صالح النعامي للجزيرة نت: المجتمع الإسرائيلي أصيب بالصدمة ولن يتعافى منها قريبا
تاريخ النشر: 12th, October 2023 GMT
قال الباحث في الشأن الإسرائيلي الدكتور صالح النعامي إن هناك حالة من الصدمة أصيب بها المجتمع الإسرائيلي، وحتى هذه اللحظة لم يتعاف منها، ولن يتعافى بعد وقت طويل جدًا، عقب عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي قُتل إثرها حتى الآن مئات الإسرائيليين.
وأضاف النعامي -في حوار خاص مع الجزيرة نت رغم القصف العنيف الذي يتعرض له قطاع غزة في هذا الوقت، وصعوبة التواصل مع العالم الخارجي- أن النخب الثقافية في إسرائيل تشعر بالمهانة والكرامة المهدورة، ولذلك فإنها تتبنى خطابا يدعو إلى تكثيف القصف على غزة وتسويتها بالأرض، أو على الأقل سحق حركة حماس والقضاء على جهازها العسكري.
وأشار النعامي إلى أن عملية "طوفان الأقصى" وجّهت ضربة قوية لأنصار التطبيع، وأن ظهور إسرائيل بهذا الضعف يمكن أن يقلص دافعية بعض النظم إلى التطبيع معها، لأن الرهان على ذلك كان يعتمد على قوة إسرائيل، والتعاون معها بات غير ذي مغزى بعدما تلقت هذه الضربة القوية من تنظيم دون مستوى الدولة.
كما تحدث عن جوانب متعددة تتعلق بالبنية الفكرية والأيديولوجية داخل المجتمع الإسرائيلي، وطبيعة التنافس الداخلي بين النخب السياسية والدينية، وصراعها من أجل تشكيل الهوية الإسرائيلية. وإليكم تفاصيل الحوار..
ما تأثير النخب الإعلامية والأكاديمية والثقافية بإسرائيل في المشهد الحالي؟من الصعب الحديث عن شريحة واحدة متجانسة في ما يتعلق بالنخب الثقافية وغيرها من النخب مما يجري حاليا. طبعا الأغلبية الساحقة ترفع وتتبنى خطاب الحرب بعد نجاحات كتائب عز الدين القسام في عملية "طوفان الأقصى"، وهذا يعني أن هناك شعورا بالمهانة، والرد على ذلك يكون عبر خطاب استعادة هذه الكرامة المهدورة من خلال جباية ثمن باهظ تدفعه غزة عبر تكثيف القصف عليها وحرقها وتسويتها بالأرض، أو على الأقل سحق حركة حماس والقضاء على جهازها العسكري. وطبعا هذه هي الأغلبية الساحقة، بما في ذلك النخب التي كان يمكن تصنيفها ضمن النخب اليسارية، التي باتت بدورها تتبنى هذا الخطاب.
وهناك في المقابل نخب أخرى -وإن كانت كما قلت تمثل أقلية لكنها قائمة- تقول إن الأولوية يجب أن تمنح لاستعادة الأسرى، وإن مسألة الانتقام من غزة لن تكون حلا، لأن غزة ستبقى وشعب غزة سيبقى، وحتى لو قضينا على حركة حماس فمن الطرف الثاني الذي سيتولى زمام الأمور في اليوم التالي؟ هذا فضلا عن الثمن الباهظ الذي ستتكبده إسرائيل في حال إتمام العملية البرية التي يتحدثون عنها.
ورغم ذلك يعود الطرفان ويقران بأن إسرائيل مُنيت بهزيمة كبيرة بعد عملية "طوفان الأقصى".
هل معنى ذلك أن نظرة النخبة الثقافية والسياسية في إسرائيل تغيرت بعد العملية الأخيرة للمقاومة الفلسطينية؟نعم، هناك تغير في زيادة منحى الدعوة إلى العدوان وإبادة غزة بشكل واضح وأكثر من ذي قبل، وطبعا هذا كان مفهوما من نخب الوسط واليمين، لكن بعد عملية "طوفان الأقصى" انضم إليهما كثير من نخب اليسار، مع بقاء قلة قليلة من هذا اليسار ما زالت تتبنى خطابا عقلانيا لا يراهن على استخدام القوة، ومحاولة التوصل لصفقة لإنقاذ الأسرى.
هناك حالة شعبية من انعدام الثقة والعجز في مؤسسات الدولة والجيش والحكومة، التي فشلت في إحباط عملية "طوفان الأقصى"
كيف استجاب المجتمع الإسرائيلي لحالة الحرب التي فرضت عليه للمرة الأولى منذ نحو 50 عاما؟الحالة المجتمعية تكون أكثر تعقيدا من حالة النخب؛ فهناك حالة من الصدمة أصيب بها هذا المجتمع، وحتى هذه اللحظة لم يتعاف منها، ولن يتعافى بعد وقت طويل جدًا، وهناك حالة شعبية من انعدام الثقة والعجز في مؤسسات الكيان؛ الدولة والجيش والحكومة. وهذه الحالة واضحة من خلال المتابعة اليومية لوسائل التواصل الاجتماعي وهي كلها تعبر عن هذا العجز وعدم اليقين، وهناك من عبر عن ذلك أيضا بمغادرة إسرائيل.
لكن من ناحية المقاومة، فهذا المجتمع يدعو أيضا إلى الرد بقوة وحزم ويدعم الإبادة؛ وإن كانت هذه الدعوات تظهر في خلفيتها حالة الشعور بالعجز وعدم الثقة في الجيش والحكومة اللذين فشلا في تأمين هؤلاء وتسببا في إحباط، وفشلا في إحباط عملية "طوفان الأقصى"، أو على الأقل تقليص الخسائر التي لحقت بهذا المجتمع جراء هذه العملية.
كيف رصدت مراكز البحث الإسرائيلية والصحف اليومية رد فعل الشارع العربي في ما يتعلق بـ"طوفان الأقصى"؟قد يكون من السابق لأوانه أن تصدر مراكز الأبحاث تقارير ودراسات تتعلق بهذا، لأن هذا يحتاج إلى بعض الوقت، باستثناء القليل الموجود حاليا، ويغلب عليها الدعوة إلى استغلال هذه المواجهة في القضاء على حركة حماس، وتقريبا هذه الدعوات تتبنى نفس خطاب الفريق الأول الذي سبق أن تحدثنا عنه، وإن كان يتم تزيينه لاعتبارات إستراتيجية وسياسية. لكن بشكل عام لا خلاف بين المراكز البحثية في تبني الخطاب المتشدد؛ لأن كثيرا من الباحثين فيها من متقاعدي الجيش والسلك الدبلوماسي.
أما الصحف اليومية فهناك مقالات تنتقد المواقف في بعض البلدان العربية، وترصد المقالات والتقارير المنشورة هناك. وهذه الصحف تخلط بين مواقف الشارع العربي ونظم الحكم؛ لأن الهجوم على إسرائيل في بعض الوسائل العربية لا يعكس بالضرورة رأي الأنظمة العربية، ولكنها تحاول أن تسقط هذا الموضوع على مواقف بعض الحكومات العربية.
ما تأثير "طوفان الأقصى" على صفقات التطبيع التي تخطط لها إسرائيل؟لا خلاف حتى في إسرائيل على أن عملية "طوفان الأقصى" وجهت ضربة قوية لأنصار التطبيع، وتحديدا الدول التي كانت تستعد لبدء التطبيع مع إسرائيل، وهذا الحريق المشتعل الآن طبعا سيقلص مصوغات ومبررات التطبيع مع الكيان الصهيوني، كما أنه سيقلص قدرة نظم الحكم التي طبعت بالفعل -مثل الإمارات والبحرين- وعلى ما يبدو أن هذا الموضوع خارج من حساباتهم.
وهناك أيضا نقطة مهمة يشير إليها بعض الباحثين في إسرائيل وهي أن ظهور ضعف إسرائيل بعد هذا العملية أصلا يمكن أن يقلص دافعية بعض النظم إلى التطبيع معها، لأن الرهان على التطبيع كان يعتمد على قوة إسرائيل والتعاون معها بات غير ذي مغزى بعدما تلقت إسرائيل هذه الضربة القوية من تنظيم دون مستوى الدولة، وبشكل عام لا يوفر كل ذلك بيئة لتطوير مسار التطبيع.
هل النخبة الثقافية والسياسية التقليدية في إسرائيل تتوارى الآن خلف جماعات اليمين الديني المتطرف؟بداية، عملية "طوفان الأقصى" أثرت سلبا على مكانة اليمين المتطرف وخطابه، لأن هناك انتقادات شديدة حاليا لهذه النخبة داخل المجتمع الإسرائيلي، إذ أن هذا الخطاب المتشدد لم يعكس جوهرا عمليا في الواقع، وهذه النخبة معنية فقط بالاعتبارات الأيديولوجية التي أثرت سلبا على الاهتمام بالقدرات العسكرية للجيش، فالكثير من القوات التي كان من المفترض أن تكون في محيط غزة تم نقلها إلى الضفة لحماية المستوطنات؛ خدمة لأهداف هذه النخبة الدينية المتشددة، وهناك اتهام بالفشل وأنهم مجرد هواة؛ ومن ثم تراجعت مكانة هذه النخبة بعد عملية المقاومة الأخيرة، ونحن ما زلنا نتحدث عن بداية تداعيات هذا الأمر.
الرهان على التطبيع كان يعتمد على قوة إسرائيل والتعاون معها بات غير ذي مغزى بعدما تلقت إسرائيل هذه الضربة القوية من تنظيم دون مستوى الدولة.
لكن على الجانب الآخر، فإن هؤلاء يستفيدون بشكل عام من معطيات لا علاقة لها بالتعديلات القضائية أو تداعيات "طوفان الأقصى"، لأن هناك معطيات ديموغرافية تخدم هذا الجناح الديني، وذلك استنادا إلى 3 كتل ديموغرافية مهمة:
المتدينون الحريديم؛ فهؤلاء متوسط الإنجاب لديهم نحو 7 ولادات؛ وبالتالي يزداد عددهم كل عام ومن ثم يزداد نفوذهم السياسي، وفي النهاية هناك الانتخابات. اليهود الشرقيون الذين يصوّتون تقليديا لليمين الديني المحافظ أو اليمين الديني المتشدد، بغض النظر عما يحدث. اليهود الجدد من روسيا أو من الدول التي كانت تحت الاتحاد السوفياتي.لذلك فاليمين الديني يستفيد من هذا المعين الديموغرافي، ومن ناحية تراجعت مكانتهم بسبب التعديلات القضائية وبسبب أدائهم، لكن في المقابل هم يستفيدون من هذه الحقائق الديموغرافية التي تلعب لصالحهم.
في ضوء هذا.. ما أفق الوصول لتسوية تنهي ما بدأته عملية طوفان الأقصى؟المأزق الحالي لإسرائيل يتعلق بالحقائق على الأرض، وقدرة الجيش على تحقيق الأهداف من الحرب على غزة، لكن التأثير سيكون في شراسة العدوان. وفي النهاية هناك محاذير ليست لها علاقة بالعوامل الأيديولوجية؛ مثل مسألة الكلفة التي يتكبدها الاحتلال أثناء العدوان، والتفكير في ما لو انفجرت جبهة ثانية كالجبهة اللبنانية، فهذا ليس له علاقة بالتباينات الأيديولوجية والرؤى الفقهية داخل مجتمع النخبة في إسرائيل، بل الأمر منوط بالحسابات الإستراتيجية ومسألة الربح والخسارة بالنسبة للكيان الصهيوني.
المتدينون الحريديم متوسط الإنجاب لديهم نحو 7 ولادات؛ وبالتالي يزداد عددهم كل عام ومن ثم يزداد نفوذهم السياسي.
هل ما قامت به المقاومة بعملية "طوفان الأقصى" سينال مباشرة من رصيد اليمين المتطرف؟صحيح، من الآن يتم تحميل نخب اليمين نتائج هذه العملية؛ مثلا لرئيس الحركة الصهيونية الدينية، ووزير الأمن القومي الذي يقود حركة القوى اليهودية وجماعات الحريديم، وبالطبع يحملون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كمسؤول أول ومباشر.
وهذا طبعا جاء بشكل لحظي، وسيسحب من رصيدهم، لكن على المدى البعيد فإن هؤلاء يستفيدون من حقائق ديموغرافية تخدمهم كما سبق أن قلنا.
وأمر مهم آخر، أن الذين يوجدون في مقابل هذه النخبة الدينية المتطرفة ليسوا من اليسار، لكننا سنجد يمين ديني متطرف ويمين علماني؛ فكل الخيارات الآن داخل المجتمع الإسرائيلي هي ضمن اليمين كلها، وليست بين يمين ويسار؛ وعلى هذا الأساس يصبح التنافس بين اليمين نفسه.
بعد هذه الحرب، هل سنشهد تغيرا في معادلة التحالف بين اليمين العلماني واليمين الآخر المتطرف؟عمليا لا توجد فوارق كبيرة بين اليمين العلماني وغيره المتطرف من الناحية الأيديولوجية، وتكمن المشكلة في اليمين الديني المتطرف أنه يطرح قضاياه من باب ترفي ومن مواقف ذات جنون متطرف تكلف الكيان الصهيوني أثمانا باهظة بدون أن يكون لها مردود سياسي أو اقتصادي أو عسكري. فهذه الأحزاب الموجودة الآن على الساحة كان ضررها أكبر من نفعها وتحديدا بعد عملية "طوفان الأقصى".
وعموما، هذه المسألة تحديدا تحتاج إلى صبر وتريث حتى نحكم بشكل واضح على انعكاس هذه العملية على موازين القوى السياسية والحزبية داخل إسرائيل. لأن ذاكرة الإسرائيليين قصيرة، وكذلك العامل الديموغرافي مهم جدا في تغليب كفة هؤلاء أو غيرهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المجتمع الإسرائیلی طوفان الأقصى فی إسرائیل التطبیع مع هذه النخبة حرکة حماس هناک حالة بعد عملیة التی کان
إقرأ أيضاً:
معارض الكتب.. الكلمة التي تبني وطنا
في زمن تُقاس فيه التحوّلات بالتنمية المادية، وتُقاس فيه النجاحات بعدد المشروعات والمنجزات الملموسة، هناك ما يحدث في كثير من الهدوء وبعيدا عن الضجيج وعن المؤتمرات السياسية والاقتصادية وعن تفاصيل الإنجازات اليومية، لكنه أكثر رسوخا وأبعد أثرا.. إنه بناء الوعي.
ومن بين أكثر أدوات هذا البناء فاعلية وعمقا، يمكن الحديث عن معارض الكتب، الفضاءات التي تبدو ـ للوهلة الأولى ـ أسواقا أو دكاكين للبيع، ولكنها، في عمقها الحقيقي، مؤسسات للنهضة الصامتة، وجبهات مقاومة فكرية في مواجهة التفاهة، وهيمنة الاستهلاك، وتآكل الجوهر في هذا الزمن الرقمي.
ومعرض مسقط الدولي للكتاب، الذي يفتح أبوابه اليوم في دورته التاسعة والعشرين، هو أحد تلك الحالات المجتمعية النادرة التي تراكم فيها الوعي العماني على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، وارتسمت عبرها ملامح الأجيال التي قرأت وتناقشت واختلفت وتحاورت بين أروقته وفي قاعات فعالياته.
لقد تحول المعرض، عاما بعد عام، إلى مرآة غير مباشرة لأسئلة المجتمع الكبرى: ما الذي يشغل العمانيين؟ ما نوع المعرفة التي يبحث عنها الشباب؟ كيف تتغير اهتمامات الفئات العمرية المختلفة؟ وفي أي اتجاه تمضي أذواق المجتمع الثقافية؟ هذه الأسئلة لا تُجيب عنها استطلاعات الرأي، وهي غائبة أصلا، بقدر ما تجيب عنها عناوين الكتب التي تم بيعها، وخرائط الزحام أمام دور النشر، وحوارات الزوار في الزوايا والأجنحة.
لكن معرض مسقط الدولي للكتاب الذي يفخر به العمانيون باعتباره أحد أهم معارض الكتب في العالم العربي وباعتباره الحالة الثقافية التي تعكس حقيقة وعمق المجتمع العماني ليس تظاهرة ثقافية آنية، إنه بكثير من المعاني مختبر مجتمعي لقياس الوعي والذائقة العامة، ورصد تحوّلاتها. وفي كل دورة كان المعرض يقدم، دون أن يصرح، مؤشرا سنويا لوعي المجتمع ومسارات الحرية الثقافية عبر مستويات البيع ومستويات التلقي للكتب الفكرية والروائية والأطروحات السياسية والفكر الديني والكتاب النقدي الذي يتجاوز القوالب الجاهزة، وكذلك عبر قياس مستوى تنوع فئات المجتمع الذين يرتادون المعرض.
وما بين عشرات الملايين من الكتب التي انتقلت من أرفف الدور إلى أيدي القرّاء، كانت تتشكل سلسلة ذهبية من الوعي: قارئ يطرح سؤالا، وناشر يستجيب، وكاتب يكتب، ومجتمع ينمو. وبهذه الطريقة تبنى النهضات الثقافية والفكرية الحقيقية والعميقة بعيدا عن الشعارات الكبيرة ولكن بتراكمات صغيرة بفعل القراءة، ثم التأمل، ثم النقد الحقيقي.
وكل من آمن بالكتاب ودافع عن مكانته، وشارك في صناعته أو نشره أو قراءته، كان يضع حجرا مكينا في مسيرة بناء وعي المجتمع العُماني، ذاك الوعي الذي لا يُرى لكنه يُشعر، ويُقاس بمدى قدرة المجتمع على طرح الأسئلة بدلا من استهلاك الأجوبة الجاهزة.
ولذلك فإن الذين سيحتفلون في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض صباح اليوم إنما يحتفلون بما صار يمثله المعرض في الوجدان الجمعي من كونه مركزا للمعرفة وساحة للحوار، وفضاء واسعا لأحلام الجميع.. وهذا الفعل أحد أهم أدوات المقاومة في زمن رقمي قاسٍ يستهلكنا أكثر مما يعلّمنا؛ ذلك أن أمة لا تحتفي بكلمة، لا تبني مستقبلا. ومعرض الكتاب ليس احتفالا بالورق، بل احتفاء بالعقل، وبما يجعلنا بشرا في عالم واسع يُصادر فينا إنسانيتنا كل يوم.