنده.. والجلوسُ والوطءُ عليه؛ قال بعضهم: إلَّا لحاجة] اهـ. وممَّا ذُكِر يُعلَم الجواب عما جاء بالسؤال.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الجلوس على القبر علي جمعة رضی الله عنه ورد فی السنة اهـ وقال ى الله
إقرأ أيضاً:
ورحل يوسف محمد صديق خادم السُنّة النبوية
تلقيت في ساعة متأخرة من ليلة البارحة الجمعة 7 فبراير 2025م نعي أخينا الأستاذ الدكتور يوسف محمد صديق خادم السنة النبوية وعلومها الذي توفي في القاهرة ودفن بها. رحم الله الأخ الشيخ يوسف صاحب الأدب الجم والعطاء الثري في التعليم الجامعي والبحث العلمي والدعوة إلى الله تعالى.
يوسف غير معروف وغير مشهور في بلده السودان، لأنه عاش كل سنوات دراسته العليا وطوال خدمته خارج السودان. مرة واحدة تهيأت أسباب عودته إلى أرض الوطن لكن حالت إجراءات إدارية دون ذلك، فقد رشحته المنحة السعودية ضمن الأساتذة المنتدبين للتدريس في جامعة أم درمان الإسلامية في الثمانينيات، غير أن إدارة الجامعة رأت عدم الموافقة. وزارة التعليم العالي في السعودية آنئذ منحت جامعة أم درمان الإسلامية ثلاثين وظيفة أستاذ بمخصصاتهم ورواتبهم حسب الجامعات السعودية، وكلهم من غير السودانيين. واعتذرت جامعة أم درمان الإسلامية بأسباب قدَّرتها للشيخ يوسف عن صعوبة الاستثناء لأستاذ سوداني، وتفهم يوسف ورجع للتدريس في السعودية.
الشيخ الدكتور يوسف صديق مولود في ود رملي شمالي الخرطوم بحري عام 1952م. درس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ثم في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض لينال فيها الماجستير والدكتوراة في الحديث وعلومه.
في أثناء الدراسة بالجامعة الإسلامية بالمدينة درس الكتب الستة على يد الشيخ محمد المختار الشنقيطي وحصل منه على السند المتصل في الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل على سند آخر في القراءات متصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
التحق الشيخ يوسف صديق بعضوية هيئة التدريس بجامعة الإمام في فرعها بجنوب المملكة، ثم انتقل إلى جامعة الكويت ودرَّس فيها سنوات، ليعود بعدها إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة ليقضي بها جلَّ سنوات خدمته في كلية التربية.
وكان غالب تدريسه في قسم الطالبات حيث يكون التدريس عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة، وعلى الرغم من أن طالباته لم يحصل لهن لقاء مباشر مع أستاذهن، فإن الأستاذ حظي باحترام كبير وتقدير زائد، لاحظ كاتب هذه السطور ذلك يوم جرى تكريم الشيخ يوسف في إثنينية عبد المقصود خوجه بمدينة جدة، وفي تلك الأمسية أيضًا كانت متابعة الطالبات لأستاذهن عبر دائرة تلفزيونية.
وكانت تلك الأمسية دليلا على ما يحظى به الشيخ يوسف من مكانة علمية وأدبية. لا أنسى تلك الإثنينية في أمسية الاثنين السادس من أكتوبر 2009م، التي جاءت بمناسبة تقاعده وعودته النهائية للسودان.
جلس الشيخ يوسف وعن يمينه الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الشيخ عبد السلام العبادي وعن يساره الشيخ عبد المقصود خوجه صاحب الإثنينية المشهورة في جدة.
تألق الشيخ يوسف في تلك الليلة إذ بدأ حديثه إلى الحاضرين بمثل ما اعتاد أن يفتتح أحاديثه بالآية الكريمة: “فتبسم ضاحكا من قولها وقال أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين”.
وتبين خلال خطابه في تلك الأمسية منهجه في الحياة بالبعد عن الأضواء وطلب الشهرة، وإلا فإن أمثاله مثل النجوم الزواهر في سماء العلم والمعرفة.
استهل الشيخ يوسف كلامه بإشارة لطيفة إلى آداب طالب الحديث وأولها ألا يحدِّث في حضرة من هو أهل منه بالحديث، وقال إنني أعتذر إذ أحدِّث في حضرة الشيخ محمد علي الصابوني والشيخ عبد الوهاب أبو سليمان وكانا حضورًا في ذلك المجلس.
وروى الشيخ يوسف قصة أن شيخهم في المسجد النبوي محمد المختار الشنقيطي كان يوقف حلقة العلم، عندما يحضر إلى المسجد النبوي الشيخ المشاط من مكة فيلتحق به، يقول: وكنا نعلم بحضوره عندما نأتي للحلقة ولا نجد الشيخ الشنقيطي.
لقد أضحكني الشيخ يوسف حين طلب مني خطابًا لجامعة إفريقيا العالمية أقدم فضيلته إليهم ليواصل التدريس الجامعي، مع أن الشيخ كان غنيًا عن ذلك إذ أنشأ قبل عودته مع آخرين كلية جامعية. قلت لشيخ يوسف: أأنا أقدمك لهم، والله هذا من أكبر المفارقات. ولما ذهب إلى الجامعة قبلوه على الفور، فاتصل بي بالهاتف من الجامعة مسرورًا، لكن المرض عاجله فانقطع عن التدريس، وإن لم ينقطع عن التأليف فقد أرسل لي آخر مؤلفاته.
ومؤلفاته بلغت الأربعين كتابًا ما بين تأليف وتحقيق في صنوف شتى من مجالات العلم الشرعي والثقافة الإسلامية، منها: تحقيق كتاب مختصر نصيحة أهل الحديث للخطيب البغدادي، والأحاديث القدسية لابن الدبيِّع الشيباني (تحقيق)، وكتاب مرتكزات الثقافة الإسلامية، وموعظة الأوزاعي، وموطأ الإمام مالك، وتحديات العولمة الأخلاقية، والرشد في فقه الدعوة وغيرها من الكتب النافعة.
وهناك كتاب طريف من تحقيقه هو كتاب المصريون وتحامل السيوطي وقد سئل عنه في إثنينية خوجه وأنقل جوابه الذي ينصف المصريين: “في القرن العاشر وقع خلاف بين العلماء وبالذات بين السيوطي والسخاوي، فوقعت بينهما مشادة شديدة مما أدت إلى الإساءة وبالذات إلى إخواننا المصريين وإلى السيوطي، حتى كتب كتاباً عن السخاوي. السيوطي متوفى عام 911هـ علماء القرن العاشر، وهو من خيرة من كتب في السنة والرقائق رحمه الله، فكتب كتابه “الكاوي في دماغ السخاوي” فالمشاكل هذه من قديم موجودة، وكتب في “شذور الذهب”: المصريون أذلاء يحملون الضيم، هذا الباب، فنحن أخذناه وعلقنا عليه، وذكرنا الأحاديث المبينة كذلك، وهذه الأمة هي أمة معطاء، والكل في العالم العربي إلى يومنا هذا مدين لإخواننا المصريين بالمعرفة وبالعلم، فهم أساس وجودنا شرقاً وغرباً، فكان الكتاب محاولة بيان مراد السيوطي في عباراته، وهو كتاب مخطوط في الأصل، ولكن جر علينا مسائل كثيرة”.
الشيخ يوسف؛ هذه القامة التي شرفها الله بخدمة الحديث النبوي، لا أذكر أنه نال تكريمًا رسميًا في حياته يليق به، غير تلك الأمسية الفريدة في إثنينية عبد المقصود خوجه، غير أن التكريم الكبير هو ما ناله في أفئدة الطلاب والطالبات، وهذا ما يذكره راعي تلك الأمسية حين وصفه بالتربوي من طراز خاص الحفي بطلابه الباذل لهم وكل من يلوذ به من علمه وجذوة فكره الوقاد. وكذلك التقدير والتكريم الذي وجده عند زملائه من أساتذة الجامعة الذين ظلوا يحتفون به ويكرمونه غاية الإكرام عندما يحل معتمرًا في شهر رمضان خلال سنوات إقامته الأخيرة بالسودان.
وأختم بتعليق لطيف له عن مكثه سنوات طويلة في تعليم البنات، وقد سألته إحدى طالباته عن ذلك، فأجاب الدكتور يوسف صديق: أنا درَّست في كلية البنات للتربية، وكنت كذلك في كلية البنات في جدة، وناقشت قرابة خمسين رسالة خلال هذه العشرين سنة، من دكتوراة إلى ماجستير، وفي جامعات السودان وفي أم القرى كذلك، الطالبات تدريسهن في الحقيقة لطيف، ويحصل الإنسان لطف كثير من معاشرتهن، أخونا الدكتور حسن يوسف موجود معنا الآن كان أستاذاً في مدرسة ثانوية للبنات في السودان، كان دائماً يأتي لابساً بنطالاً، وفي يوم ما لبس جلابية وعمامة، فلما جاء عند الباب البنات رأينه وركضن، كل واحدة اختفت، في واحدة التصقت على عمود، فقالت “هذا ترى مو راجل هذا حسن يوسف”، فقدم استقالته، فقال لا أدرِّس في مدارس البنات.
درَّست في الكويت ـ كما يقولون ـ فيس تو فيس (face to face)، وأحسن طريقة لتعليمهم هي الموجودة في المملكة العربية السعودية عن طريق شبكات التلفزيون المغلقة، فالطالبة تحتاج كثيراً جداً إلى هذا المعنى الذي ذكرتيه يا أم كلثوم، وهي قريبة جداً أكثر من الولد، تستطيع أن تعطيها بعض الأحاديث التي هي في الترهيب، أنا أذكر طالبة دخلت عندي في جامعة الكويت، أخذت الشهادة الإعدادية نجحت، يعني درست وهي كبيرة عمرها أربعون سنة، فالنظام في الكويت يعطيها فرصة تدرس في الجامعة، فدخلت في الجامعة وأول يوم من حظها السيئ حصل أن المسكين هذا كان جالساً في القاعة، فدخلت، والطالبات اللواتي كنّ من سنة أولى، ما يقارب 259، هؤلاء الطالبات هي جلست معهن، فلما دخلت ضحكن، أنا كنت أحسبها إدارية، جاءت تأخذ شيئاً، فجاءت لابسة قصيراً، ومتعطرة، فقلت لها أنت من؟ فقالت لي أنا طالبة، فضحكت الطالبات، طالبة وعمرها أربعون سنة في سنة أولى، فحدثتني أنها مدرِّسة، فقلت لها لا بد من عباءة أو كذا فغضبت غضباً شديداً، فخرجت إلى العميد، هذا العميد تخرج من عندنا من السودان وكان لاعب كرة عندما كان في السودان وكان حارس مرمى، فقال لها، لو جئتني عارية إلى الجامعة ما فيها حسن سلوك، اذهبي واحضري خطاباً من الجامعة، قال لها أحسن لك أنك تنسحبين، الطالبة انسحبت، ثم جاءتني بعد فترة، قالت أنا أمي أصلها ألمانية، وحاولت تعتذر بسبب الملابس، فقلت يمكن الله سبحانه وتعالى ما قال يحبسك في النار لو قال يحبسك في هذا الحمام، يغلق عليك من الصباح إلى الليل، ما يحبسك في النار التي وقودها الناس والحجارة، ترضين يحبسونك في الحمام هذا؟ قالت: لا والله ما أرضى، قلت لها لماذا تلبسين هكذا؟ هذه الطالبة والله سافرت للعمرة، وارتدت الحجاب وتحجبت، وبعد كم شهر جاءت وقالت أنا فلانة، ولكن لن أسجل عندك أبداً حتى لا تقول نجحتني عشان الحجاب، والله ما رأيتها بعد هذا الكلام، وما أدري من تلك الساعة كيف قلت لها يحبسك الله في هذا الحمام من الصبح للمساء، ترضين؟ قالت: لا، طيب كيف لو سجنوك في نار جهنم؟ المرأة قريبة جداً جداً في الوعظ أكثر من الرجل.
رحم الله شيخنا الدكتور يوسف صديق وأحسن إليه وبارك في أهله وولده… نفتقد ظرفه وتحنانه ولطفه، وتوقيعه في ذيل مكاتباته من فرط التواضع والأدب: ” يوسف صديق ترابُ قدح العلماء”.
بقلم: عثمان أبوزيد
إنضم لقناة النيلين على واتساب