مناشدة عن الأخبار والعلوم
تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT
د. قاسم بن محمد الصالحي
في صبيحة يوم السبت السابع من أكتوبر 2023، كنتُ كعادتي أتناول وجبة الإفطار مع أمي، وكان زيت الزيتون من بين ما اشتملت عليه مائدة الإفطار، كان الحديث بمثابة "مناشدة" بيني وأمي، إضافة إلى ترديدي "آمين" وراء دعوتها لي بالتوفيق والسداد، صاغيًا إلى "مناشدتها" لي عن "الأخبار والعلوم"، فأحالت الحديث إليّ، وكنت أتحدث معها بمقاس من شعور خفض جناح الذل والرحمة كما أمرني ربي "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء: 24).
وبعد الانتهاء من وجبة الإفطار، كانت كعادتها تصر على أن تقدم هي لي فنجان القهوة "تغنم"، إلا أنني طلبت منها أن لا تحرمني أجر تقديم القهوة لها؛ حيث إن هذا الفعل يدخل في باب بر الوالدين، ولا بد أن أقوم أنا بهذه الخدمة، وكانت أمي قد أمسكت دلة القهوة فعلاً، بعد دقائق قليلة من إقناعها، بدأت بالحديث معها عن زيت الزيتون وفوائده، وأن أجوده يأتي من فلسطين، توغلت في الشرح إلى حد أنني تجاوزت المناشدة عن الأخبار والعلوم، بمشاعر تتراوح ما بين الإحساس بالفخر بما شاهدته في شاشات التلفاز من عمل بطولي نفذته فصائل من مقاومة الشعب الفلسطيني، والعجز الذي ينتابني. في سياق هذا الشعور، أصبح حديثي مجرد سرد لخبر سمعته وشاهدته، تارة بلهجة واضحة، وتارة أخرى تتحول إلى تمتمات لا تفهمها أمي، وهي تتحسب الله سبحانه وتعالى وتدعو للفلسطينيين بالنصر. هذا ما دار بيني وأمي من أخبار في المناشدة لبعضنا البعض، وسرد الخبر كان وسيلة ما بيني وأمي كشفت تأثرنا بما جرى ويجري للفلسطينيين، ونجحت في خلق نوع من أنواع المشاركة الوجدانية مع أمي، تحققت معها موجة تواصلية مع أولئك الذين قرروا أن يحدثوا فرقًا في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، ويجعلوا المقاومة ذات قيمة واقعية لغايات وأغراض ظلت في حالة من التطوير المستمر، ليظهر سر هذا الخيار الذي يجعل الحياة ذات مغزى وجديرة بأن تعاش، ليبقى في نهاية المطاف أن الاستمرار في حلم التحرر والانعتاق من الاحتلال، هو استمرار في الحياة.
بعد ذلك، أتى دور سرد العلوم على أمي، وفق- فهمي- فعادة المناشدة المتوارثة، ولدت في زمن لم تكن فيه وسائل الاتصالات المعروفة في زماننا، ومن ثم فإنّ قدوم شخص من مكان ما كان ينبئ بأنّ لديه أخبار فرح أو ترح أو نحو ذلك أو أن ذاك القادم يملك علماً من العلوم الشرعية، الطبية، الفلك أو علم الأثر؛ فيسأل عن الأخبار والعلوم معًا، وحاولت في جلوسي مع أمي تقمص ذات العالم بالتاريخ بمهارة، القادر على تمرير المشهد التاريخي لفلسطين، التي أصبحت قضيتها سيدة المشهد، فتخطى المقاومون في قطاع غزة المشهد الأبرز في كتابة تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، وتخطوا نظراءهم من حركات التحرر الوطني إقبالا على المبادرة، فنقلوا النضال إلى ساحة العدو، وتصدر تاريخ القضية الفلسطينية الساحة الإقليمية والدولية، وأضحى العالم ينظر إلى الكيان الإسرائيلي كمشكلة وليس حلا، خاصة مع القدرات الفائقة التي أظهرها المقاومون الفلسطينيون لإبراز حقهم المشروع، وحطموا أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" ومنظومة الكيان الأمنية؛ فاجتازوا الجدار الذي توقع البعض أنهم لن يستطيعوا له نقبا، فقلتُ لأمي وأنا أتقمص ذات المبحر في التاريخ، إنه ومنذ الألف الثالثة قبل الميلاد، كانت تعرف بلاد الشام كليًا في تلك الفترة باسم "أمورو" أو الأرض الغربية. أما فلسطين؛ فقد عُرفت منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد بأرض كنعان (كما دلت عليه مسلة أدريمي والمصادر المسمارية ورسائل تل العمارنة). وغالبًا فإن أصل كلمة فلسطين هي (فلستيبا) التي وردت في السجلات الآشورية؛ إذ يذكر أحد الملوك الآشوريون سنة 800 قبل الميلاد أن قواته أخضعت (فلستو) وأجبرت أهلها على دفع الضرائب، وتتبلور صيغة التسمية عن هيرودوتس على أسس آرامية في ذكره لفلسطين "بالستين"، ويستدل أن هذه التسمية كان يقصد بها الأرض الساحلية في الجزء الجنوبي من سوريا الممتدة حتى سيناء جنوبًا وغور الأردن شرقًا، وأصبح اسم فلسطين في العهد الروماني ينطبق على كل الأرض المقدسة، وأصبح مصطلحًا اسميًا منذ عهد هدربان وكان يشار إليه دائمًا في تقارير الحجاج المسيحيين.
أما في العهد الإسلامي، فكانت فلسطين جزءًا من بلاد الشام، ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: إن فلسطين هي آخر كور الشام من ناحية مصر، قصبتها بيت المقدس، ومن أشهر مدنها عسقلان، والرملة، وغزة، وقيسارية، ونابلس، وبيت جبرين. وقد عُرفت فلسطين باسم "جند فلسطين" أثناء التقسيمات الإدارية للدولة الإسلامية، ومنذ تلك الفترة وفلسطين تحمل هذا الاسم، وأصبحت فلسطين قضية خلاف سياسي وتاريخي، ومشكلة إنسانية بدءًا من عام 1897م، (المؤتمر الصهيوني الأول) وحتى الوقت الحالي، وهي تعدّ جزءًا جوهريًا من الصراع العربي الإسرائيلي، وما نتج عنه من أزمات وحروب في منطقة الشرق الأوسط، وكان ثيودور هرتزل (1860- 1904) -زعيم الحركة الصهيونية الناشئة آنذاك- قد قام بزيارته الوحيدة إلى فلسطين عام 1898، في ذات الوقت التي زارها فيه قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني (1859- 1941)، بدأ هرتزل صياغة أفكاره حول بعض قضايا استيطان فلسطين، وكتب في مذكراته سنة 1895 "يجب أن نستولي بلطف على الممتلكات الخاصة في المناطق المخصصة لنا، يجب أن نشجع الشعب الفقير فيما وراء الحدود للحصول على عمل في بلاد اللجوء وعدم منحهم أي فرصة عمل في بلادنا، سيقف ملاك الأراضي في صفنا، يجب تنفيذ سياسات الاستيلاء على الأرض وتهجير الفقراء بتحفظ وحذر، ،بدأت هذه الأحداث بوعد بلفور سنة 1917م، الذي حدد مصير فلسطين، ثم حرب النكبة سنة 1948م، يليها قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967م، ثم الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م، ثم اتفاقية أوسلو للسلام 1993م، مرورا بزيارة أرييل شارون إلى القدس عام 2000م، وصولا إلى حصار إسرائيل لغزة وحروبها المتكررة على أهل القطاع في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
نحن وإياهم في زمن الإمبريالية الصاعدة
كل ما يجري على الصعيد العالمي إرهاصات قوية على نهاية الغرب كقوة هيمنت على العالم بقفازات ناعمة، وعلى عودة البشرية إلى التعامل بقانون القوة والسيطرة بأسلوب أكثر فجاجة، بعدما ضاقت الدول العظمى ذرعا بالنظام العالمي الذي ساد عقب الحرب العالمية الثانية، وأصبح حائلا دون حاجاتها الملحة للبقاء وعائقا أمام طموحاتها في النفوذ والتوسع؛ فليس من حق الضعفاء من الدول أن تعيش متدثرة بحماية القانون الدولي بعد اليوم. وإنها لفسحة للمقاومين والأحرار كيما يصنعوا مجدا لأمتهم.
الغرب قدم نفسه للعالم على أنه عالم متحضر، يحفظ السلام العالمي ويصون حقوق الإنسان، بيد أنه دمر نفسه والعالم من حوله ثلاث مرات خلال مئة عام، أي أنه ينتج ثقافة الحياة والفناء في آن واحد، ولا أراه يستطيع الفكاك من أزمته المستعصية تلك بما لديه من ثقافات، بل إنه ليعاني الأمرين من جرائها ولا يبحث بجد عن الخلاص منها.
تهمني الإشارة إلى الغرب والشرق المتفاني في الموت والخراب، أن يستذكر بتواضع قصة الوجود الإنساني على الأرض أول مرة، والغاية التي يمضي هذا الوجود إليها ويسير؟ وليبحث له عن بدائل ثقافية وروحية يحسن به وبغيره أن يحيا بها ويعيش، فإما المغالبة والتظالم وإما التعارف والتعاون؟
الجميع غارق في القاع، يحاول إيجاد توليفة بين متناقضات متنافرة لا تستقيم له، والسبب أن الإنسانية لا يمكنها العيش بأنماط الدولة القطرية الحديثة، التي نشأت بعد الثورة الصناعية، لأن البشرية خلقت لتحيا على الأرض متواصلة متراحمة، لا تقيدها حدود مصطنعة يوسوس بها التفكير الشعبوي. ومن يحاول فك المعضلة الألمانية والأمريكية سياسيا فهو واهم؛ إنه ثقب أسود يودي بحياة الدول والحضارات مهما بلغ شأنها في الرقي. ولكن يحتاج ذلك إلى أجل، ولكل أجل كتاب.إنه استكبار أعمى يعلو في الأرض، وأنانية مفرطة تتضخم، واحتقار مقيت للأمم الأخرى، وإنها لفقاعة كبيرة تتمدد حتى تصل إلى نهاية محتومة بعدها ستتفجر. "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص".
لا يمتلك الروسي "ألكسندر دوغين"، الذي يقدمه الإعلام للناس على أنه "فيلسوف"، البعد الروحي الذي يمتلكه المقاومون في فلسطين وغيرها، لذلك تأتي تحليلاته لقضايانا من منظور المادية التاريخية قاصرة مبتورة، تحليلات لا تستطيع فهم تاريخ المسلمين في صراعهم مع الغزاة والمحتلين، كما لا تستطيع استيعاب مفهوم الشهادة في سبيل الله كما نعتقد به نحن المسلمين. لقد سمعته يدعي أن "طوفان الأقصى" كان بلا أفق، لذلك تدمر المحور المقاوم وسقط نظام الأسد، الذي يبدو أنه يراه قيمة لروسيا ما كان له أن يخر فجأة. ثم هل كان هجوم روسيا على أوكرانيا بلا أفق أيضا؟ خاصة وأن روسيا غدت تعاني اليوم في اقتصادها كما تعاني من عزلة سياسية، وقد أضحت كما لم تكن من قبل في مواجهة استراتيجية محتومة مع الناتو، بعد انضمام دول اسكندنافية تجاورها إليه.
أرى أن الجميع غارق في القاع، يحاول إيجاد توليفة بين متناقضات متنافرة لا تستقيم له، والسبب أن الإنسانية لا يمكنها العيش بأنماط الدولة القطرية الحديثة، التي نشأت بعد الثورة الصناعية، لأن البشرية خلقت لتحيا على الأرض متواصلة متراحمة، لا تقيدها حدود مصطنعة يوسوس بها التفكير الشعبوي. ومن يحاول فك المعضلة الألمانية والأمريكية سياسيا فهو واهم؛ إنه ثقب أسود يودي بحياة الدول والحضارات مهما بلغ شأنها في الرقي. ولكن يحتاج ذلك إلى أجل، ولكل أجل كتاب.
إنه لا تزال في عالمنا الإسلامي أنظمة حاكمة على شاكلة البعث في سورية، تتشابه في ما تقترفه أيديها من موبقات وآثام، لا تزال آثارها رغم السنوات الطوال ماثلة للعيان، وشهودها أحياء يرزقون، كادت لطول العهد بحكمها البلدان المسلمة أن تمسخ الإنسان في إنسانيته، وتسلبه جوهر الكرامة التي استحق بها الفضل على من سواه، وإن كانت الأقدار قد أرخت للظلمة الحبال إلى حين، فالأيام القادمة حبلى بالمفاجآت، سيخرجها الله تعالى عبرة للمعتبرين وحجة قائمة على العالمين.
إن السعيد من اتعظ بغيره، وقلما تتعظ الأنظمة الفاسدة مما يحصل لبعضها حتى تقع الفأس على هامها، ولات حين مندم إذاك! إن الأنظمة المتسلطة على رقاب شعوبها لا تدرك حجم الظلم الذي تمارسه على شعوبها، حتى تتقلب بها الأيام، فتصبح بدورها خائفة تترقب. وما جرى في سورية خير مثال على ذلك. ولأن الله أعمى القتلة عن الحق فلا يزال داعموهم يمنونهم بالرجوع إلى سالف عهدكم، ولو كانوا يرونهم في الأرض يفسدون.
الولي الفقيه يقرأ الحوادث بالمقلوب، ولا يبصر غير لونين الممانعة أو المؤامرة، أما حق الشعوب المسلمة في الاستقلال والعيش بكرامة فلا مكان لذلك في القاموس لديه، إنه التشيع في أسوأ مظاهره عبر التاريخ!
إن السعيد من اتعظ بغيره، وقلما تتعظ الأنظمة الفاسدة مما يحصل لبعضها حتى تقع الفأس على هامها، ولات حين مندم إذاك! إن الأنظمة المتسلطة على رقاب شعوبها لا تدرك حجم الظلم الذي تمارسه على شعوبها، حتى تتقلب بها الأيام، فتصبح بدورها خائفة تترقب. وما جرى في سورية خير مثال على ذلك. ولأن الله أعمى القتلة عن الحق فلا يزال داعموهم يمنونهم بالرجوع إلى سالف عهدكم، ولو كانوا يرونهم في الأرض يفسدون.إشارات تترى من كل جانب توحي بأن رأس النظام الجزائري بات اليوم مطلوبا، كيما تصبح البلاد مستباحة للاستعمار الحديث؛ فالعالم اليوم ينحو بلا لبس نحو شرعة الغاب، بعد أن برزت الإمبريالية بوجهها سافرة من جديد؛ فالروس يتطلعون إلى القارة الإفريقية مجالا حيويا لمصالحهم، والناتو يحن إلى حديقته الخلفية، والأمريكان متعطشون إلى الهيمنة على ما طالته أيديهم، في تناغم صدم الجميع بين أعداء الأمس الولايات المتحدة وروسيا. أما الأنظمة العربية فلا تزال محنطة بأفكار بالية، لا إرادة عندها في مراجعتها؛ وآية ذلك الصفعات التي يتلقاها النظام الجزائري في كل مناسبة من حليف الأمس فرنسا فلا توقظه من سكرة الغطرسة والضلال الغارق فيهما حتى الثمالة. وبجواره يسعى النظام الملكي في المغرب بمنطق الكيدية والمراهقة السياسية، بعيدا عن المصالح العليا للمغاربة المجزئين استعماريا بين دول إفريقية الشمالية.
كما أن العلاقة المتوترة بين النظامين السياسيين الفرنسي والجزائري كانت نتاج زواج مثلي استمر سبعين عاما، لم يستطيع تكوين أسرة طبيعية تحتضن الشعبين المتجاورين بسلام، رغم مظالم التاريخ، وقد آن للشذوذ أن ينتهي.
أشير أخيرا إلى خصلة مشينة تلازم أدعياء العلم في عالمنا الإسلامي العاملين تحت الأنوار في أبراج مشيدة خاصة في المملكة السعودية، خصلة ليسوا بها أحرارا؛ فلست أدري ما الذي أقنعهم بجدوى ما يقومون به والأمة تعيش في عالم مليء بالتحديات الجسام، يضطر أكثرهم إلى التنفيس عن مشاعر مكبوتة حينما يقحم آيات العرفان والولاء لولاة الأمر في كل مناسبة بلا حاجة، حتى في المواضيع الثقافية والروحية حمالة الأوجه، ولو أنهم نأوا بأنفسهم وتركوها على سجيتها لكان خيرا لهم وأطهر. وإنهم ليعلمون، كما نعلم أيضا، دأب ولاة الأمر في المملكة على إخفاء المعالم الأثرية للإسلام في تلكم البقاع وطمسها والحرص على استبعاد الزوار عنها باسم الدين، حتى تسرب إلى القلوب حب المال فغير النفوس، فأمسينا نسمع بالآثار التاريخية والترغيب في زيارتها، فسبحان من غير الأحوال!
وليس علماء الإسلام في السعودية وحدهم مبتلين بهذا الداء، ففي معظم بلاد المسلمين تجد المراجع الدينية حمائم مأسورة لخطاب ديني لا حياة فيه، يرتقون منابر تداهن السلاطين وتلبس على الشعوب إسلامها، وقلما تجد عند بعضهم صولة في الحق، تحيي النفوس وتهز عروش الظالمين.
إننا لا نستبعد الأيدي الماكرة في نشأة هذه الظواهر المرضية في حياتنا العقلية والروحية، أيد تعمل لمصلحة الإمبريالية الصاعدة، التي تمدها وتعاضدها وتستثمر فيها.