‏حين تضع سبابتك على خارطة الجنوب اليمني لتعقد مقارنة بين نظاميْن جمهورييْن أعلنا استقلالهما عن نظاميْن بائديْن أحدهما إمامي عنصري والثاني استعمار غربي، كان الجنوب يضج كل خمس سنوات بحفلات إعدام ومكائد تصفيات مرعبة بين رفاق الاستقلال والنضال، في الشمال نجا المشير عبدالله السلال، وخليفته عبدالرحمن الإرياني من القتل، أعلنا أنهما سيغادران اليمن بهدوء.

في الجنوب قدّم قحطان الشعبي استقالته من رئاسة الجمهورية في 22 يونيو 1969 إلى الجبهة القومية، احتجزه أصدقاؤه في منزله، ونُقل بعد أشهر مع رئيس وزرائه فيصل عبداللطيف الشعبي إلى سجن الفتح الشهير. في زنزانة باردة، اخترق الضوء كوة صغيرة في الأعلى، وقف ضفدع صغير في منتصف الدائرة المضاءة على أرضية الزنزانة، بدا الضفدع كنجم غنائي سُلِط عليه ضوء مُوجّه من مصباح ضخم.

تذكر فيصل عبداللطيف الشعبي مسرح عابدين في القاهرة قبل عشر سنوات، تذكر ضحكته الصافية من حوارات ونكات إسماعيل ياسين في مسرحية "يالدفع يالحبس"، وليالي خان الخليلي، شارع التحرير، فندق قصر الجزيرة في الزمالك، ربطة عنقه التي ابتاعها من فتاة مسيحية ظلت مشدودة إلى شاربه المنمق الرفيع، وابتسامة الجبل التي تحرك عضلات خدّيه، بائع السجائر في كشك ميدان طلعت حرب. تذكر فيلمًا وثائقيًا عن كوبا في سينما القاهرة، أبصر بعينيْن رماديتيْن مشاهد اعدام وحشية لثوار ومدنيين عُزل في هافانا. تذكر ليلة هروبه من مصر متخفيًا عن أعين رجال مخابرات صلاح نصر الذين احتجزوه تسعة أشهر، وصل بيروت ومنها إلى تعز، ثم إلى الجنوب اليمني.

أصدر باب زنزانته الحديدي صريرًا مزعجًا، فرَّ الضفدع من دائرة الضوء، دخل جنديان، أغلق الجندي الثاني باب الزنزانة، أمره الجندي الأول بالوقوف، كان يجلس القرفصاء، يداه تطوقان ركبتيْه المضمومتيْن إلى صدره، الشتاء يلفظ أنفاسه الأخيرة. نهض رئيس وزراء اليمن الجنوبي المُعتقل في زنزانة انفرادية بسجن الفتح، وفي تمام الساعة العاشرة إلا ربع صباحًا سُمع صوت أربع طلقاتٍ نارية، في داخل الزنزانة نزف جسد فيصل عبداللطيف الشعبى من أربعة ثقوب، ثقب في ترقوته، ثقب في الجانب الأيسر من الجمجمة، ثقب في ذراعه الأيمن، وثقب أسفل ذقنه، لم يتحرك شيء في العشرين ثانية الأولى، الضفدع في أقصى الزاوية اليسرى يراقب جريان سائل أحمر باتجاهه. استدار الجنديان سريعًا. أوصدا باب الزنزانة وراءهما بإحكام. لم يكن ثمة شهود سوى الضفدع.

قدر الرئيس الأول لليمن الجنوبي هو الآخر وصله مبتورًا، اقتيد قحطان الشعبي مُكبَّلًا إلى كوخ شعبيٍّ على طريق ساحل عدن - أبين. لم يرَ وجه ابنه نجيب مرة أخرى، من زاوية منفرجة بين أعواد الكوخ فتح قحطان عينه اليمنى عن آخرها، رأى البحر العربي لآخر مرة في حياته، شاهد غرابًا يمشي قلقًا على الساحل، تذكر قصة قابيل وهابيل، نُتف ممزقة لجريدة ملقية على أرضية الكوخ، نصف وجهه في خبر عن مفاوضات الانسحاب الإنجليزي من عدن، عنوان آخر غير مكتمل عن عبدالرحمن الإرياني في مفاوضات حرض. تذكر احتجازه في مصر، واعتذار جمال عبدالناصر بعد ذلك بسنوات، تذكر كلمات لورد شاكلتون خلال توقيعه اتفاقية الاستقلال "أنتم أعداء أنفسكم يا صديقي!".

صباح يوم 7 يوليو 1981، شاهد أبناء عدن صورة قحطان الشعبي على غلاف صحيفة 14 اكتوبر في الزاوية اليُمنى من صفحتها الأولى. جاء العنوان كالتالي: وفاة قحطان الشعبي بعد صراع طويل مع المرض!.

* نقلًا عن رواية ‎#الخوثي
‎#اكتوبر_فجر_الحريه

المصدر: المشهد اليمني

إقرأ أيضاً:

“المساحة الجيولوجية” تطلق غدًا حزمة بيانات جيولوجية جديدة

تطلق هيئة المساحة الجيولوجية السعودية غدًا، حزمة جديدة من البيانات الجيولوجية المتخصصة، في إطار جهودها المستمرة لتعزيز دور قطاع التعدين كرافد اقتصادي إستراتيجي يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030.
وسيتضمن الإطلاق نشر 37 خارطة جيوفيزيائية جوية مضافة إلى قاعدة المعلومات الجيولوجية الوطنية، ليصل إجمالي الخرائط المنشورة إلى 201 خارطة وستكون متاحة عبر منصة قاعدة المعلومات الجيولوجية الوطنية، ستمثل مفاتيح للثروات المعدنية، وخارطة طريق نحو استثمارات نوعية تسهم في بناء مستقبل اقتصادي متنوع. ‏

مقالات مشابهة

  • بن شرادة: تصريحات تيتيه غير دقيقة.. ودعم حكومة موحدة هو المطلب الشعبي
  • استطلاع يظهر تدني ثقة الإسرائيليين في نتنياهو.. خارطة الأحزاب
  • “المساحة الجيولوجية” تطلق غدًا حزمة بيانات جيولوجية جديدة
  • أخنوش يقف على تقدم تنزيل خارطة التشغيل ويؤكد أنها أولوية حكومية
  • "الحكي الشعبي.. رؤى وتجليات" في مناقشات الندوة العلمية بملتقى فنون البادية بالعريش|صور
  • هل تسبب أدوية الربو الشعبي الإدمان للأطفال؟.. الصحة تحسم الجدل
  • بغداد.. مقتل منتسب بالحشد الشعبي وإصابة 2 آخرين في مشاجرة بسبب زاجل
  • بيان من مياه الجنوب إلى المشتركين.. ماذا فيه؟
  • وزير الشؤون الاجتماعية يتفقد جرحى العدوان الأمريكي على سوق “فروة” الشعبي بأمانة العاصمة
  • بالصور.. عبداللطيف يتابع انتظام العملية التعليمية في عدد من مدارس محافظة الشرقية