اتفسحنا.. (ما لقيته من سخف من البرجوازية الصغيرة القنوطة خلال ترشحي لرئاسة الجمهورية في 2010)
تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT
عبد الله علي إبراهيم
ظل جماعة من الناس تلقي عليّ أسئلة ثقيلة عن جاهزيتي للترشيح لرئاسة الجمهورية. فأنا بلا مال ولا حزب ولا إثنية خرجت تنصرني في المشاهد من نصرة “القبيلة” لأبنائها. ولم استنكر هذه الأسئلة لأنها في لب الانتخابات كوجه من وجوه التدافع بين الناس تخضع نتائجها أيضاً لفروق المال والجاه. ولم أخرج للانتخابات جاهلاً بهذه الاعتبارات.
أنا من قوم بسطاء. لا أذكر أن هناك من أهلي من ترشح لانتخابات كبرى أو صغرى. وإذا فعل فلربما لم يفز. ولا أعرف من جرؤ على الترشيح من عترة أبي سوى عمنا المرحوم على محمد خير دلال مدينة الأبيض المشهور على أيامه. وهو رجل طرفة. واستعيد هنا طرفة ترشيحه لمجلس بلدي الأبيض في انتخابات 1963 التي ارتبطت بتكوين المجلس المركزي لنظام الفريق عبود. وهو مجلس أرادت به حكومته إلهاء الناس عن مطلبهم بالعودة إلى الحياة البرلمانية. فقيل أنهم سألوا عمي علي عن برنامجه الانتخابي. فقال: “والله بس نثبت كشكنا ده”. وكان للعم كشك بالمدينة. وأزعجته السلطات بتحريكه من موضع إلى آخر. فعلت ذلك مرات. وساء ذلك الفعل العم. وانتهز سانحة الانتخابات ل “يتجيه” بها، ويكون في السلطة حيث تطبخ قرارات تنقلات الأكشاك ليثبت كشكه إلى حين. وودت لو كان لي مثل كشكه من لحم ودم أثبته متى صرت رئيساً. ولكن الأكشاك مذاهب. وكشكي أنا هو تمكين الكادحين من الدولة. وليس منا إلا من أزعج هذا الكشك عن موضعه خلال الاستقلال. فحتى أولئك الذين خرجوا لنصرة هذا الكشك اضطربوا وفشلوا. وبلغوا من الضعف والهزال حداً سلمنا به بأن السياسة هي لأهل الجاه والعصبية، أو حملة الدكتوراة (وبالذات كوزراء).
ما ساءني هو تبرع بعضهم بحقيقة خلوي من المال والجاه لتثبيطي. فهم يروني قد علوت على الحاجب وخرجت لأمر هو حكر للملأ السوداني. وكنت في نظرهم العنز الغريبة النطَّاحة. قال أحدهم (وساء ما قال) أنني ربما غرتني دراهم جمعتها بالولايات المتحدة سرعان ما ستتبخر في حملتي الانتخابية الكاذبة. وأردف متنطع أخر (وساء ما قال) بأنني سأفلس وأعود حانفاً وجهي لهم. ويقصد إلى حيث هم في الولايات المتحدة. يا ولد يا أمريكاني يا تفتيحة! وصدق السوداني الذي قال لجماعة من زملائه رآهم يتحلقون كالبنيان يشد بعضه بعضاً ليغيروا إطار سيارة زميل لهم. قال السوداني الحويط: “هوي خربتو السودان ما تخربو أمريكا”.
يزعم هؤلاء المثبطون أنني سأخسر الانتخابات فلم المحاولة أصلاً. يعني جردوني حتى من أجر المحاولة. ولكن هناك من لم يبخل على بأجر “المناولة”. فقال مفتر منهم أنني ترشحت لأسحب أصوات المعارضين فيخلو الجو للمشير عمر البشير. وتعودت بالطبع على هذا الخيال المهيض من أعداء الإنقاذ الأشاوس. يا للبوار. ونعود لأجر المحاولة المحرم عليّ. فالانتخابات أصلاً محاولة يفوز باللذات منها واحد ويرجع بالقماح منافسوه. ونقول لهم أحسنتم المحاولة.
عن أجر المحاولة أحكي قصة أخرى عن عمي علي محمد خير. فلربما لم أكن من أهل الجاه ولكن من أهل الحكاوي. ولعلي من نسل ذلك الرجل الذي جاءته ليلة القدر فطلب منها أن يكون “الغناء” فيه وفي ذريته حتى قيام الساعة. وكان يقصد “الغنى” فأخطأ. وصار الغناء كاراً في ذريته. وكان الغناء قديماً لزيماً للفقر. مش زي هسع يعني. طرفة عمي علي عن كسب المحاولة تقول أنه جاء من الأبيض بكمية من الصحف القديمة ليبحث لها عن سعر أفضل في الخرطوم. عرضها على صاحب كشك بمدينة بحري قريباً من نزله فقيمها بعشرين قرشاً. ويفتح الله يستر الله. رفض عم علي السعر. وأخذ ابنه معه ليعرض بضاعته في أم درمان. وقَبِل أن يبيعها لصاحب دكان بثلاثين قرشاً. وفي طريق العودة من أم درمان إلى بحري استنكر الابن هذه الرحلة الهباء فقال:
-يابا هسع جية أم درمان دي لزومه شنو؟ بعنا بتلاتين وركبنا مواصلات بعشرة قروش. طيب ما كنا نبيعها في بحري بعشرين ولا أم درمان ولا يحزنون.
وقال عم علي بهدوئه المعهود:
-يا ولدي اتفسحنا.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عبد الله علي إبراهيم أم درمان
إقرأ أيضاً:
وقفات مع شهر رمضان المحرم
(اللهم سلِّمنا لرمضان وسلِّم رمضان لنا وتسلَّمه منا متقبلا) وهلَّ علينا شهر الخير والبركات والمشاعر الجميلة، ليس منا من أحد، إلا وهذا الشهر الفضيل، يسكن فؤاده بذكرياته، وطاعاته، وطقوسه، التي ألفتها بيوت المسلمين في جميع أنحاء العالم، لكنني هنا سأتوقف عند البيوت السعودية، وكيف كانت تستقبل رمضان شوقاً، وتعيشه سروراً، وحين يرحل، تبكيه حباً، وتمنّي ألا يرحل!! رمضان هو الشهر التاسع في السنة الهجرية، وهو من الأشهر المعظَّمة الحُرم، قال عنه الله عزَّ وجلَّ: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون). شهر عظَّمه الله، وأنزل فيه القرآن على خير الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وخصَّه الله بليلة مباركة خير من ألف شهر، هي ليلة القدر، ما قامها عبد مسلم إيماناً واحتساباً، إلا واستجاب الله دعاءه، وأعطاه ما يتمنَّى لدينه ودنياه، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحلت بركتها عليه، وقيل سميت بليلة القدر، لأن الآجال والأرزاق تُقدر فيها، وقيل أيضاً أنها سميت بذلك، لأن الملائكة تتنزّل فيها بالرحمة والمغفرة والبركة، هي ليلة ضمن عشر ليال، وفي الوتر منها، فهل يخسر أحد تحرِّيها، والاجتهاد في عشر ليال لنيلها، قال أحدهم: (لو كانت ليلة القدر بالسنة ليلة واحدة، لقمت السنة كاملة حتى أدركها )، لكنها من كرم الله وفسحته لنا، أنها في عشر ليال فقط ، علماً بأن رمضان شهر ذو نسمات لطيفة، وساعات خفيفة، وليالٍ مشرقة أنيسة، يخسر كثيراً من تهاون فيه، وجعل أيامه ولياليه تمرّ دون عناية واهتمام، ودون أن يبذل قصارى جهده في العبادة بلا كلل أو ملل.
اللهم وفقنا وأبنائنا وبناتنا والمسلمين أجمعين لحسن قيامه وصيامه، قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن رمضان: ( قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم).
ومنذ عرفت نفسي، ورمضان شهر تميزه البيوت السعودية بلمّاتها العائلية، فإن لم يكونوا يجتمعون في سائر الأيام إلا رمضان تلتقي فيه العائلة على مائدة الإفطار، ويتبادل الجيران أنواع الطعام، وتتزَّين الحارات بالإضاءات، وبسفرة الإفطار في الطرقات لأهلها وللمارين وعابري السبيل، ويشارك الصغار في توزيع بعض المشروبات والأطعمة الرمضانية، وتضجّ المساجد بالمصلين، ومن أجمل الصور في تلك الأيام (المسحراتي)، والذي كان بصوت مميّز، وقرع على الطبل لازال في مسامعي، وهو ينادي للسحور، لأنه في تلك الأيام كان أقصى وقت للسهر لا يتعدى العاشرة مساءً، وكان الناس بحاجة لمن يوقظهم للسحور قبل موعد الفجر. ولم تكن تخلو البيوت من أمهات أو عمات أو سيدات البيت مسؤولات عن تجهيز السحور، والقيام بمهمة إيقاظ أفراد الأسرة كباراً وصغاراً، أتذكر في بيتنا كانت الجلسة على سفرة السحور من أمتع الجلسات مع الوالد والوالدة رحمهما الله وإخوتي وأخواتي حفظ الله الأحياء ورحم من مات، أتذكر صوت أمي وهي تنادي للسحور، أتذكر كيف كنا في رمضان نداوم حين كنا ندرس وحين لحقنا العمل لم يكن العمل أو الدراسة في رمضان صعبة عند الناس كما هي اليوم، ذلك لأن برنامج الناس كل الناس مع السهر، يكاد يكون معدوماً، إلا في مناسبات موسمية، كما المغريات التي تستنزف الأوقات معدومة، في رمضان كان الناس يتبادلون التهاني بحيوية، وكانت أجهزة الهاتف الأرضي، لاتقف بسماع صوت الأهل والأحباب والجيران، تهاني كلها حياة. اليوم للأسف معظم الناس لا وقت لديهم لاتصالات، أو رسائل بعبارات يكتبونها، أو صوتيات يسجلونها، لجأوا للملصقات وللنسخ واللصق، أجد ذلك لا يجدي مع المقربين لأنهم يستحقون أكثر فهي مناسبات محدودة .
مّا يثلج الصدر -ولله الحمد-، أن الناس بدأت تتغير نظرتهم للتعامل مع الشهر الكريم، فصار الغالبية يستغلونه للعبادة، ويبذلون جهداً لنيل بركته، والحرص على قيمته الدينية الكبيرة، وينهون كل احتياجاتهم قبل رمضان، ليتفرغوا للعبادة، لكن ومع هذا، لا زلنا بحاجة لوعي أكثر، يقضي على التزاحم الشديد، واللا معقول، في الأسواق ليلة رمضان، من أجل (مقاضي رمضان)، وكأن البيوت تخلو من كل شيء، وكأن الأسواق ستغلق أبوابها! مع أن رمضان شهر عبادات، وليس للموائد والولائم.
تقبلوا تهنئتي لكم أن يجعله رمضاناً متقبلاً مباركاً سعيداً على السعودية وقيادتها وأهلها، وعلى جميع المسلمين. ودمتم. (اللهم زد بلادي عزاً ومجداً وزدني بها عشقاً وفخراً).