ذكر الإمام الشاطبى [أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمى الشاطبى (ت ٧٩٠ هـ)] فى كتابه الموافقات جملة من الواجبات التى يجب على المجتهد ملاحظتها والاعتناء بها أثناء قيامه بعملية الاجتهاد، ومن ذلك قاعدة النظر فى مآلات الأقوال والأفعال، يقول الشَّاطبي: (النظر فى المآلات من متممات النظر المقاصدى لأحكام الشرع)، وقال عن خصائص المجتهد: (أنه ناظر فى المآلات قبل الجواب على السؤالات).
والمآلات فى اللغة جمع مآل، وأصل الكلمة آل الشيء يؤول أوْلًا ومآلًا، بمعنى رجع، والموئِل المرجع، قال [الفيروزآبادي] فى "القاموس المحيط": (آلَ إليه أوْلًا ومَآلًا: رَجَعَ)، وقال [ابن فارس] متحدثًا عن التأويل فى "فقه اللغة": "واشتقاق الكلمة من المآل وهو العاقبة والمصير".
والمراد بالمآلات عند الأصوليين ما يترتب على الفعل بعد وقوعه، والمراد بالنظر فى المآلات: ملاحظة ما يرجع إليه الفعل بعد وقوعه من مصالح ومفاسد، وما يترتب عليه، وآثاره الناتجة منه، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فيأخذ الفعل بهذا النظر حكمًا يتفق مع ما يرجع إليه ويؤول إليه ذلك الفعل، سواء قصده الفاعل أم لا، فقد يرى أن الفعل مشروع لمصلحة فيه، أو ممنوع منه لمفسدة فيه، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإطلاق القول فى الأول بالمشروعية دون نظر إلى مآله، وفى الثانى بالمنع دون نظر إلى مآله تعجل لا ثمرة له، إذ قد يؤدى الفعل الأول إلى مفسدة مساوية، أو زائدة على المصلحة التى رُئِيت فيه فى بادئ الأمر، وكذلك الفعل الآخر فقد يؤدى إلى دفع مفسدة مساوية أو زائدة، قال الشاطبي: (والشريعة مبنية على الاجتهاد، والأخذ بالحزم، والتحرر مما عسى أن يكون طريقًا إلى مفسدة). وقد عمِل العلماء بهذا الأصل، فالإمام [مالك] عوَّل عليه فى سد الذرائع، كما عمل بهذه القاعدة حينما أفتى [المنصور] حين استشاره أن يهدم البيت، ثم يبنيه على قواعد إبراهيم - عليه السلام - فقال له مالك: (لا تفعل، لئلا يتلاعب الناس ببيت الله)، فصرفه عن رأيه سدًّا لمآل فاسد، وهو أن يتخذ التلاعب بالبيت سنَّة تابعة لاجتهادات الحكام وآرائهم فلا يستقر على حال.
وقد اشترط مالك أن يكون الناظر فى المصلحة مجتهدًا، وما ذلك إلا ليكون (متكيفًا بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعُه عما يخالفها)، فلا ينسب لها ما ليس منها، ومن نسب للشريعة مصلحة، وكان مآلها إلى مفسدة كان مفتريًا عليها، وقد قال [العز بن عبدالسلام]:(وكذلك ما نهى عنه من المصالح المستلزمة للمفاسد لم ينهَ عنه لكونها مصالح، بل لما تستلزمه من تلك المفاسد، ولذلك ما يؤمر به من المفاسد المستلزمة للمصالح لم يؤمر به لكونها مفاسد، بل لما تستلزمه من تلك المصالح)، وهذا فيه إشارة إلى اعتبار المآل، فإن المفسدة قد تؤول إلى مصلحة، فالشارع يأمر بها لِما فيها من المصلحة المترقبة، وكذلك العكس. ولا شك أن الترجيح بين المفاسد والمصالح قد يرتبط بالأمر الواحد باعتبار الحال والمآل، وقال العز أيضًا: (المصالح ضربان؛ أحدهما: حقيقي، وهو الأفراح واللذات، والثاني: مجازي، وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر بها، أو تباح، لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح)، ثم قال: (وكذلك المفاسد ضربان؛ أحدهما: حقيقي، وهو الغموم والآلام، والثاني: مجازي، وهو أسبابها، وربما أسباب المفاسد مصالح، فنهى الشرع عنها، لا لكونها مصالح، بل لأدائها إلى المفاسد).
لا شك أن العمل بهذه القاعدة دقيق الاستعمال، وهو عرضة لزلل الأقدام، وتعثر الأفهام، فقد يصعب تقدير المآل، خاصة فيما كان من شؤون الحياة المتشابكة والمعقدة، وإن كانت نتائج تقدير المآل خاطئة آل الأمر إلى تغيير فى الحكم على الفعل، بتجويز الممنوع ومنع الجائز، كما جاء فى قول الإمام الشاطبي: (وهو مجال للمجتهد صعب المورد)؛ لذلك كان واجبًا على أهل العلم إحاطة استعمال هذه القاعدة بجملة من القيود والضوابط، ترشيدًا للنظر، وتجنبًا للزلل، ومن أهم هذه الضوابط:
تحرى المقصد الذى من أجله شُرع الحكم الشرعى فى الواقعة المراد النظر فيها، فإذا تبين عدم تحقق المقصد عُدل بالحكم الأصلى إلى غيره.
التحرِّى فى أيلولة الواقعة المراد النظر فيها: هل سيتحقق المقصد الشرعى من الحكم الشرعى عند تطبيقه على هذه الواقعة أم لا؟، فعلى المجتهد بعد دراسة الأحكام الشرعية ومعرفة مقاصدها أن يتحرَّى فيما ستؤول إليه هذه الأحكام عند تطبيقها. وأحكام الشريعة فى الغالب تؤول إلى تحقيق مقاصدها عند تطبيقها على الأفعال، وقد تتخلف أحيانًا لأسباب ومؤثرات عدة، وعلى المجتهد أن يكون على بصيرة بها.
وأخيرًا قد يبدو حديثنا أنه عن قاعدة دينية ولكنه فى الحقيقة حديث عن قاعدة عامة للحياة، فالنظر فى المآلات هو أمر واجب فى كافة مجالات الحياة سياسيبًا واجتماعيًا واقتصاديًا بل وأمنيًا، ولعل فى الأحداث الأخيرة التى نشاهدها فى منطقتنا خير دليل، فكم من الأفعال التى تبدو للوهلة الأولى أنها تحقق مصالح ولكنها فى الحقيقة تؤول إلى مفاسد بل إلى كوارث.
* كاتب معنى بقضايا التنمية البشرية
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
الديون الأميركية أكبر خطر على الاستقرار المالي.. هذا ما توصل إليه الفدرالي
الاقتصاد نيوز - متابعة
فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب أسهم في حملة قوية ضد التضخم المرتفع، ولكن بعد الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تجاهل الخبراء الماليون والاقتصاديون ارتفاع الأسعار وبدأ القلق يسري بشأن ارتفاع الديون الأميركية، والركود المحتمل، والمخاطر التي تهدد التجارة العالمية.
عبء الديون قد يكون من أهم التهديدات لاستقرار القطاع المالي، وفقاً لمسح جديد أجراه الفدرالي الأميركي ونشر في وقت متأخر من ليل الجمعة بتوقيت الولايات المتحدة.
وخلص مسح الفدرالي الأميركي إلى أن "المخاوف بشأن القدرة على تحمل الديون المالية الأميركية كانت من بين المخاطر الأكثر ذكراً. ولوحظ أن زيادة إصدارات سندات الخزانة يمكن أن تبدأ في مزاحمة الاستثمار الخاص أو تقييد استجابات السياسات في حالة الانكماش الاقتصادي"، في حين أن الضعف المحتمل في الدين العام الأميركي قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي.
وبتلك التوجهات، ارتفع همّ الاقتصاد الكلي واحتمال نشوب حرب تجارية عالمية إلى أعلى قائمة المخاوف.
ارتفعت أعباء تكاليف الفائدة على الديون الأميركية إلى أعلى مستوياتها منذ تسعينيات القرن العشرين في السنة المالية المنتهية في سبتمبر، مما أدى إلى تصعيد خطر أن تحد المخاوف المالية من خيارات السياسة للإدارة المقبلة في واشنطن.
وانعكست هذه المخاوف أيضاً في سلوك سوق السندات في الآونة الأخيرة، مع ارتفاع العائدات على سندات الخزانة لأجل عشر سنوات، على سبيل المثال، بشكل حاد خلال الشهرين الماضيين على الرغم من قيام الفدرالي الأميركيبتخفيض سعر الإقراض القياسي مرتين بما مجموعه 75 نقطة أساس.
وإلى جانب ذلك، كان تقدير علاوات سندات الخزانة، وهو مقياس التعويض الذي يحتاجه المستثمرون للاحتفاظ بأوراق مالية الخزانة الأطول أجلاً بدلاً من الأوراق المالية القصيرة الأجل، قريباً من أعلى نطاقه منذ عام 2010.
وعلاوة على ذلك، كانت مقاييس تقلب أسعار الفائدة فوق المعايير التاريخية، ويرجع ذلك جزئياً إلى "ارتفاع حالة عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية والمسار المرتبط بالسياسة النقدية بالإضافة إلى الحساسية المتزايدة للأخبار المتعلقة بنمو الإنتاج والتضخم والمعروض من سندات الخزانة".
مخاطر الحروب التجارية
وفي الوقت نفسه، ارتفع الضعف المحتمل في الاقتصاد واحتمال نشوب حرب تجارية عالمية على قائمة المخاوف.
ووجد الاستطلاع أن "المخاطر التي تتعرض لها التجارة العالمية تم ذكرها على وجه التحديد في هذا الاستطلاع، حيث أشار بعض المشاركين إلى احتمال أن تؤدي الحواجز الجمركية إلى سياسات حمائية انتقامية من شأنها أن تؤثر سلباً على تدفقات التجارة العالمية وتفرض ضغوطاً تصاعدية متجددة على التضخم". وأشار آخرون إلى أن تدهور التجارة العالمية يمكن أن يؤدي إلى ركود النشاط الاقتصادي وزيادة خطر الانكماش.
اقرأ أيضاً: راي داليو: الديون الأميركية وقرارات الفيدرالي في مقدمة القوى المحركة للاقتصاد العالمي
وكان "التضخم المستمر" إلى جانب السياسة النقدية المتشددة للفدرالي الأميركي قد تم الاستشهاد به على أنه الخطر الأكبر في استطلاع سابق صدر في الربيع، لكنه انخفض إلى المركز السادس، إلى جانب التجارة العالمية، في الاستطلاع الحالي.
سياسات ترامب
ورغم أن هذا التضخم سبق فوز ترامب في الانتخابات، إلا أن الاستطلاع يسلط الضوء على القضايا التي من المرجح أن تكون محورية في المناقشات المقبلة بشأن الضرائب والرسوم الجمركية والقضايا الاقتصادية الأخرى.
ويرى بعض الاقتصاديين أن حزمة الإجراءات التي يخطط لها ترامب من التخفيضات الضريبية والرسوم الجمركية على الواردات من المحتمل أن يؤدي إلى زيادة التضخم والعجز الفيدرالي الكبير بالفعل في وقت تحافظ فيه أسواق السندات على ارتفاع العائدات على سندات الخزانة الأميركية.
وتستشهد قائمة المخاطر على المدى القريب التي تهدد الاستقرار والتي نُشرت يوم الجمعة بتقريري الاستقرار المالي لعام 2019، عندما كانت "الاحتكاكات التجارية" هي مصدر القلق الأكبر بعد أن أطلق ترامب حرباً تجارية مع الصين وأجبر المكسيك وكندا على إعادة التفاوض بشأن كوريا الشمالية والجدل حول اتفاقية التجارة الحرة الأميركية.
وتظهر الوثيقة أيضاً أن ترامب يرث نظاماً مالياً يبدو متيناً إلى حد كبير من وجهات نظر عديدة، ولكن مع ظهور بعض الضغوط الملحوظة.
وخلص التقرير إلى أن قيم الأصول "ظلت مرتفعة"، وهو ما يشكل مصدر قلق لأن التسعير المرتفع يمكن أن يعني انعكاسات أكثر حدة إذا تغيرت المشاعر أو الظروف، مع انخفاض السيولة وتعرض أسعار العقارات التجارية للضغوط.
وكان اقتراض الأسر "متواضعاً"، لكن التأخر في السداد كان في ارتفاع بالنسبة لبعض أنواع القروض، واقترضت الشركات بكثافة.
وظلت البنوك، التي يخضع الكثير منها لإشراف الفدرالي الأميركي مع مراقبة مستويات رأس المال عن كثب، سليمة ومرنة.
تم وصف إحدى فئات الأصول المحددة، وهي "العملات المستقرة" المستخدمة كجزء من نظام العملة المشفرة، بأنها متنامية.