ما الذي تقوله الصورة في هذا الهزيع المتأخر من ليلِ غزة؟ وما الذي يدور هناك، ما الذي يدور ما بعد الصورة في ليل بلا كهرباء؟ في واقع الأمر، فإنه لا المصورون ولا الصحفيون ولا العالم المتفرج يعرفون شيئًا أبعد من ذهول الصورة التي تشظت إلى صور وشظايا منذ الساعات الأولى من صباح سبت السابع من أكتوبر، التي بلغت مع الفجر الذي أكتب فيه هذه السطور (السبت، 14 أكتوبر) أكثر ساعات الكارثة التباسًا وعتمة في تلك الأرض المُقتطعة من الأرض بعدما قطع عنها لصوص المكان والزمان شرايين والماء وخطوط الكهرباء.
وإذا قيل إن أول ضحايا الحرب هي الحقيقة؛ فسأقول إن الحقيقة الوحيدة هي التي تحدث الآن هناك، لا في دهاليز السياسة المغلقة. كلُّ الحقيقة هناك لا في مكان آخر، هي من نصيب الضحية وحدها، هي حظ الضحية وسرها المدفون معها بعد الصرخة التي أحرقت النجوم - «لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ» قبل أن تنطفئ تلك الصرخة تحت جحيم الطيران ورعد المدفعية وبرق البوارج، تنطفئ لتحشر العالم بعدها في دوي هذا الصمت الكوني الأعمى.
أما نحن، البعيدون الواقفون خارج إطار الصورة المتشظية، فليس لنا سوى الكلام الذي لم يتحرر بعدُ من فصحى الخطابة وعبء الاستعارة، شهودًا أمام الحقيقة والحق من مقاعدنا الباردة في ظلام المسرح، نكتشف أنفسنا كأسرى لهذه الفُرجة المهينة على شعب من 5 ملايين نسمة ونصف يساقون في هذه الساعات لإبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة والبث الحي، حيث ستعاد صياغتهم كضحايا ضروريين لهذه الحرب، ليصبحوا عما قريب مجرد عدَّاد أرقام يتفاقم كل دقيقة، إلى حين تتعب المستشفيات ووسائل الإعلام من إحصاء الشهداء فردًا فردًا، قبل أن تعود لتشرع بإحصائهم مُجملين في أسماء عائلات تباد بأكملها من السجلات.
لا حاجة لنا الآن بالحديث أكثر عن مشاعر جماعية -يعتبرها البعض ثورية- مثل الكرامة والشرف و«النخوة العربية» ونصرة المستضعفين، تلك المشاعر التي يبدو أنها تراجعت مع الزمن وتبلدت من قلة الاستعمال، أو ربما من كثرة الاستعمال والاستهلاك في الخطاب السياسي. ولا وجدوى في هذا المقام، ولا وقت؛ لأن نُذكر من لا يرعوي ولا يتذكر، من الكبار والصغار، بالعيب وضرورة الخجل والحياء والتيمم بالصمت المحتشم حين يجف ماء الوجه، فالسؤال الضروري هذه الأيام هو ذلك الذي يرتد إلى بئر القلب ليفتش عن أضعف الإيمان فينا، عن رفض القلب لأبشع ألوان الإهانة الأخلاقية والحضارية والسياسية في التاريخ المعاصر- ولندع البطولات والشرف والمجد لأهلها، أهلنا الصامدين المعاندين في القطاع وفي سائر الأرض المحتلة.
ولكن كم مرةٍ سيتكرر هذا المشهد المُكرر بلا هوادة! إسرائيل تقصف بجحيمها الجوي والبري والبحري القطاع المحاصر منذ 16 عاما بأربعة آلاف طن من المتفجرات، منذ السبت حتى الخميس الماضي فقط، هذا وفقا لبيان جيش الاحتلال نفسه. ومرة أخرى، خلال عمر صغير أشاهد هذا المشهد الذي يتكرر في حياتي للمرة السابعة على الأقل، وأحاول أن أحصي وأتذكر، حتى لا ينال التكرار من ذاكرتي، سبعَ حروب مباشرة شنتها إسرائيل على غزة، أخذت في الغالب عناوين توراتية تريد إسرائيل من خلالها أن تحشر الصراع في سياق ديني، فارضةً على المقاومة أن ترد عليها بعناوين مضادة من معجمها القرآني.
أما ما يحدث في هذه الأثناء فهو استئناف للنكبة الفلسطينية المستمرة، ولكن لن يذبح الفلسطينيون في وديان الصمت هذه المرة كما ذبحوا وشردوا عام 1948، بل علنًا وعلى رؤوس الأشهاد. ولكن ماذا بعد أن نسأم من متابعة يوميات الجريمة/ الفضيحة العلنية على شاشات الأخبار وعلى شبكات التواصل المعولمة؟ سنعود إلى مخادعنا لنحاول أن نرمم ما يمكن ترميمه من الضمير الذي نخاف عليه كل يوم من أثر الاعتياد والتكرار في هذا الروتين الدموي الثقيل والبطيء، ولنسأل عن بقايا «الإنسانية» فينا، هذا المصطلح الذي لا أذكر أنه استهلك في الإعلام، وفي حبر المثقفين وخطب السياسيين، كما استهلك طوال هذا الأسبوع، وذلك على أثر كذبة سافرت من تل أبيب إلى واشنطن في اتصال هاتفي يحكي فيه نتانياهو لبايدن عن «إرهابيين يقطعون رؤوس الأطفال» في غلاف غزة، ليطلق الأخير الكذبة من على منبر البيت الأبيض كمن سمع وشاهد بأم عينيه، في خطاب سيذكره التاريخ من بين أسوأ خطب أمريكا للعالم في تاريخها.
لكن الصراع على السردية والمفهوم يشي بما هو أبعد من الحرب على الأرض، ويكشف عن صراع دائر داخل اللغة. وهنا يكتشف العربي غياب التنظير المضاد والفلسفة المضادة القادرة على إنتاج مفاهيم مقابلة للمفهوم الحصري الغربي الذي يُصدِّق على جواز الإنسانية بختم أمريكي ويسحبه حين يشاء.
أخيرًا، لا ننسى أن الإبادة الجماعية التي تحدث في هذه الأثناء داخل القطاع المحاصر، والمستمرة منذ أسبوع كامل تحت إشراف أمريكي وغربي، بدعم عسكري وسياسي ولوجستي مباشر، هي محاولة يائسة من حكومة الحرب الفاشية في إسرائيل، بزعامة نتانياهو وغانتس، هدفها المعنوي الأول هو محو انتصار المقاومة الإسلامية على غرور القوة الإسرائيلية في معركة طوفان الأقصى التي جاءت متزامنة مع الانتصار الكبير الذي سطره أبطال الجيش المصري في ذات الموعد من أكتوبر عام 1973، دون أن ندري حتى اللحظة إن كان هذا التزامن موقوتا عن سابق قصد وترقب من قبل المقاومة، أم أنه حدث جاء بمحض الصدفة التاريخية المذهلة، إلا أن أكتوبر، في الحالتين، سيبقى موسم شؤم لدى الإسرائيليين، وستبقى صبيحة السابع من أكتوبر أمثولة شاخصة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني «لم تُنسَف فيها تحصينات إسمنتية فحسب، بل أيضا حصون فكرية من الأفكار التنميطية المُسبقة». كما كتب عزمي بشارة قبل أيام.
سالم الرحبي شاعر وكاتب
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: