قراءة عماد أبو صالح تحولك إلى كاتب كبير أو لص!
تاريخ النشر: 13th, October 2023 GMT
في العام الأول من تسعينات القرن الماضي هبط شاعر من ريف الدلتا إلى القاهرة، لا ليكون جزءاً منها، أو ليصبح فارسها المغوار، أو شاعرها المحبوب، أو نجمها الأول. كل ما كان يطمح له أن يبحث عن نفسه وأن يجدها. لعله أراد أن يبتعد قليلاً عن كوابيس الفقر المخيفة في شمال مصر، أو أن يهرب من البعوض الضخم الذي يمتص دماء الناس والحيوانات في عز الظهيرة.
بعكس أدباء يهرولون إلى القاهرة بحثًا عن مناطق الإضاءة، هرب عماد من الظل إلى الظل، وإذا كان يمكن للجيران قديماً أن يروه في قريته أو الزملاء في جامعة «المنصورة»، فليس بوسع أحد في القاهرة أن يراه أغلب الوقت سوى زملائه في مقر عمله بجريدة «الوفد»، لكن لا يمكنهم إجباره على أن يفتح فمه ويتحدث. يدخل مغطيًا معظم وجهه بمقدمة طاقيته، ويجلس في صمت، كأنه تمثال، وإذا أراد شيئًا لا يطلبه من أحد، بما فيه كوب الشاي.
ولكي تكتمل عزلته، اختار عماد أن ينشر في مطبعة صغيرة يملكها رجل يشبهه اسمه «عم حمدي». الاثنان اشتركا في محبتهما للحياة، وفي رفضهما للظلم، وقد تعامل معه عم حمدي كأبيه. كان عماد يحصل على نسخه من مطبعة «عم حمدي» في حدائق الزيتون، ويضع بعضها في كيس قماشي. يظهر في وسط البلد على تخوم المقاهي، كأنه يسير على شاطئ بحر متلاطم الأمواج، ينظر إلى الناس بحذر كأنهم أسماك قرش.
يُهدي دواوينه لمن يشعر مع روحه بألفة. يجلس معه في المقهى ويضع كيس النسخ القماشي على الأرض. يُخرِج نسخة ويفكر كثيرًا قبل أن يكتب الإهداء بأحد أقلامه الملوَّنة، وربما عوضًا عن كتابة الإهداء يرسم وردة أو فراشة أو نخلة أو غيمة أو شمسًا أو هلالا. يكتب لفتاة «يا أختي» ربما ليطمئنها أنه لا يفكر فيها كذئب، ويكتب لرجل لا يعرفه «أخي في الإنسانية» ليشعره بالقرب. وقد يقابل شخصاً بالصدفة في الشارع فيضع الكيس على مقدمة سيارة مركونة ليكتب إهداءه.
بدأت الألسنة تتناقل نبأ هذا الشاعر الغريب الذي يظهر على تخوم الغابة دون أن يخطو بداخلها، غزال يسير متعثرًا في خطواته وهو يفكر في الوحوش وعيونها المخيفة خلف الأشجار العملاقة، الشاب الذي اختار لصداقته نفرًا قليلاً، يقابلهم منفردين في مقهى «إنديانا» بميدان الدقي، حيث كان يجلس صدام حسين أثناء دراسته في القاهرة، أو يصطحبهم إلى مقر عمله في «الوفد». يقودهم عبر سلَّم الخدم الخلفي الضيِّق إلى الطابق العلوي، ويُجلِسهم في مكان معتم بين المكاتب، مستمعاً إليهم. لا يشارك في الحديث سوى بفتات الكلمات، كأن الصداقة هي الإنصات وكأن واجب الضيافة هو الصمت.
أدرك الشعراء أن هناك موهبة فذة بزغت. فَرِح بعضُهم بينما انزعج غالبيتهم. فما حاجتهم إلى شاعر يهز المشهد الثابت؟ ما حاجتهم إلى من يُلقي حجراً فيحرك مياههم الراكدة؟ ولماذا يُبعث من هو أكثر موهبة منهم فيصفق له الناس أكثر مما يصفقون لهم؟ ولماذا تبدو كلماته حادة كالشفرات بينما تبدو عباراتهم كالملاعق الخشبية؟ ولماذا ينز الألم من بين سطوره كما ينز من تفاحة خضراء مُرَّة إذا مضغْتها؟
عماد ليس خريج أكسفورد، ولا سليل باشوات، ولا ابن مدينة. إنه ابن فقراء وهم أيضاً أبناء فقراء فلماذا يختصه الوحي بقصيدة جديدة إن كان يشبههم؟ صار اسمه دليلاً على النبوغ الشديد، والتفرد، والعزلة، لكنه أيضاً أصبح هدفاً للطعن من أخوته في الشعر. يصيح أحدهم إنه ليس ابناً للشعر العربي، وإنما امتداد للشاعر الفرنسي آرثر رامبو. «ألا يجاهر بحبه له»؟ ناسين أيضاً أنه يجاهر بحبه للوركا الذي عاش حياته كلها يطارد شعلة الثقافة العربية ويقبس من نارها.
عماد شخص قوي في الشعر وإلا ما تحمَّل كل ما ينقله لنا من ألم، لكنه في الواقع رجل هش، قد تكسره كلمة، أو تخنقه إيماءة، أو تذبحه عبارة. حتى عزلتُه رأوها محاولة منه لصنع صورة لنفسه، أي أنه يستمد شهرته من لواذه بنفسه، كأن اختفاءه «خطيئة» أو «فضيحة». يسأل عماد نفسه: لماذا يكره الشعراء بعضهم البعض؟ لكنه يعرف الإجابة، إنها الغيرة ولا شيء غيرها، الغيرة التي جعلت قابيل ينهي حياة أخيه هابيل قادرة على أن تجعل شاعراً ناشئاً يذبح شاعراً آخر بدمٍ باردِ ثم يجلس ليدخِّن سيجارة فوق جثته. لم تكن السهام تأتي عماد من جيله ولا من الأجيال التالية فقط، لكنها كذلك جاءته من شعراء راسخين. غامر مرة وأرسل قصيدته إلى مجلة «إبداع» عام 1993. كان رئيس تحريرها وقتها أحمد عبد المعطي حجازي ومدير تحريرها حسن طلب. ردَّا عليه في «بريد القرَّاء»: «لا يزال أمامك الكثير لكي تصبح شاعراً، وما دمت عاجزاً حتى عن إقامة الجملة الشعرية البسيطة فما بالك بالقصيدة؟! إن ما أرسلته ليس شعراً، ولا يبدو أنك قد نجحت حتى الآن في اكتساب ثقافة شعرية تؤهلك للكتابة. ننصحك بأن تفرغ للقراءة الجادة وتنصرف أولاً إلى إتقان أدوات الكتابة الشعرية».
وبرغم تلك القسوة المفرطة نسي عماد ما فعله حجازي به، وفي حوار أجريتُه معه عام 2020 دافع عماد عنه ضمن زمرة شعراء آخرين يرى أننا أهنّاهم وأسأنا إليهم ولطخنا تاريخهم: «صلاح عبد الصبور قتلناه، فؤاد حداد اعتقلناه، عفيفى مطر غرّبناه أو طردناه، وحجازي (وهو واحد من أعظم شعرائنا) هاجمناه وشتمناه. أما أمل دنقل، فأصبح أكل لحمه ميتاً أكثر لذة مما كان حياً، حفلات شتمه تتكرر سنوياً رغم أنه شاعر كبير، ولا يليق أن تُنفى شاعريته لأنها لا تناسب ذائقتك، أو لأنك تريد تكييفه على مقاييسك الفنية، أو لأنك تريد تفصيل أشعاره على مقاس العولمة».
يشبه كتابه الجديد «يا أعمى» مانفستو. فيه خلاصة ما عرفه عن الشعر والشعراء. عباراته شعرية، وفقراته قصائد، يخاطب فيها وبها نفسه وأخوة الشعر، من ملائكتها إلى قتلتها، من آبائها القدامى إلى أصغر شعرائها، من مؤسسي القصيدة العمودية إلى رواد التفعيلة إلى مكتشفي قصيدة النثر. عائلة كاملة لا تتوقف عند شاعر ولا زمن، بدءا من امرئ القيس مرورا بأحمد شوقي وحتى محمود درويش. يقول لأخوته الشعراء في أول عبارة، كأنه يحذرهم من عروض القوة، بعد أن شاهدهم في كل مكان يتباهون بعضلاتهم وقبضاتهم كأنهم لاعبو ملاكمة أو كمال أجسام: «لا يأتي الشعر بالقوة. لا يؤخذ بالذراع ولا العافية. الشاعر الحقيقي ضعيف، مسكين. هو- يمكنك أن تقول- ذليل. ذل الشاعر أمام الشعر، عِزّة للإنسانية».
يرى عماد أن الشاعر لا يجب أن يهدر وقته في الحفلات الصاخبة، الشاعر ليس مكانه القاعات، ولا الحفلات، ولا التجمعات الحاشدة، فهو مشغول طوال الوقت بالبحث عن الألم، أو تفسير الألم، أو الهرب من الألم، لا يكاد يشعر بالسعادة سوى لحظات، يقضي بعدها بقية عمره في مأساة، يقول: «لا تعتبوا على الشاعر حين يتخلف عن الحفلة، إنه مشغول بالمذبحة القادمة».
ولا ينفي عماد عن الشعراء الآخرين أحقية اختيارهم مكان وقوفهم، منابرهم، جمهورهم، قضاياهم، وطبعاً قصيدتهم، لكنه لا يعفيهم من المساءلة. يقف أمام وجوههم السمينة المتخمة بالوفرة بجسده النحيف السقيم ويرفع صوته عالياً: «اسمع: أنت شاعر كبير، الكل يؤكد هذا، وأنا لا أحد يتذكرني. لكن الشعر ليس بدلة على مقاسك، وأتوسل لتسترني تحتها. لي قميص بمقاس آخر، ومن نسيج آخر. فقير لكنه ملكي. فيه رائحتي، وأتحسس ملمسه كجلدي. أنت شاعر كبير في السكة التي اخترتها، وأنا شاعر حقيقي في سكة مختلفة. أنا ند لك، حتى لو كنتُ قارئي الوحيد وجمهور نفسي. ربما سكتي طويلة، لكن ذلك أفضل، حتى يستعيد المسافرون ذكرياتهم قبل أن يصلوا إلى محطاتهم النهائية، حتى يلحق بهم أحباء تخلفوا عن الرحلة، حتى يتراجعوا - هم أنفسهم - عن الرحيل، ليرشّوا القمح للدجاج، ويفكوا كلابهم من السلاسل. ربما سكتي ضيقة، وذلك أجمل، حتى تنبت عشبة على مهلها، ويغني عصفور على شجرة. كل عشبة في سكتك الواسعة، تدهسها أحذية الحشود العابرة للترحيب بك. كل عصفور يغني، يضيع صوته في ضجيج الهتاف لك».
يسافر عماد في الزمن، ويقابل المعري، يظن أنه يمنح الشاعر العربي الكبير مكافأة أو جائزة لكن المعري يوقظه من غفلته وخطأ تصوره: «ظننت أنني أمتدح أبا العلاء المعري، وقلت له: والله إنك «لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ» فعلا. إنني أعدّ «رسالة الغفران» رواية، قبل أن يعرف العرب الروايات. هز رأسه مستنكراً، وقال: لا أحب أن أكون روائياً. الرواية لحم، والشعر حلم. الرواية قص، والشعر قنْص. إن الشعر فرس، والرواية فريسة». لكن كيف سافر عماد في الزمن؟ إنه شاعر والشعراء أكثر قدرة من غيرهم على حشد الدنيا على راحة يدهم: «لا يهم سفر الشاعر أو إقامته، حِله أو ترحاله. يمكنه أن يحشد العالم كله في غرفته، أن يقيم حفلة للكون في ركن صغير. كان كفافيس يطل من شرفته، ويتأمل الإسكندرية. يشير بإصبعه ويقول: «هنا مبغى (للخطيئة)، هنا كنيسة (للتوبة)، وهنا مستشفى (للموت)، ما الذي يحتاجه المرء بعد هذا؟ إنها مراكز الوجود». رأيته من شرفتي، وناديته: هيه، أنت، أيها اليوناني الغريب، ألا تشتاق أن تذهب يوماً إلى أثينا؟ رد بدهشة: «ولماذا أذهب إلى أثينا، إذا كانت أثينا نفسها تجيء لي هنا؟!».
وبرغم أن عماد يعرِّي نفسه لزملاء الكتابة، إلا أنه يدرك أنهم لن يتغيروا. يقول:
«لا شاعر دون كلب
للحراسة؟
لا طبعاً، للعض
راعي أغنام أنقذ رسول حمزاتوف من قطيع كلاب هاجمه وهو طفل. كان عائداً في الليل بكيس أشعار جمعها من أفواه الناس في قرية بعيدة. قال له: «لا تخف، ما دمت تريد أن تكون شاعراً، ستلقى كلاباً أشد سُعاراً من هذه في المستقبل».
كل فقرة في كتاب عماد أبو صالح الجديد تشبه ماسة، وبالتالي تكفينا هنا بضع ماسات؛ لأني إن أخذت حصة أكبر سأصير جشعاً. إنه كتاب كالحلوى، تكفيك قطعة صغيرة لتشعر بالرضى عن نفسك وعن العالم، عن الشعر والشعراء، وهو كتاب يوقظ بداخلك إما التوق للكتابة أو السرقة. بإمكانك أن تكتب بعد أن تقرأه كتاباً جميلاً، أو تصبح لصاً كبيراً.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: