في كتاب جديد.. فيصل الحفيان يفكك ما وراء الخطاب النظري
تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT
في الكتاب الذي صدر مؤخراً عن مركز أبوظبي للغة العربية، التابع لدائرة الثقافة والسياحة بعنوان "فقه التحقيق من الصنعة إلى العلم" لمؤلفه فيصل الحفيان، أفكار عدة ينظمها خيط واحد، هو خيط واسطة عِقد المقاربات المنهجيّة للنصوص التراثية، أي التحقيق العلمي، بلغة أدبياتنا العربية، ونقد النصوص، أو النشر النقدي للنصوص، بلغة الأدبيات الغربية.
سعى المؤلف في كتابه هذا كما جاء في مقدمته إلى أن يتكلم في المسكوت عنه، وهو كثير، ولذلك انتخب خمساً من قضايا التحقيق الرئيسة والمركزية هي: التحقيق (المصطلح المركزي)، والعلم، والتوثيق، والتعليق، والدرس.. محاولاً فهم تجاذبات المصطلح المركزي (التحقيق) مع الألفاظ والتراكيب اللغوية والتصورات المنتمية إلى أوعية وحقول معرفية أخرى.. وهي تجاذبات ليست داخل الثقافة العربية فحسب، وإنما داخل الثقافات الأخرى ذاتها، وبينها جميعاً جدل وتوتر، يستدعي نظراً.
وإلى ذلك كله فثمّة تباين الرؤى حول عمر المخطوط، وحدوده الزمانية والمكانية، بعد أن غدا كائناً تاريخياً خالصاً، لا يُعاد إنتاجه.
إن المخطوط اليوم هو التجسيد المتكامل للتاريخ وحركته، وكينونته مركبة، وترتبط به عوامل معرفية، في قلبها (النص) الذي يُعنى علم التحقيق بمقاربته وحل إشكالاته التاريخية واللغوية والمعرفية.. كان هذا هو التمهيد الذي جعله المؤلف موضوع الفصل الأول.
سؤال جوهريفي الفصل الثاني كان الهاجس -والكلام للمؤلف- أن نفقه ما وراء خطاب الكتب النظرية (المعيارية) التي تتحدث عن المصطلح (التحقيق) فتكتفي باقتصاص بعض معانيه اللغوية من دون أن تنزلها على المفهوم الاصطلاحي أو التصور بما يكشف أبعاده، وتخلط غالباً بينه وبين مصطلحات فرعية، مثل: التوثيق والتصحيح والضبط.. وفي الفصل الثالث أثار المؤلف سؤالاً جوهرياً من وجهة نظره: هل التحقيق آلية فحسب؛ أم أنه علم؟ والبون شاسع، وله مآلاته العظيمة في طرائق تكوين المحقق، ومن ثم في عدته وفي منهجه. ثم انداح سؤال جوهري آخر من المؤلف ليستتبع غير سؤال: إذا كان عِلماً، فإلى أي حقلٍ معرفي ينتمي؟ وهل لا يزال تحت العباءة التاريخية لعلم الحديث؟ أم هو علم لغوي (فيلولوجي) كما هو الحال عند الغربيين، أم أنه علم مستقل برأسه؟ كانت تلك أسئلة الفصل الثالث التي تلبث المؤلف عندها طويلاً.
ثم مضى في الفصل الرابع لتناول التوثيق، ورآه خطاً غير مرسوم (نظرياً) على الرغم من خطره على خريطة عمل المحقق، حتى إننا لا نجده عنواناً. كما هو الحال مع التعليق مثلاً. وإن وجد، فهو بلا حدود تفصل بينه وبين المصطلح المركزي (التحقيق). لذلك كان التركيز على مفهومه، وذلك بتفتيت النواة الدلالية للفظ، وتنزيلِها على العمل في النصوص.. وعمد المؤلف إلى فض اشتباكه مع المصطلحات الأخرى: التحقيق، والتخريج، والتعليق، والنقد.
فلسفة التعليقأما التعليق فكان محور (الفصل الخامس)، فحاول الإجابة عن الأسئلة الهامة الآتية: لماذا نعلّق؟ ومتى نعلق؟ وكيف نعلق؟ وكم هو حجم التعليق؟.. ورأى أن السؤال الأول (لماذا) يُحيل على فلسفة التعليق وبناء الوعي به. والثاني (متى) على ترشيده حتى لا يغدو المحقق حاطب ليل. والثالث (كيف) على لغته وصياغته. والرابع (كم) على حدوده ومسائل البسط والإيجاز، وما بينهما.
وعدها أسئلة "تسعى للسمو بالتعليق ليكون نصاً موازياً، يعكس قراءة للنص تُجاوز إخراجه ونشره لتشيد نصاً جديداً".
في الفصل السادس من الكتاب، حيث فقه الدرس، تختلف الأسئلة، ذلك أن الدرس يفارق أعمال المحقق الأخرى في كونه عملاً تركيبياً.. أي أنه تناول الدرس مصطلحاً -على تردد واختلاف فيه- وفكرة، وموضوعاً، ورأى أن الدرس غير حاضر بالمستوى المرضي لدى سواد المحققين، ولذلك أسبابه التي تتكشف في موطنها تحديداً، وعلى امتداد فصول الكتاب جميعاً.
المحتوى المعرفيوعن النص أو المحتوى المعرفي، الذي يرى المؤلف أنه المعرفة الأساس التي يحملها الوعاء، وتقوم عليه عمليات أربع، هي: الفهرسة، والتحقيق، والدرس، والنشر. الثلاث الأولى علمية: الفهرسة تعريف بالنص. والتحقيق درس مخصوص (أو نوع درس) توثيقي تاريخي، ناهض على النص، ويتغيّاه في الآن نفسه للوصول به إلى العملية الرابعة (النشر). كما أن المخطوط العربي اليوم قد غدا حقلاً معرفياً واسعاً، وجاوز النظر إليه النص الذي يحمله، ولذلك فإن الحديث اليوم عن (علوم المخطوط) لا عن علم واحد. تتعالق هذه العلوم مع مكوِّنات المخطوط، وهي مكونات تعطيه أربع قيم:
- قيمة أثرية، بوصفه جسماً أو وعاء أو كياناً مادياً.
- قيمة معرفية، بوصفه نصاً يحمل علماً أو معرفة أو فكراً.
- قيمة وثائقية تاريخية أو حضارية، بوصفه حاملاً لنصوص منوعة (لغوية وغير لغوية) ذات طابع علمي حيناً، وتعليمي حيناً، واجتماعي تاريخي أو حضاري حيناً.
قيمة فنية (جمالية) تعكس الصورة أو الصور التي تتجلى فيها القيم الثلاث السابقة.
استقامة اللفظأما أخطر فصول الكتاب في نظر المؤلف فيصل الحفيان، فهو الفصل الخاص بـ (فقه العلم) الذي بنى فيه موضوع التحقيق على أركان خمسة: نصيته، ولغويته، وعلميته؛ وتاريخيته، وكتابته. وبذلك استبانت حدوده، وارتفعت أسواره، فخرجت النصوص غير اللغوية، وغير العلمية، (الوثائق) وغير التاريخية (الحديثة والمعاصرة) وغير المكتوبة (المعرفة الشفاهية). والمؤلف مضى يقول أن المقصود هو مباني الألفاظ وصورها المرئية، وليس معانيها، فالتحقيق بحث عن اللفظ وفي اللفظ، لاستعادة صورته التاريخية الأولى، أما المعاني فتأتي بعد مرتبة على استقامة اللفظ.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: غزة وإسرائيل التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة اللغة العربية مجمع اللغة العربية فی الفصل
إقرأ أيضاً:
جدلية الخطاب الأبوي بين المسؤولية والاعتذار
أحمد بن محمد العامري
الأسرة هي الخلية الأولى التي يتكون فيها الإنسان وفيها تنشأ أولى علاقاته الاجتماعية والنفسية، فالعلاقة بين الزوجين تشكل العمود الفقرى لهذه المؤسسة حيث يتشاركان مسؤولية التربية والرعاية بما يضمن لأفراد الأسرة بيئة صحية ومستقرة. ومع ذلك، يظهر في هذه العلاقة أحياناً خطاب يعكس اختلافات في التصورات بين الزوجين حول دور كل منهما في حياة الأبناء، ومن أكثر العبارات لفتاً للانتباه هو خطاب الزوجة الذي يتبدل بين "أولادك" عند الحديث عن المشكلات أو الأعباء، و"أولادي" عند الحديث عن الإنجازات أو اللحظات المشرقة أو العكس، هذا التباين الظاهري في اللغة يعبر عن أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية عميقة تستحق التأمل.
عندما تلجأ الزوجة إلى استخدام عبارة "أولادك" أثناء مواجهة المشكلات أو تحمل أعباء المصاريف فإنها تعبر عن محاولة نفسية لتخفيف الضغط الواقع عليها، علم النفس يفسر ذلك على أنه آلية دفاعية تُعرف بالإسقاط، حيث يُلقى جزء من المسؤولية على الطرف الآخر لتخفيف الشعور بالعبء أو الفشل، هذا الخطاب قد يعكس كذلك شعوراً بعدم التوازن في تقسيم المهام داخل الأسرة، حيث تحمل الأم العبء الأكبر من العناية اليومية بالأبناء وتنتظر من الأب أن يشارك بشكل أكبر عند ظهور التحديات.
على الجانب الآخر، عندما تقول الزوجة "أولادي" في لحظات الفخر أو الاعتزاز بإنجازات الأبناء فإنها تعبر عن ارتباط عاطفي عميق معهم وشعور بأنها المساهم الأكبر في تربيتهم ونجاحهم، هذه اللغة تتماشى مع ما يُعرف في علم النفس بنظرية الإنجاز الذاتي، التي تبرز كيف يرى الفرد إنجازات الآخرين، خاصة المقربين منه، كامتداد لجهوده الشخصية وهويته، هذا الفخر ينبع أيضاً من القرب اليومي والعاطفي الذي يربط الأم بالأبناء، وهو نتاج الدور التقليدي الذي يجعلها الأقرب إلى تفاصيل حياتهم.
على المستوى الاجتماعي، يعكس هذا الخطاب توزيع الأدوار داخل الأسرة كما تحدده الثقافة، كثير من المجتمعات تُعتبر الأم الحاضن العاطفي الأول للأبناء والمسؤولة عن تفاصيل حياتهم اليومية، بينما يُنظر إلى الأب كمصدر للسلطة والمسؤول عن توفير الموارد وحل الأزمات. لذلك، عندما تواجه الأم تحديات مع الأبناء، ترى في الأب شريكاً يتحمل المسؤولية عن الأزمات التي لا تستطيع السيطرة عليها بمفردها، مما يجعل عبارة "أولادك" أداة ضمنية لدعوته إلى التدخل. في المقابل، يُبرز استخدام "أولادي" في اللحظات الإيجابية شعوراً بأن الأم هي الأقدر على فهم الأبناء ورؤية جهودها في نجاحاتهم.
لكن الأثر الحقيقي لهذا الخطاب لا يتوقف عند الزوجين، بل يمتد ليطال الأبناء أنفسهم. اللغة التي يُخاطب بها الأبناء تؤثر بشكل كبير على تكوين شخصيتهم وشعورهم بالانتماء داخل الأسرة، فعندما يسمع الأبناء عبارة "أولادك" في سياقات سلبية قد يشعرون بأنهم عبء أو مصدر للمشكلات، مما يضعف ثقتهم بأنفسهم أو يعزز شعورهم بالانفصال عن أحد الوالدين. على النقيض، استخدام "أولادي" في سياقات إيجابية يعزز شعور الأبناء بالفخر والانتماء لكنه قد يُشعرهم أحياناً بأن العلاقة بينهم وبين الأب أقل قوة إذا لم يُظهر الأب نفس التقدير.
إن الخطاب الأبوي المتوازن يلعب دوراً محورياً في تعزيز استقرار الأسرة وبناء الثقة بين أفرادها، واستخدام لغة تشاركية مثل "أولادنا" يعكس إحساساً مشتركاً بالمسؤولية ويُظهر للأبناء أنهم ثمرة شراكة بين الوالدين، كما أن إظهار التقدير المتبادل بين الزوجين لجهود كل منهما في التربية يعزز روح التعاون ويُزيل أي شعور بالتنافس أو تحميل المسؤولية. من المهم أيضاً أن يتم التعامل مع المشكلات المتعلقة بالأبناء كقضايا مشتركة بعيداً عن إلقاء اللوم، ما يُظهر نموذجاً إيجابياً للأبناء حول كيفية حل المشكلات بطريقة بناءة.
الثقافة المجتمعية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذا الخطاب، حيث تحدد معايير الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة. في المجتمعات التي تتبنى نماذج تشاركية حديثة، يظهر خطاب أكثر توازناً بين الزوجين، بينما في الثقافات التقليدية قد يميل الخطاب إلى تقسيم الأدوار بشكل يبرز الفروقات بين الأب والأم، ولكن مع تطور المفاهيم الأسرية وتزايد الدعوات للمساواة في الأدوار، يمكن تعزيز خطاب أكثر تشاركية يعكس تغيرات إيجابية في بنية الأسرة.
في النهاية، حديث الزوجة مع الزوج حول الأبناء بين "أولادك" و"أولادي" ليس مجرد تفصيل يومي عابر، بل هو مرآة تعكس التفاعلات النفسية والاجتماعية داخل الأسرة، ومن خلال العمل على تطوير هذا الخطاب ليكون أكثر شمولية وتوازناً، يمكن تعزيز الروابط الأسرية وضمان بيئة إيجابية لنمو الأبناء.
الأبناء ليسوا مجرد مسؤولية فردية، بل هم ثمرة شراكة تحمل في طياتها تحديات وإنجازات مشتركة، والنجاح الحقيقي في التربية يتحقق عندما يشعر كل فرد في الأسرة، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً، بأنه جزء من كيان واحد يُبنى على الحب والدعم والمسؤولية المشتركة.
ahmedalameri@live.com