الصباح الجديد -
مر على إندلاع الحرب العبثية في السودان نصف عام كامل ، وما تزال فرص الوصول إلى حلول كالملهاة الزمنية، في وقت زادت فيه نسبة الخسائر في الأرواح والممتلكات وقضت الحرب على الأخضر واليابس.
يمر نصف عام على الحرب والقوى المدنية السودانية حتى الآن فاشلة في ترتيب صفوفها وبلورة رؤية متفق عليها لإنهاء الحرب ، ومن المؤكد أن هذه الغيبوبة التي تعيش فيها القوى المدنية السودانية ستصب الزيت على النار خاصة حال إستمرار الخلافات بينها في توافه لا تستحق الوقوف عليها في هذه الظروف.
صحيح هناك خطوة هذه الأيام للوصول إلى تشكيل جبهة مدنية عريضة لوقف الحرب لكن التباطؤ والاسراف في الجدل البيزينطي و(الآنا) الطاغية من شأنها تعطيل الإتفاق وأخشى أن تنطوي النقاشات النظرية على قياس عمومي فاسد في التصورات للحالة السياسية المحتملة وتضيع المجهودات هدراً ، وعليه كما أشار القيادي بقوى الحرية والتغيير ياسر عرمان لا بد من تقديم تنازلات من كل الأطراف وصولاً للاتفاق وبدء العمل لأن الجبهة المدنية (الماكينة) التي لو دارت عجلاتها لوقفت الحرب بأعجل ما تيسر.
يمر نصف عام على الحرب والعقلية التي تريد استمرارها تدهش المواطن السوداني بتصرفاتها غير المسؤولة ، فحكومة الأمر الواقع التي بنت موقفها الرافض للتفاوض بالحديث المتكرر عن جرائم القتل والنهب التي تقوم بها قوات الدعم السريع ، ورسخت هذه الحقيقة في إذهان السودانيين .. والغريب أنها في اجتماعات مجلس حقوق الإنسان رفضت تشكيل لجنة دولية للتحقيق عن جرائم الحرب ، وعادت تتحدث عن تشكيل لجنة للتعامل مع قرار المجلس.
وفي المقابل نصف عام مر على الحرب والحركة الإسلامية السودانية تتبع ذات الوسائل والآليات للوصول الى السلطة عن طريق دمار السودان وأشلاء الضحايا المتناثرة في الطرقات والدماء السائلة على أرض السودان ، وبالرغم من خطل تدابيرها وفشلها إلا أنها ما زالت ماضية في غيها تارة بإعادة العلاقات مع إيران (وما أدراك ما طهران) وتارة أخرى بإثارة الفتن بين القبائل ، فضلاً عن تحديها لقيادة الجيش والعمل ميدانياً بعيداً عن أوامرها ما ينذر بخلاف قادم وإنتهاء شهر العسل قريباً وفي ذلك مزيد من التشظي والإطالة لأمد المعركة.
الحركة الإسلامية ليست وحدها.. ربائبها ومن يديرون الواجهات التي تعمل لصالح خطها السياسي كُثر منهم الحريص على وظيفته وآخرون يحملون سيرتهم الذاتية ويتجولون في بورتسودان ويمنون أنفسهم بوزراء في حكومة طوارئ قادمة.
قوات الدعم السريع هي الأخرى بالرغم من تأكيداتها دوماً برغبتها في السلام إلا أن ممارسات أفرادها الأخلاقية أصبحت هي السمة الملازمة لها وكل ما إقتحمت منطقة إهتزت صورتها وزادت سمعتها سوء ، وهذا سيجعلها تدفع الثمن كثيراً ، وأول تكلفة في هذا الصدد التأييد الشعبي الواسع للجيش بضرورة حسمها ومن ثم وقف الحرب.
نصف عام على الحرب والأوضاع المأساوية لا تحتاج لسبر أغوار لإكتشافها فالوضع الصحي منهار تماماً ليس بغياب المستشفيات وخروجها عن الخدمة فقط ، وإنما بغياب الكادر الطبي في وقت تفشت فيه الأوبئة ووصلت (الكوليرا) و(الحمى النزفية) إلى الولايات الآمنة (الجزيرة – القضارف) ، أما التعليم فيكفي توقف العام الدراسي والمصير المجهول للطلاب حتى الآن ، وفوق كل ذلك الرصاص ونيران المدافع التي تنهمر على رؤوس الأبرياء في الخرطوم والولايات.
نصف عام مر على الحرب وأثارها على الاقتصاد السوداني هي الأكثر خطورة فالجنيه إنخفض وتهاوى أمام العملات الصعبة ، ووزارة المالية فاشلة في سداد رواتب الموظفين بالدولة وقادرة على دعم المجاهدين ونثريات الرحل الماكوكية لرئيس المجلس السيادي ونائبه الذي كشفت خطابات عن مطالبته بـ5 مليون دولار كنثرية سفر.
لا سبيل للحل غير الضغط الشعبي لوقف الحرب ومهما كانت هناك مرارات فيجب أن تقف الحرب ليحاسب كل مجرم على جريرته ، ولكن استمرار الحرب يعني مزيد من الجرائم والمخالفات ، آن الآوان بأن يقول الشعب السوداني كلمته لأنها الفاصلة والحاسمة لوقف هذا العبث.
الجريدة
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: على الحرب نصف عام
إقرأ أيضاً:
الحرب في السودان: مسار السلام، التعقيدات والتحديات
بروفيسور: حسن بشير محمد نور
منذ استقلال السودان في مطلع يناير 1956 يحلم السودانيون بالسلام وقد تمت عدة مبادرات واتفاقيات كان من ضمنها مؤتمر المائدة المستديرة في مارس 1965 بعد ثورة اكتوبر 1964، الا ان ذلك المؤتمر لم يكتب له النجاح. استمرت الحرب الاهلية التي اشتعلت في العام 1955، واستمرت في التصاعد خلال حكم الفريق ابراهيم عبود. بعد سقوط ذلك النظام وفشل مؤتمر المائدة المستديرة استمرت الحرب حتي العام 1972 بعد استيلاء الجيش بقيادة جعفر نميري علي السلطة في السودان في العام 1969م.
توصل نظام نميري لاتفاقية أديس أبابا في عام 1973 مع حركة "أنانيا"، التي حققت هدنة طويلة للحرب استمرت لعشرة سنوات، وهي الفترة الاطول التي يمكن القول بان السودان قد نعم فيها (بالسلام). وباعتبار السودان نموذجًا معقدًا في إدارة السلام بسبب تاريخه الطويل من الصراعات المسلحة وتنوع مكوناته الاجتماعية والسياسية، فقد شهدت مسيرة السلام تعقيدات حولتها من حلم لمعضلة شائكة حتي تحولت لسراب بعد اشتعال حرب ابريل 2023م.
مرت تلك المسيرة بمراحل متعددة كانت اتفاقية اديس ابابا أول محاولة جادة لإنهاء الحرب الأهلية الأولى (1955-1972) بين الشمال والجنوب، وتم التوصل إليها بعد سنوات من الصراع، وبالرغم من تحقيقها بعض النجاحات مثل منح الحكم الذاتي للجنوب، إلا أن نكوص حكومة نميري عن الالتزام بالتنفيذ الكامل للاتفاقية أدى إلى تجدد الصراع في عام 1983 بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الراحل جون قرنق.
بعد سقوط نظام نميري بانتفاضة شعبية في ابريل 1985 تم انتخاب حكومة مدنية برئاسة السيد الصادق المهدي. خلال تلك الفترة (1986 – 1989) حاولت الحكومه معالجة قضايا الحرب عبر الحوار مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق. لكن هذه الجهود تعثرت بسبب عدم التوافق بين الأحزاب السياسية والقوى المسلحة، خاصة الخلاف حول قوانين 1983 التي سميت بقوانين (الشريعة الاسلامية) وبعض الاتفاقيات العسكرية مع دول الجوار.
بالرغم من تلك الخلافات تمت بعض المحاولات فضلاً عن الضغوط الإقليمية والدولية، فقد تم اعلان كوكادام في العام 1986 بين قوى سياسية سودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، الا ان ذلك الاعلان لم يحقق اختراقا عمليا. جاءت بعد ذلك محاولة جادة من السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي فيما عرف (بمبادرة السلام السودانية). تم الاتفاق في تلك المبادرة علي وحدة السودان، تجميد قوانين سبتمبر 1983 وترتيبات سياسية، الا ان السيد الصادق لم يوافق علي ما تم الاتفاق عليه، الي ان قطع انقلاب الحركة الاسلامية في يونيو 1989، عبر الجيش السوداني بقيادة عمر البشيرالطريق في وجه السلام، بحكم طبيعة الحركات الاسلامية غير القادرة علي العيش والازدهار الا في البيئات القذرة.ٍ.
الحرب الاهلية في عهد حكومة الانقاذ الاسلامية لم تشتد فحسب بل تحولت لحرب دينية مشحونة بشعارات التطرف والكراهية. بعد ان تم حشد المجتمع الدولي لقواه ضد تلك الحرب بشعاراتها مثل (امريكا روسيا قد دنا عذابها)، ضاق الخناق علي نظام الانقاذ سياسيا واقتصاديا مما اضطره لتوقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005 مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. أدت هذه الاتفاقية إلى إنهاء الحرب الأهلية الثانية، لكنها مهدت لانفصال جنوب السودان في العام 2011، بسبب عدم حل جذور الأزمة المتعلقة بالهوية والموارد ونظام الحكم، وبسبب فقدان الحركة الشعبية لزعيمها التاريخي جون قرنق المؤيد للحدة، في تحطم طائرة غامض اثناء عودته من اجتماع محضور دوليا في العاصمة اليوغندية كمبالا. في ذلك الوقت روجت الماكنة الاعلامية للاساميين بان مشكلة الحرب قد انتهت وان السودان اصبح متجانسا بحكم الدين واللغة بعد التخلص من الجنوب (المختلف)، ذلك بالطبع حسب ايدلوجيتهم ومشروعهم الذي اسموه (الحضاري)، مع ان السودان لن يكون متجانسا حتي اذا اصبح سكانه يساوون ما يملأ غرفة واحدة.
بالطبع معضلات السلام لم تنتهي عند ذلك الحد، فقد اشتعلت حربا ليس اقل ضراوة في دارفور في العام 2003 وقد استمرت تلك الحرب الي حين اكتمالها بشكل مأساوي لتعم جميع انحاء السودان في ابريل 2023.
بعد سقوط نظام البشير في العام 2019 بثورة شعبية نادرة من نوعها من ناحية شمولها الجغرافي والاجتماعي والتوافق حولها، قبل ان يتم اجهاضها بعوامل داخلية وخارجية متشابكة. بعد سقوط نظام البشير جاءت الحكومة الانتقالية التي تشكلت بمخاض عسير في اغسطس 2019، بما سمي (باتفاقية جوبا للسلام) مع عدد من الحركات المسلحة المسماة بحركات (الكفاح المسلح). ورغم أنها هدفت لتحقيق سلام شامل، إلا أنها لم تشمل جميع الأطراف الفاعلة في النزاع، مما جعل الاتفاقية عرضة للانهيا، وبسبب الضعف البنيوي والجماهيري لمكوناتها لم تجد حلا غير الانضمام للمكون العسكري المكون من القوات العسكرية والامنية وقوات الدعم السريع في عرقلة مسار التحول الديمقراطي، ومضت ابعد من ذلك بالانحياز لانقلاب 25 اكتوبر 2021 ومن ثم مشاركة اطرافها التي تبقت بعد الانقسامات في الحرب مع الجيش السوداني.
عند حدوث انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة الجيش والدعم السريع، والذي كان المقدمة الاساسية لاشتعال الحرب في ابريل 2023، ازداد تعمق الأزمة السياسية، وحدثت انقسامات واسعة بين المكونات المدنية والعسكرية. الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع كشفت عن تعقيدات جديدة، حيث انخرطت فيها أطراف داخلية وخارجية ذات أجندات متعارضة، بما في ذلك مليشيات إسلامية وقبلية وقوات أجنبية.
بعد الحرب اصبحت معضلة السلام اشد تعقيدا لعدة اسباب منها:
- تعدد الأطراف المتصارعة: من طرفي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ومن معهما من المليشيات القبلية والإسلامية، مما يصعب الوصول إلى توافق شامل.
- التدخلات الخارجية: اذ ان هناك جهات دولية واسعة المعلومات تؤكد دعم أطراف إقليمية ودولية لأحد الجانبين، كان اخرهم وزير الخارجية الامريكية بلينكن من منصة مجلس الامن الدولي، يزيد ذلك من تعقيد المشهد.
- تباين العقائد الأيديولوجية والمصالح الاقتصادية بوجود أطراف ذات توجهات متناقضة سواء دينية، سياسية، أو اقتصادية، واخري قبلية تسعى لتحقيق مكاسب من الحرب.
كل ذلك يشكل عقبات عظمى امام تحقيق السلام لاسباب منها:
- غياب الثقة بين الأطراف المتصارعة بحكم التاريخ الطويل من النقض المتبادل للعهود وللاتفاقيات مما يعيق أي حوار جاد للوصول لحل صلب.
- ضعف مؤسسات الدولة يجعلها عاجزة عن تنفيذ الاتفاقيات ومراقبة الالتزام بها.
- تدهور الاوضاع الإنسانية والاقتصادية ودمار البنية التحتية يجعل السلام ضرورة ملحة لكنه صعب التحقيق، بسبب عجز الكثير من المكونات السياسية والاجتماعية من الانخراط بشكل فعال في المشاركة وصنع القرار لاسباب ذاتية وللتضييق الامني من اطراف الحرب، كما ان الوضع الاقتصادي لملايين النازحين واللاجئين يجعلهم في كفاح يومي من اجل البقاء ويحد من أي نشاط مجدي لهم.
يخلق كل ذلك تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة ليس اقلها:
- ان استمرار الصراع يؤدي إلى عزلة دولية وعدم استقرار داخلي ويجعل النظام السياسي هشا وفاقد للثقة.
- هروب الاستثمارات الوطنية والاجنبية وعزوف رؤوس الاموال عن التوظيف في الاقتصاد يؤدي لارتفاع معدلات الفقر والبطالة والبحث عن الهجرة الي الخارج كملاذ مصيري.
- من النواحي الاجتماعياً والديمغرافياً تفاقم الحرب النزوح الداخلي والانقسامات العرقية والقبلية، اضافة لتفشي خطاب الكراهية والاستهداف العرقي والجنساني.
تحقيق السلام يمرعبر طرق شائكة تتطلب حوار شامل تنخرط فيه جميع الأطراف الفاعلة دون استثناء وهذا يبدو امرا صعب التحقيق. كما يتطلب التزام دولي وإقليمي يدعم عملية السلام وضمان تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وهو موضوع مكلف نسبة لتعقيدات الاوضاع في السودان واتساع رقعة النزاع. مع الاخذ في الاعتبار ان تحقيق السلام يحتاج لرتق النسيج الاجتماعي، اعادة الاعمار وإصلاح المؤسسات بما يحقق بناء مؤسسات وطنية قوية قادرة على تحقيق العدالة والتنمية، وهذا شرط وجودي لمستقبل أي سلام في السودان.
اذن معالجة جذورالازمة، الذي يعتبر شرطا وليا لتحقيق السلام، يتطلب التركيز على قضايا مثل الهوية، التنمية، قسمة وتوزيع الموارد، بذلك نجد ان تحقيق سلام مستدام في السودان يمر بطريق طويل يحتاج الكثير من العمل، اضافة لمشروع وطني متوافق عليه وهذا يحتاج بدوره لإرادة سياسية قوية وفاعلة من جميع المكونات السودانية، يعتبر ذلك هو الطريق الممهد للوصول الي ورؤية شاملة لتحقيق السلام ولمستقبل البلاد، تأخذ تلك الرؤية في الاعتبار تعقيدات المشهد الحالي والتحديات التاريخية وتصطحب الوقائع الموضوعية المتشابكة علي المستوى الاقليمي والدولي، بدلا عن التوهان وانعدام الرؤية الحالي وعقلية (دبلوماسية الحرد) التي تتبعها سلطات الامر الواقع.
mnhassanb8@gmail.com