هل المشاركة في المجلس الوطني للاسلامويين تشكل هبوطا ناعما؟
تاريخ النشر: 13th, October 2023 GMT
واصل الصديق العزيز أحمد عثمان حواره المحفز للتفكير والنقاش. جاء مقاله الثالث بعنوان "إستراتيجية الهبوط الناعم جوهرها الحفاظ على التمكين، وكل من يدعو إليها يحافظ عليه وإن حسنت نواياه!! " كرد على مقالي الذي عنونته " استراتيجية الهبوط الناعم: الفكرة والمقترح وكيف تحولت لسبة؟ رغم طرحه البين لمفهوم الهبوط الناعم، واجتهاده لربط مواقف قحت، كلها، سابقا وحاليا، بل ومستقبلا بالهبوط الناعم، الأمر الذ يتناقض مع الفكر الماركسي الذي ينتمي اليه.
كتبت في مقالي السابق عن استراتيجية الهبوط الناعم، ما يلي:
" لعب السفير برينستون ليمان (وكان مبعوثا خاصا للإدارة الامريكية في السودان) دورا محوريا في صياغة الاستراتيجية. كتب برينستون في ورقة نشرها معهد السلام الأمريكي، حول المشروع، اقتطف منها بعض الفقرات:
(بعد عامين من فقدان السودان لربع عدد سكانه ومساحته، يظل البلد في أزمة كبيرة، لم يسفر انفصال الجنوب عام 2011 عن تسوية النزاعات طويلة الأمد في السودان. فمنذ ذلك الوقت يواجه الرئيس عمر البشير تمردا مسلحا يتزايد قوة، وانقسامات داخلية، ومحاولات للانقلاب عليه من قبل عناصر من الجيش. ولقد حان الوقت لان يشرع السودان في حوار داخلي حقيقي وعملية إصلاحية تؤدي الى حكومة ممثلة لقاعدة واسعة وديمقراطية وقادرة على السعي نحو مصالحة مجدية بين السودانيين)
جوهر السياسة هو عدم ثقة الامريكان في قدرة الحكومة على حل مشاكل السودان المزمنة، والتي تزداد تأزما. وفي نفس الوقت عدم ثقة في قدرة المعارضة المسلحة والمدنية على هزيمة النظام.، مما يشكل خطرا بانهيار البلد، تماما. فالهدف، آنذاك، كان إجراء مصالحة لإخراج السودان من ازماته المتطاولة وحروبه الاهلية المدمرة عن طريق مصالحة مجدية بين السودانيين. لم أكن من أنصار الهبوط الناعم، حينذاك والآن. فقد كتبت عدة مقالات في حوار مع الأستاذ السر سيد أحمد عندما طرح المشاركة في انتخابات 2020. كانت مقالاتي بعنوان " الأولويات المقلوبة". تعرضت فيها لعدة قضايا أولها المشاركة ثم تساءلت، في مقال، عن هل احزابنا جديرة بقيادة التغيير القادم في السودان، وكرست مقال آخر لقوى المستقبل وحددها في الشباب والنساء، وها هو مقتطف من المقال عن الحركة النقابية وتنبأت بأنها ستقود التغيير القادم، أعيد ما سبق ان نشرت لتوضيح رفضي المؤكد للهبوط الناعم، عندما كان يشكل افقا للتغيير لبعض المخلصين من أبناء شعبي. كتبت ما يلي:
" وصفت في الحلقات السابقة الحوار حول الانتخابات بالألويات المقلوبة، لأنه قفز فوق المهام العاجلة امام شعبنا، واهمها الازمة المعيشية والاقتصادية، وإيقاف الحرب وتوفير الحريات الاساسية. وان الحوار يصب في خانة ما يريده النظام بمحاولته الظهور بالمظهر الديمقراطي الذي يتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع. وناقشت اراء الداعين للمشاركة والرافضين لها. وبدأت في نقاش أدوات التغيير وبدأت بالحركة النقابية. وعددت في المقال السابق الأسباب التي أدت لضعف الحركة النقابية وهي: القوانين والتشريعات، تصفية القطاع العام، عسكرة الاقتصاد، التشريد الجماعي، الهجرة الواسعة، القبضة الأمنية الشاملة، روح اليأس من النقابات، ضعف وانقسام المعارضة، الازمة الاقتصادية".
هذا المقتطف يوضح موقفي المبدئي من الاستراتيجية عندما طرحت، لأنني أؤمن بقدرة شعبي على هزيمة الدكتاتورية الاسلاموية. لكن، ثورة شعبنا في ديسمبر قلبت موازين القوي. وتخطى الزمن استراتيجية الهبوط الناعم، لأن الجهة التي خططت له لم تفهم حركة الجماهير السودانية وخبراتها النضالية. لقد تفاجأوا بعظمة ثورتنا. بل، صار من كانوا ينظرون له في مراكز الدراسات يتحدثون ويدعمون قيام حكومة مدنية كاملة، وهو ما تبنته الحكومة الامريكية بصراحة، مؤخرا.
الصديق احمد عثمان في وصفه للهبوط الناعم يعتبر الاجتماعات المشتركة مع العسكر أو الشراكة أو حتى الاتفاق الاطاري هبوطا ناعما كامل الدسم. إذا قبلنا كل ذلك، فماذا يسمي الصديق أحمد مشاركة الحزب الشيوعي بثلاثة نواب في المجلس الوطني وهو السلطة التشريعية آنذاك؟ السلطة التشريعية هي أحدي السلطات الثلاثة التي تقوم عليها الدولة الحديثة. تقسم السلطة في الدولة الحديثة بحيث تقوم السلطة التشريعية بسن القوانين، وتقوم السلطة التنفيذية بتنفيذها وتطبيقها، وتقوم السلطة القضائية بالعمل على فض المنازعات. هل نسمي تلك المشاركة هبوطا ناعما، أم، كما أري، تكتيك سياسي في الصراع مع الدكتاتورية؟
علينا متابعة التطورات السياسية في الساحة السودانية، كما علينا الضغط على كافة القوى السياسية من أجل تصحيح أخطاء الماضي، التي تلقي بعبئها الثقيل على الحاضر. هذا مثال على بداية في تصحيح المسار وتخطئ العثرات. ولنقرأ، بذهن مفتوح، ما قاله الواثق البرير، القيادي بالحرية والتغيير، في لقاء مع العين الإخبارية ونشرته الراكوبة يوم 6 أكتوبر الحالي:
" رؤيتنا للحل السياسي مبنية على أساس إنهاء القتال واستعادة الانتقال المدني وذلك عبر مرحلتين، الأولى إيقاف القتال وتسهيل العمليات الإنسانية وفتح الممرات الآمنة للمواطنين والمنظمات التطوعية واستعادة المؤسسات الخدمية والفصل بين القوات، عبر خريطة الطريق التي طرحتها الوساطة السعودية الأمريكية.
والثانية: هي الانتقال إلى عملية سياسية مكتملة ومتوافق عليها شاملة كل القوى السياسية والمدنية الداعمة لوقف القتال والتحول الديمقراطي من أجل الاتفاق على مشروع وطني يخاطب جذور الأزمة ويضع الحلول، ويؤسس لبناء الدولة وإعادة الإعمار والإصلاح المؤسسي، وعلى رأسها الإصلاح الأمني والعسكري الذي يؤدي لبناء جيش قومي مهني موحد وإنهاء كافة مظاهر المليشيات وإبعاد القوات المسلحة من العمل السياسي والاقتصادي والالتزام بمهامها الدستورية واستكمال الفترة الانتقالية وصولا لانتخابات حرة ونزيهة."
اليس هذا التصريح مقنعا لقوى التغيير الجذري لتأتي مع الجميع الى طاولة مستديرة للحوار، ويطرحوا رؤيتهم للمهام الراهنة والعاجلة حول الحرب، ويستمعوا لرؤى الآخرين. ثم تأتي الخطوة الأهم وهي الاتفاق على أسس مشروع قومي يجمعنا كشعب يعيد بناء بلاده؟
لن امل من تكرار قولي بأن لا صوت يعلو على صوت لا الحرب، ولا أولوية تأتي قبل أسبقية انهاء الحرب، ولن نتنكر لصوت الملايين: لازم تقيف.
siddigelzailaee@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.
ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.
هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.
فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.
لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.
أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.
وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟
في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.
إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.
لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري