منذ ثورة 30 يونيو 2013 وحتى اليوم،لم تتوقف الحملات العدائية والضغوط الخارجية التى تمارس على مصر شعبا وحكومة، لا سيما كلما اقتربت من أى استحقاق انتخابى،ناهيك عن أن يكون رئاسيا. الهدف معروف إما السعى لإفشاله وإضعافه، وإماالعمل على التحكم فى نتائجه أو التشكيك فى مدى نزاهته، أما الحيل التى تقتضى إدارة مثل تلك الحملات المعهودة فهى محفوظة عن ظهر قلب، بينها بث الشائعات وإنكار الحقائق بعد السخرية منها وتسفيهها، وحجب المعلومات بشأنها والترويج لأفكار عدمية عقيمة الجدوى، تحث على مقاطعة التصويت، بعدما فشلت الدعوات الصاخبة إلى مقاطعة الترشح،بالزعم أن النتائج محسومة سلفا، وأنها مجرد تمثيلية تستهدف منح شرعية شكلية للانتخابات الرئاسية، كما اعتاد الترويج لذلك كل من يتعمدون قراءة الواقع المصرى من خارجه، والنظر إليه عبر أوهام التغيير المعدة سلفا، طبقا للطرق الوعرة والمكلفة، التى تجدد كل أوجاع ما جرى فى يناير 2011، وما أسفر عن زوابع الربيع العربى العاتية من نتائج، أشاعت من الفوضى والخراب والإرباك ما يدفع الشعب المصرى حتى اليوم أثمانه غالية، من أمنه وتقدمه واستقراره السياسى والاجتماعى.
وكما كان متوقعا، ومع بدء اللحظات الأولى لإعلان بعض من يرغبون فى الترشح أسماءهم، تصاعدت على منصات التواصل الاجتماعى، وعلى محطات التليفزيونات الفضائية الخارجية الشكوى من القيود المفروضة على حق المرشح وأنصاره فى الحصول على تزكية ما لا يقل عن عشرين نائبا من أعضاء مجلس النواب، أو جمع توكيلات المؤيدين له من نحو 217 مكتبا للتوثيق العقارى فى أنحاء الجمهورية، ونحو 116 مكتب بريد تقوم بالتوثيق نفسه، أما حين يفشل المرشح فى اجتياز عتبة جمع التوكيلات التى ينص عليها الدستور، وتقضى بجمع 25 الف توكيل من 15 محافظة بمعدل ألف توكيل على الأقل من كل منها، يصبح الحل هو التغريد خارج القواعد القانونية، للتغطية على عدم القدرة والعجز عن جمعها بشكل قانونى والذهاب إلى اختراع ما يسمى «التوكيلات الشعبية، بتحرير توكيلات مزورة والزج بمناصرى الحملة بطبعها فى مطابع خاصة، وتوزيعها ثم إعادة جمعها، وإعلان أرقام مبالغ فيها لعددها، لماذا؟ ليسهل كيل الاتهامات الجاهزة للهيئة الوطنية للانتخابات برفض استلام ما هو غير قانونى، بعدما تم التشهير بالسلطات التنفيذية بعرقلة الحصول عليها، ورفع مظلومية انحيازها لمرشح الدولة ونشر فيديوهات تصرخ وتهلل على وسائل التواصل الاجتماعى من قمع المرشحين، وعقد مؤتمرات صحفية امام كاميرات التصوير للتنديد بالحريات المهدرة، أما الخطوة التالية فهى التسرع، بوصم الانتخابات بأنها مزورة وخلت من الشفافية والنزاهة، بعد أن تكون هيبة الدولة قد نالها ما نالها من إسفاف الخطاب المصاحب لتلك الحملات، والذى لا يتورع عن إلصاق أبشع الصفات والممارسات والأقوال، وأكثرها كذبا وافتقادا للياقة، ليس فحسب ضد للمرشح المنافس، بل أيضا إلى مؤسسات الدولة ومن يديرونها!
أما الطريقة المألوفة والمحفوظة عن ظهر قلب، لتنفيذ ذلك وجنى ثماره، فهى دغدغة مشاعر المواطنين البسطاء واستغلال معاناتهم المعيشية، لتهيئتهم ذهنيا وإهاجة مشاعرهم الغاضبة، لتحريضهم على التحرك والعودة للنزول إلى الشوارع والميادين، بسرد روايات خادعة وأكاذيب وأوهام، تبشر أن هدم المعبد الذى يعانى من بعض التصدعات، على رؤوس من فيه، سوف ينقذهم من تلك المعاناة، ويحسن أحوالهم ويغمر حياتهم المعيشية بأنهار من العسل واللبن.
ولم يكن مفاجئا والاستعدادات تجرى لبدء حملة الانتخابات الرئاسية، أن ينتعش مجددا المخطط الغربى والأمريكى الذى لا يتوقف، من أجل إعادة جماعة الإخوان إلى المشهد السياسى فى مصر، بالزج بأحد الهواة من بين مناصرى هذا المخطط فى الداخل، لخوض الانتخابات الرئاسية، بعد أن كان قد منى -المخطط- بفشل ذريع، حين أُجبرت الجماعة على الخروج منه بثورة الثلاثين من يونيو الشعبية التى ساندها الجيش واحتضن مطالبها. ولم يغفر أصحاب المخطط الغربى لمصر وجيشها أن يلقى نجاح الثورة بظلاله على كل دول الأقليم، وتقود المشاريع الاصلاحية فى كل من من السعودية إلى تونس والمغرب، إلى تحجيم دور الجماعة ومعظم تيار الإسلم السياسى فى الحياة السياسية والاجتماعية..
لكن القوى الاستعمارية الغربية المفتونة بقوتها الباطشة، لم تفقد الأمل فى مواصلة فرض سياسة الهيمنة وتجاهل رغبات الشعوب واحتياجاتها الحقيقية فى التنمية والتقدم والعيش الآمن الكريم، فجاء إشهار سلاحها المفلول الذى يستخدم قضايا الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان للتدخل فى الشون الداخلية للدول التى ترفض الاملاءات والضغوط، وتكافح للحفاظ على قرارها المستقل، الأمر الذى يكشف عنه بوضوح البيان الصادرعن برلمان الأتحاد الأوروبى، الذى يفضح من يظن أنه يدافع عنهم، والمتبوع فى نفس اللحظة بموافقة الكونجرس الأمريكى على تجميد بعض المساعدات العسكرية لمصر بزعم الدفاع عن الحريات الديمقراطية. لكن الوعى الجمعى المصرى يدرك مغزى تلك التحركات باعتبارها غيضا من فيض مواصلة التمسك بالرغية الأمريكية فى صياغة مستقبل مصر السياسى على طريقة الربيع العربى، بخداع الشعب بسرد مصطلحات فضفاضة براقة عن الحريات والإنسان، بينما يكون الهدف نهب موارده وإضعاف قدرته وتغييب وعيه عبر من يوظفهم فى الداخل لينوبوا عنه فى تنفيذ مخططه، وليست هناك بيئة مواتية لتمريره، غير الفوضى والتشوش والكذب وخلط الأوراق!
ويأتى هذا الانتعاش بالرغم من حالات التشرذم والتفتت والضعف التى طالت التنظيم الدولى لجماعة الإخوان، وتراجع الحماية التركية عنه، واتساع حدة الانقسامات بين رموزه وقيادته فى الخارج واشتداد الصراعات فيما بينها، حول النفوذ القيادى والاحتكار المالى، وإدارة الشركات والاستثمارات التجارية التى يديرها فى عدد من الدول الأسيوية والأفريقة والأوروبية.
لكن الساعين للتشويش على الاستحقاق الانتخابى الرئاسى، لا يدركون أن المصريين يتعلمون من تجاربهم الأليمة، وأنهم سوف يستطيعون بوعيهم، وإدراكهم لحجم المخاطر التى تحيط بوطنهم، على إتمام هذا الاستحقاق بنسب مشاركة عالية فى التصويت، وبانضباط كامل يحرم الهواة العابرين على العمل السياسى من جنى مكاسب صغيرة، وهم يوظفون خيالهم المريض فى إشعال الحرائق، وهز الاستقرار الأمنى والأجتماعى، لأجل تنفيذ أجندات خارجية، لا مصلحة فيها لمصر ولا لشعبها!
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: على فكرة الحملات العدائية الضغوط الخارجية استحقاق انتخابي مقاطعة التصويت
إقرأ أيضاً:
الشيخ أبو اليسر عابدين.. حديث عن الطبيب والمفتي المنتخب
في حي سوق ساروجا الدمشقي رزق المفتي "أبو الخير عابدين" بمولود ذكر سنة 1889 سماه "أبو اليسر".
نشأ أبو اليسر عابدين في كنف والده الذي كان مفتيا في نهاية العهد العثماني وعزله الأمير فيصل عقب استقلال سوريا عن الدولة العثمانية.
الشيخ أبو اليسر طبيباتربى أبو اليسر في حلقات العلم الشرعي، فدرس الفقه والقرآن الكريم على يدي والده المفتي أبو الخير عابدين، كما تلقى علوم الشرع واللغة والمنطق على أيدي ثلة من أكابر علماء دمشق في زمانه، منهم الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ سليم سمارة والشيخ محمد أمين السويد.
ومن الملاحظ في تلقي أبو اليسر عابدين العلوم الشرعية هو تعدد المشارب إلى حد ما، فهو من أتباع الطريقة النقشبندية، بل غدا من أشهر شيوخها، ومع ذلك تلقى من عدد من العلماء من خارج دائرة مشايخ النقشبندية.
ومما تميز به الشيخ أبو اليسر عابدين عن عامة الوسط الشرعي في المدرسة الدينية التقليدية في زمانه أنه جمع إلى جانب علوم الشرع تخصصا علميا هو الطب البشري، وكان هذا لافتا في زمانه من أبناء المدرسة الدينية التقليدية عموما.
فهو بدأ عمله في القضاء الشرعي من عام 1920، وعين قاضيا شرعيا ابتداء في بعلبك سنة 1920 قبل أن ينفصل لبنان عن سوريا، وانتقل ليكون قاضيا شرعيا في عدد من مناطق دمشق، ورغم عمله فإنه درس الطب البشري وتخرج سنة 1926، وحصل على شهادة المعادلة الفرنسية "الكولوكيوم".
إعلانمارس الشيخ أبو اليسر عابدين الطب على مدى 30 عاما، بل إنه مارس التدريس في كلية الطب البشري في جامعة دمشق، وعندما افتتحت كلية الشريعة في جامعة دمشق سنة 1955 عمل فيها مدرسا لمادة أصول الفقه ومادة النحو.
قل في ذلك الزمان أن تجد عالما يدرس الفقه والأصول والنحو في الجامعة ويمارس الخطابة في المسجد وهو في الوقت ذاته أستاذ في كلية الطب البشري، ويمارس أيضا الطب في عيادته.
ومما تميز به الشيخ أبو اليسر عابدين على أقرانه عموما وعلى المنتسبين إلى المدرسة الدينية التقليدية ما يتعلق باللغات، فإلى جانب إتقان الشيخ أبو اليسر العربية إتقان المعلم لا المتعلم، فقد أتقن أيضا بشكل تام اللغة الفرنسية واللغة التركية، وكان متقنا أيضا اللغة الفارسية متبحرا في آدابها، ويحفظ الكثير من أشعارها.
إذن فنحن نتحدث عن شخصية مختلفة عن النسق العام للمؤسسة الدينية التقليدية في مختلف بلاد العالم الإسلامي وفي سوريا على وجه الخصوص، شخصية لها قدم راسخة في مجال علوم الشريعة حتى غدت رمزا علميا يشار إليه بالبنان، وإلى جانب ذلك أستاذ في الطب وجامع للغات ضليع بها وبآداب الشعوب.
الشيخ أبو اليسر عابدين مفتيايقول الشيخ علي الطنطاوي، وهو من أخص تلاميذ الشيخ أبو اليسر، في "الذكريات": "فلما دخلت كلية الحقوق كان يدرس لنا الأحوال الشخصية الشيخ أبو اليسر عابدين، وهو عالم واسع الاطلاع، عالي الهمة، كان يعيش للعلم، يقرأ ويقرئ نهاره وليله، يكتب كل ما يجد في الكتب من غرائب المسائل في الفقه وفي الاجتماع وفي الأدب وفي التاريخ، ويدون كل ما يخطر على باله مما ينفع الناس، ولم تكن العوائق لتعوقه عن طلب العلم مهما طال الطريق وتوعرت المسالك، أراد وهو كبير أن يدرس الطب فاقتضاه ذلك تعلم اللغة الفرنسية فتعلمها ودخل كلية الطب مع تلاميذه ومن هم في سن أبنائه، وثبت على الدراسة فيها حتى خرج منها طبيبا، وكانت له عيادة يطبب فيها المرضى كما كان يفتي المستفتين، ثم صار مفتي الشام، أي مفتي الجمهورية السورية، وكان أبوه من قبله الشيخ أبو الخير مفتي الشام، وعم أبيه هو صاحب الحاشية ابن عابدين؛ أفقه حنفي ظهر من نحو 150 سنة".
إعلانعقب وفاة المفتي الشيخ شكري الأسطواني اجتمعت هيئة المفتين والمجلس الإسلامي الأعلى لانتخاب المفتي يوم الثاني عشر من حزيران "يونيو" من عام 1954م فانتخبوا بالإجماع الشيخ "أبا اليسر عابدين" مفتيا للجمهورية السورية.
عقب انتخابه مفتيا توقف الشيخ أبو اليسر عن العمل في الطب وتفرغ للإفتاء والتأليف والتدريس الشرعي، واستمر في الإفتاء حتى عام 1963 وقعت خلالها أحداث ومواقف تحتاج إلى تفصيل.
من المهم ذكره عند الحديث عن المفتي الشيخ أبو اليسر عابدين أنه كان غزير القلم، فقد ألف العديد من الكتب تزيد على 30 كتابا في أبواب مختلفة، وأثار بعضها قضايا شائكة، ومن مؤلفاته "أغاليط المؤرخين" و"لم سمي؟" و"رسالة في القراءة والقراءات" و"كتاب الأحوال الشخصية" و"أحكام الوصايا" و"الأصول والكليات" و"الألفاظ اللغوية الطبية" و"الرداف اللغوية للألفاظ العامية" و"أكاذيب مسيلمة الكذاب الذي عارض به كلام الله تعالى" و"قرة العيون فيما يستملح من المجنون"، وغيرها.
وكان الشيخ أبو اليسر عابدين يملك من سعة العلم والاطلاع ما يستهجن من أبناء عصره، وقد قال في ذلك الشيخ علي الطنطاوي: "وكان الشيخ أبو اليسر محيطا بالمذهب الحنفي إحاطة عجيبة مطلعا على كتبه كلها، ولولا أنني أعرفه بملازمتي إياه سنين طوالا لشككت إن حدثني محدث بما أعرفه عنه، ولقد أرسلت إلي إحدى المكتبات العامة هنا من صورة عن كراس مخطوط في الفقه ماله عنوان وما عليه اسم المؤلف ولا تاريخ النسخ، فلم أعرفه، فكلمت شيخنا بالهاتف من مكة وتلوت عليه فقرأت من الكتاب؛ فعرفه وسمى مؤلفه، ثم تحققت أن ما قاله الشيخ هو الصحيح".
مر الشيخ أبو اليسر عابدين بمواقف كثيرة وقد عاد إلى مسجده "جامع الورد" عقب عزله عن الإفتاء عام 1963، وبقي فيه إلى وفاته عام 1981 عن عمر ناهز 92 عاما.
ولكن ماذا عن مواقف الشيخ أبو اليسر عابدين من الأحداث الكبيرة التي تعاقبت على سوريا؟ فكيف كان سلوكه في الثورة السورية الكبرى؟ وما موقفه من الملك فيصل؟ وما دوره في حرب فلسطين عام 1948؟ وماذا كان موقفه إبان العدوان الثلاثي على مصر؟ وما حقيقة المواجهة بينه وبين جمال عبد الناصر؟ وكيف تعامل معه حزب البعث عقب استيلائه على السلطة؟ كل هذه الأسئلة نجيب عنها بإذن الله تعالى في المقال القادم.
إعلان