الأب بطرس دانيال يكتب: الجمال يشع من داخلك
تاريخ النشر: 13th, October 2023 GMT
نقرأ فى سفر الحكمة: «وإن دهشوا من قدرتها وفاعليتها فلْيَفهَموا مِنها كَم مُكوِّنها أقدَرُ منها، فإن عَظَمة المخلوقات وجمالها يؤَدِّيان بالقياس إلى التأمل فى خالقها» (حكمة 13: 4-5). ماذا يعنى الجمال بالنسبة لنا؟ هل هو الوجه الجميل فقط؟ هل هو الملابس الأنيقة الباهظة الثمن؟ نقرأ فى إحدى القصص الصينية أن خمسة أشخاص سافروا معاً وكانت اتجاهاتهم مختلفة، فمنهم الراهب واللص والرسّام والبخيل والحكيم، ومع غروب الشمس، وجدوا مغارة مهجورة وكانت بمثابة ملجأ لهم.
فقال الراهب: «هذا المكان مناسب للتأمل والاعتكاف»؛ ثم تمتم اللص بصوتٍ خافتٍ: «يا له من مخبأ لكل شخصٍ خارج عن القانون»؛ وصرّح الرسّام هكذا: «هذه الصخور والظلال الموجودة على الجدران تصلح كأداةٍ ممتازة لريشتى»، وعندما جاء دور البخيل صرخ قائلاً: «إنه مكان مناسب لإخفاء كنوزى وأموالى»، وبعد أن ساد الصمت، قال الحكيم بكل بساطة: «يا لها من مغارة بديعة». ما لا شك فيه أن الدرسَ بسيط جداً ولكنه عميق وأساسى فى حياتنا، لأنه يبين الخط الفاصل بين المفيد والجميل. فالشىء النافع من الممكن أن يحيد عن مساره ويصبح ضاراً، عندما نضفى إليه صفة التكلفة والثمن فقط، أو مَن ينظر إلى الأشياء من أجل غرضٍ معين والاستفادة منها فقط، أو يحسبها بالمكسب والخسارة.
إذا لم نمتلك الشعور والإحساس والنبض الجمالى لكل ما نراه سواء من مخلوقات الله أو الإيمان أو الفنون، سنفقد البُعد الإنسانى الذى منحنا إياه الله الخالق والمبدع. والمقصود هنا ليس الجمال الخارجى فقط الذى يتحلّى به الأشخاص، ولكن الجمال الكامن فى المخلوقات التى نراها كل يومٍ وفيها نسبّح الله الخالق على إبداعه. كم من المرات التى فقدنا فيها فرصاً جميلة تساعدنا على السكينة والهدوء وصفاء النفس؟! مَن يتأمل جمال الخليقة بعينٍ ثاقبة، يستطيع أن يكتشف نور وبهاء مُبدعها وخالقها، لذلك لا يكتفى أن نملك نظراً سليماً لنرى الجمال، ولكن يجب علينا أن نتحلى بالإحساس والشعور الداخلى الذى يجعلنا نتمتع بكل ما هو جميل فى حياتنا اليومية، ونصل من خلاله إلى الجمال الحقيقى الذى منحنا هذه النعمة.
لا ينكر أحدٌ منّا الجمال الكامن فى جميع مخلوقات الله، وإذا تحدثنا عن جمال الإنسان، لا نقصد به جمال الأجسام وشكلها، لأن السر كل السر فى الأرواح، وما لا شك فيه أن الجمال الداخلى يشع على الوجه بأكمله وسلوك الإنسان وتصرفاته وكلامه، ومنه يشع الجسد بجاذبية تستميل القلب وتأسر الروح، لكن إذا فقد الإنسان جماله الداخلى، فلا يبقى إلا تناسق أعضاء الجسم وانسجام فى الملامح الخارجية فقط، ونستطيع أن نقول: «هذا جمال مائت لا روح فيه.
من المحتمل أن يُبهج العين، لكنه لا يحرك القلب والروح». وكان أحد الآباء ينصح ابنته قائلاً: «كونى طيبة القلب، لتصبحى جميلة». لأن الجمال ليس فى الثياب التى نرتديها مهما كانت ثمينة وأنيقة، أو المساحيق التى نضفيها على الوجوه، أو العطور التى نتعطر بها، ولكنه شعاع روحانى ينعكس على الإنسان فيكسوه سحراً وجمالاً وجاذبية بريئة، وهذا نجده فى الشخص الذى يتحلى بالأخلاق الحميدة والفضائل. وكما يقول المَثَل الإيطالى: «الجمال بلا فضيلة يُشبه منزلاً بلا باب، وربيعاً لا ماء فيه». نحن نعيش عصراً تغزوه صور ومشاهد عديدة، ولكنها لا تدل على الجمال والصفاء والنقاء، لذلك نحن بحاجة ضرورية ومُلِحّة إلى تنقية وفلترة ما نراه حتى لا نشوّه معنى الجمال الحقيقى الموجود فى المخلوقات والإنسان، وهذا الجمال لا يزول أبداً مهما تغيّرت الظروف التى نمر بها، لأن الله وحده مصدر هذا، وكما يقول داود النبى: «انظروا إلى الرب تُشرق جباهكم» (مزمور 6: 33). وهذه النظرة مبنية على كيفية رؤيتنا لكل ما هو مخلوق.
إذاً، يجب أن نعوّد أنفسنا التأمل فى كل شىء بعينٍ بسيطةٍ وشفافة، لنتأمل الزهور الباسمة فى الصباح التى تشع منها النضارة والعِطر والجمال التى تُسعد الإنسان بالطِيب وتهب العين هناءً وسروراً، لنتأمل لوحة الله الخالق من الفن والجمال، لأن كل ما فى الكون سخّره الله لنا لنتمتّع به ونسبّحه على الدوام. ونختم بكلمات الفيلسوف Lavater: «الوسيلة الوحيدة لتجميل المِحيا هى تجميل أنفسنا قدر المستطاع».
المصدر: الوطن
إقرأ أيضاً:
سوريا والعدالة الانتقالية؟
سرى الحديث مؤخرًا عن العدالة الانتقالية فى سوريا فى مجالات عدة، ومن قبل الكثير من السوريين. واليوم ظهر واضحاً كيف يمكن تحقيقه فى أعقاب ثورة التاسع من ديسمبر الجارى. ولا شك أن هناك الكثير من السوريين ممن عرفوا بدورهم البارز فى الثورة السورية منذ اندلاعها لا سيما فى توثيق الجرائم والمطالبة بالعدالة الانتقالية ودعم حقوق الإنسان فى سوريا. واليوم ومع سقوط نظام «بشار الأسد» فى الثامن من شهر ديسمبر الجارى عاد الحديث من جديد عن مصطلح «العدالة الانتقالية» ليتصدر النقاشات الجارية التى تتطلع إلى المستقبل فى ظل بناء سوريا الجديدة.
فما هى العدالة الانتقالية؟ وما هى التجارب التى يمكن اعتبارها مرجعًا فى هذا المجال؟ وفى معرض الرد نقول إنه وفقًا لتعريف الأمم المتحدة فإن العدالة الانتقالية تغطى كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التى يبذلها المجتمع لفهم تركة تجاوزات الماضى الواسعة النطاق من أجل كفالة المساءلة وإقامة العدالة والعمل على ترسيخها وتحقيق المصالحة، والعدالة الانتقالية تهدف فى الأساس إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضى على أنهم أصحاب حقوق. كما أنها تهدف إلى تعزيز الثقة بين الأفراد فى المجتمع الواحد. كما أنها تهدف إلى تعزيز ثقة الأفراد فى مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون، وبالتالى تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة فى تعزيز المصالحة ومنع أية انتهاكات جديدة.
الجدير بالذكر أن عمليات العدالة الانتقالية تشمل تقصى الحقائق، ومبادرات الملاحقة القضائية، كما تشمل مجموعة واسعة من التدابير التى تتخذ لمنع تكرار الانتهاكات من جديد، بما فى ذلك الإصلاح الدستورى والقانونى والمؤسسى، كما تشمل تقوية المجتمع المدنى، وجهود إحياء ذكرى الضحايا، والمبادرات الثقافية، وصون المحفوظات، وتعليم التاريخ وفقًا لاحتياجات كل سياق. وفى معرض التوضيح تقول اللجنة الدولية للعدالة الانتقالية بأن العدالة الانتقالية تشير إلى الطرق التى تعالج بها البلدان الخارجة من فترات الصراع والقمع، وانتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق أو المنهجية التى تكون عديدة وخطيرة للغاية بحيث لا يتمكن نظام العدالة العادى من تقديم استجابة مناسبة.
هذا وتشمل التدابير المستخدمة الملاحقات الجنائية، ولجان الحقيقة، وبرامج التعويضات، وإعادة الحقوق، والكشف عن المقابر الجماعية، والاعتذارات والعفو. كما تشمل إلى جانب ذلك النصب التذكارية والأفلام والأدب والبحث العلمي، وإعادة كتابة الكتب المدرسية ومراعاة التدقيق فيها، وتشمل أيضًا أنواع مختلفة من الإصلاحات المؤسسية لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان. الجدير بالذكر أن العدالة الانتقالية اليوم لا تقتصر على المسار القضائى للتعامل مع الماضى فحسب، بل تشمل أيضًا المناقشات والمداولات على مستوى المجتمع بأكمله. كما انتقدت العدالة الانتقالية أحيانا بسبب أشكالها الجامدة إلى حد ما، ومؤسساتها ومحتواها المعيارى الذى يستهدف فقط نموذج «الديمقراطية الليبرالية».