الروح القتالية ودورها في الحرب الطويلة
تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT
من وسط الغبار الكثيف الذي خلفته صواريخ الإبادة الإسرائيلية يبدو وجه شاحب يقطر عرقا وغضبا، يحمل بين يديه جسد ابنته الذي انتشله من بين الأنقاض، ويصيح في وجه أول عدسة هاتف توثق مأساته "والله ما احنا منهزّين (لن تهزّونا)"، ثم يرفع يده بشارة النصر "والله ما غير ندخل تل أبيب (والله لندخلن تل أبيب)"، ثم يستدبر الكاميرا ويركض بحثا عن عربة تحمله إلى المشفى أو تحمل ابنته إلى المدفن.
طبيبة منهمكة في عملها في مشفى في غزة يصلها خبر استشهاد زوجها فتخرج بين الناس ترفع شارة النصر وهي تردد "زوجي استشهد يا جماعة، زوجي استشهد.. أشهد أن لا إله إلا الله"، ثم ينتهي مقطع الفيديو والطبيبة تسير بين الناس تبشرهم باستشهاد زوجها، وتتصبر بحبس دموعها.
أم محمد من غزة تتلقى اتصالا من صديقتها لتطمئن عليها وتثبّتها، فترسل إليها أم محمد مقطعين صوتيين بصوت تملؤه السكينة وتقول "أعرف أنك ترسلين لي لتصبريني وتثبّتيني، لكني أريد أن أقول لك شيئا: نحن من يريد أن يثبّت ويصبّر من هم خارج غزة، لأننا وصلنا.. وعقيدتنا ثبتت، وأرانا الله أشياء تثبتنا وتقوينا، اليوم كان القصف مريعا، لم أشهد في حياتي صوتا أشد وأشنع منه، لكني دعوت بأن يلقي الله أمنة من النعاس على أولادي، ووالله العظيم لم يستيقظ أحد منهم رغم أن المكان من حولنا يتساقط قطعا وشظايا، وتطغى الأصوات المخيفة ولكن لم يستيقظ أحد منهم".
ثم يأتي صوت انفجار حاد، وينقطع صوتها لتعود بتسجيل ثانٍ بعد فترة "آسفة، القصف شديد، آسفة أكثرت عليكم لكني أريد أن تفهموا هذا المعنى جيدا، لا أدري متى سأحدثكم مرة أخرى، لأن الوضع صار صعببًا، لكن افهموا عني، افهموا جيدا التاريخ يتغير، والتاريخ قد يكتبه الخونة، وسيزوّرون ما حصل، إذا لم يمكّن الله لنا والله أعلم، إن شاء الله ربنا بيمكّن لـ…"، ثم يدوي صوت انفجار أعنف من الأول.
الحرب الطويلةمنذ الأيام الأولى كان التوجه في إسرائيل ليكون الرد على المفاجأة القسامية بحرب طويلة المدى، فحسب تقارير إعلامية أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس الأميركي أنه يستعد لدخول القطاع، وأن الحرب ستكون طويلة وغير مسبوقة.
وأمس صرح نتنياهو بأنه سيقتل "كل شخص ينتمي لحركة حماس"، وهو تصريح يحيل إلى عنصر رئيسي في الحروب الطويلة لا يتعلق بالاستعدادات المادية، بل بالروح القتالية والمعنوية التي تلعب دورا أساسيا خلال الحروب الطويلة.
فعلى مدى 16 عاما يعيش مدنيو غزة حصارا خانقا وقصفا موسميا مروعا، لكن روحهم المعنوية وصمودهم اللذين يظهران من خلال تصريحاتهم في أوقات المحنة مثيران للإعجاب.
كما أن ثبات المقاومة وصمود عناصرها أمام خلف خطوط العدو وتكبيده خسائر فادحة في المواجهات المباشرة يحيلنا إلى عنصر الروح القتالية وتأثيرها في هذه المعركة التي ترجح فيها كفة ميزان القوى لفائدة الجيش الإسرائيلي.
قصف إسرائيلي على الأحياء المدنية في غزة (وكالة الأناضول) طريق هوليوديظهر المجند الإسرائيلي وهو يمسح خده الحليق في توتر، والصدمة ما زالت تحبس لسانه عن الحديث، فيشرد بنظره فيقول "حين سمعنا الصواريخ هربنا من الحفل الراقص إلى مواقف السيارات، لم أكن أفكر سوى في الهرب، جلست في مقعد السائق وطلبت من أصدقائي أن يوجهوني، سمعنا الصواريخ مرة أخرى، خرجت أنا وصديقتي من السيارة نركض في البرية، دوّى انفجار آخر، فرمينا أنفسنا على الأرض"، هذه شهادة المجند الإسرائيلي شاي وينستاين لقناة "آي بي سي نيوز" على اقتحام جنود القسام حفلة راقصة لجنود الاحتلال الإسرائيلي.
فعلى بعد كيلومترات في "غلاف غزة" عقد جنود الاحتلال حفلة غنائية في فترة لم يكن عليهم أن يرتدوا بدلاتهم العسكرية، فاستغلت وسائل الإعلام الغربي ذلك لتصور العملية على أنها هجوم على مدنيين.
تبدو صورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر صورة صُنِّعت بعناية في الإعلام الغربي، وتحصد "هوليود" ذروة هذه الصورة باستثمارها مجندات تعلمن مبادئ الفنون القتالية والتعامل مع الأسلحة، وصرن مؤهلات لنجومية أفلام الحركة، ولكن ما هي قوة "الروح القتالية" للجندي الإسرائيلي في مواجهته تحديات خطيرة بعيدا عن أجواء النجوم وأضواء الكاميرات؟
"يهيمن الإسرائيليون على مجال الدراسات النفسية الحربية"، يقول محمود أبو عادي الكاتب المتخصص في علمي النفس والاجتماع.
ويضيف أبو عادي "معظم الدراسات تتناول جيشهم بالدرجة الأولى، وهذا الاهتمام يعكس حاجة لدى إسرائيل، لأن العلوم الاجتماعية لا تتطور من فراغ".
وعن الحوافز المعنوية للجندي الإسرائيلي، يقول أبو عادي "إن الدراسات تشير إلى أن الجندي الإسرائيلي يعاني من مشكلة في التحفيز للقتال في لحظات الاشتباك، وهي الإرادة التي تحمله عادة على الاستمرار".
الغزيون يتقاسمون رغيف الخبز تحت القصف والحصار (وكالة الأناضول) انعدام حوافزويضيف "يقسِّم المختصون التحفيز إلى ثلاثة مستويات: حافز "ابتدائي" ينقل الشخص من مواطن عادي إلى مجند في الجيش، وحافز "مستدام" يحمله على الاستمرار في الجيش، وحافز "التحفيز للقتال" يؤثر على أدائه في أرض المعركة وفي لحظات الاشتباك، ويواجه الجيش الإسرائيلي إشكالية في التحفيز على مختلف مستوياته.
فعلى مستوى "الحافز الابتدائي" يواجه الجيش إشكالية التهرب من التجنيد العسكري، ففي يناير/كانون الثاني 2021 وقّع 60 إسرائيليا لم يبلغوا سن التجنيد بيانا أعلنوا فيه امتناعهم عن التجنيد في الجيش، وفي 13 أبريل/نيسان الماضي دعت منظمة العفو الدولية إسرائيل لإطلاق سراح يوفال داغ ذي العشرين ربيعا الذي اعتقل في سجن "نبي تسيدك" العسكري في تل أبيب، بسبب رفضه الالتحاق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية.
أما على مستوى حافز "الاستدامة" فإن نسبة التهرب من الخدمة آخذة بالازدياد بين الجنود، بحسب عدنان أبو عامر الأكاديمي والكاتب في الشأن الإسرائيلي الذي يقول في مقال بموقع الجزيرة نت "ارتفعت نسبة من لا يخدمون في الأعوام الـ40 الفائتة بشكل متسارع، وبينما بلغت عام 1980 قرابة 12% ارتفعت إلى 32% في 2020".
فلسطينية ترفع أكفها بالدعاء في أحد مخيمات اللجوء (الفرنسية) معضلة نفسيةوفي أواخر أيار/مايو الماضي أقامت لجنة الشؤون الخارجية والأمن تحت رئاسة عضو الكنيست يولي إدلشتاين اجتماعا لمعالجة زيادة عدد حالات الانتحار في الجيش الإسرائيلي، وذلك بحسب صحيفة معاريف الإسرائيلية.
وقد سُجلت خلال الأعوام الماضية حالات انتحار بمتوسط 40 حالة سنويا، وفقا لعميد "مديرية القوى العاملة" في جيش الاحتلال يورام كنافو، وفي عام 2022 أفادت آخر البيانات بأن 14 جنديا أنهوا حياتهم.
وتعكس توصيات الكنيست للجيش المعضلة النفسية التي يعانيها الجنود الإسرائيليون، ففي مطلع العام الجاري وجهت نائبة وزير المالية للشؤون الاجتماعية الإسرائيلية ميشال فالديغر رسالة إلى رئيس الأركان هرتسي هاليفي ووزير الدفاع يوآف غالانت تفيد بأن على الجيش أن يعطي أهمية قصوى للحصانة النفسية لجنوده.
كما طلبت عضوة الكنيست الممثلة لحزب الصهيونية الدينية من كبير مسؤولي الصحة النفسية في جيش الاحتلال الاجتماع من أجل بحث علاج الأزمات النفسية في الجيش، وطلبت من رئيس الأركان أن يجعل هذه القضية ذات أولوية عليا.
ولا تتوقف الإشكالات النفسية لدى الجنود المنتظمين في الخدمة فقط، وإنما تمتد لجنود الاحتياط، فنجد لها نمطا تصاعديا في كل مواجهة مسلحة، حيث وثقت وزارة الصحة الإسرائيلية في العام الذي أعقب عملية "سيف القدس" تسجيل 3569 زيارة واتصالا إلى مراكز الدعم النفسي، لطلب المساعدة في مدن سديروت وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة.
ويذكر التقرير السنوي لضحايا الصدمات في إسرائيل لعام 2022 -والذي قدم إلى الرئيس الإسرائيلي- أن هذا العام شهد زيادة كبيرة في عدد الاتصالات لتلقي الدعم لدى جمعية "ناتال"، وذلك على خلفية العمليتين العسكريتين اللتين وقعتا خلال تلك الفترة.
وتلقت خطوط الاتصال المخصصة للجمعية خلال عملية "الدرع والسهم" أكثر من 1300 مكالمة، ووفقا لبيانات الجمعية، كانت هناك زيادة بنسبة 340% في المكالمات تتزامن مع وقوع العمليات الفدائية التي تستهدف الداخل الإسرائيلي.
أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام لخص عقيدة المقاتل الفلسطيني في خمس كلمات (مواقع التواصل الاجتماعي)في المقابل، تتلخص عقيدة مقاتل المقاومة الفلسطينية في خمس كلمات يختم بها أبو عبيدة بياناته، وهي "وإنه جهاد، نصر أو استشهاد"، وهو ما يعني أن المقاتل الفلسطيني متشبع بحوافز معنوية متصلة بالدين والعقيدة، وتنقسم حوافزه إلى تحقيق هدف دنيوي بتحرير أرضه، أو الموت في سبيل هذا الهدف فينال الشهادة.
وبناء عليه فحين يقرر الجيش الإسرائيلي الاجتياح البري لقطاع غزة فسيكون جنوده وجها لوجه مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية، وخلال المعركة ستكون الروح القتالية أحد أهم عناصر الحسم في المواجهة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الجیش الإسرائیلی فی الجیش
إقرأ أيضاً:
ماذا نعرف عن المؤرخ الإسرائيلي الذي قُتل في معارك لبنان وماذا كان يفعل؟.. عاجل
عندما دخل المؤرخ وعالم الآثار الإسرائيلي زئيف إيرلتش إلى جنوبي لبنان لفحص واحدة من القلاع التاريخية القريبة من مدينة صور، لم يكن يعرف أن نيران حزب الله ستكون بانتظاره هناك لترديه قتيلا.
وكان إيرلتش (71 عاما) موجودا في منطقة عمليات تبعد عن الحدود بنحو 6 كيلومترات، لمسح قلعة قديمة بالقرب من قرية "شمع" عندما باغتته صواريخ حزب الله.
ورغم أنه كان يرتدي زيا عسكريا ويحمل سلاحا شخصيا، فإن بيانا صادرا عن الجيش الإسرائيلي اعتبره "مدنيا"، وقال إن وجوده في تلك المنطقة يمثل انتهاكا للأوامر العملياتية.
وكان المؤرخ، الذي تقول الصحف الإسرائيلية إنه منشعل بالبحث عن "تاريخ إسرائيل الكبرى"، يرتدي معدات واقية، وكان يتحرك إلى جانب رئيس أركان لواء غولاني العقيد يوآف ياروم.
وبينما كان الرجلان يجريان مسحا لقلعة تقع على سلسلة من التلال المرتفعة حيث قتل جندي إسرائيلي في وقت سابق، أطلق عنصران من حزب الله عليهما صواريخ من مسافة قريبة، فقتلا إيرلتش وأصابا ياروم بجروح خطيرة.
ووصف جيش الاحتلال الحادث بالخطير، وقال إنه فتح تحقيقا بشأن الطريقة التي وصل بها إيرلتش إلى هذه المنطقة. لكن صحيفة يديعوت أحرونوت أكدت أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يرافق فيها إيرلتش العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان.
ونقلت الصحيفة الإسرائيلية عن يجال -شقيق القتيل- أن إيرلتش كان يعامل بوصفه جنديا في الميدان، وأنه كان يرافق القوات الإسرائيلية بغرض البحث الأثري بموافقة الجيش وبرفقته.
واتهم يجال المتحدث باسم جيش الاحتلال بمحاولة حماية كبار الضباط وإلقاء مسؤولية ما جرى على القيادات الوسطى. وقد أكد الجيش أنه سيعامل القتيل بوصفه جنديا وسيقوم بدفنه.
وقُتل إيرلتش بسبب انهيار المبنى الذي كان يقف فيه عندما تم قصفه بالصواريخ. وتقول صحف إسرائيلية إن العملية وقعت فيما يعرف بـ"قبر النبي شمعون".
ووفقا للصحفية نجوان سمري، فإن إيرلتش كان مستوطنا، ولطالما رافق الجيش في عمليات بالضفة الغربية بحثا عن "تاريخ إسرائيل"، وقد قُتل الجندي الذي كان مكلفا بحراسته في العملية.
وأشارت يديعوت أحرونوت إلى أن القتيل كان معروفا في إسرائيل بوصفه باحثا في التاريخ والجغرافيا، وقالت إنه حرّر سلسلة كتب "السامرة وبنيامين" و"دراسات يهودا والسامرة". وهو أيضا أحد مؤسسي مستوطنة "عوفرا" بالضفة الغربية.
وتشير المعلومات المتوفرة عن إيرلتش إلى أنه درس في مؤسسات صهيونية دينية، منها "مدرسة الحائط الغربي" بالقدس المحتلة، وحصل على بكالوريوس من الجامعة العبرية فيها، وأخرى في "التلمود وتاريخ شعب إسرائيل" من الولايات المتحدة.
كما خدم القتيل ضابط مشاة ومخابرات خلال الانتفاضة الأولى، وكان رائد احتياط بالجيش.