التّعالُق المجازي بين الذات والموضوع
تاريخ النشر: 12th, October 2023 GMT
آخر تحديث: 12 أكتوبر 2023 - 10:44 صعبد علي حسن منذ زمن ليس بالقصير ربما يمتد إلى أزمان تضرب في عمق التاريخ البشري، والإنسان يحاول أن يجعل العلاقة بينه وبين الموجودات الأخرى التي تشاركه الحياة من نبات وحيوان وجماد وأخرى معنوية وحتى رموزه الدينيّة التي اتخذت توصيف الآلهة في الأحقاب الوثنية والأسطورية حاول أن يجعل تلك العلاقة أنموذجية ترتقي إلى مستوى محو الحدود لتغدو ذاته هي ذات تلك الموجودات، يجري كل ذلك عبر تحريك المشترك بينها وبين ذاته وفق علائق مجازية تكسبها حياة تقترن بحياة الإنسان، فكانت الأنسنة التي امتدت صلاتها وآفاقها الفكرية والعلمية إلى شتى مناشط الإنسان، ومنها الأدب شعراً ونثراً.
والأنسنة تعني وفق المفاهيم الشائعة لغة واصطلاحاً، البحث عن صفات الإنسان في الكائن المغاير له فيزيولوجيا، سواء كان ملموساً كالحيوان والنبات والجماد أو غيبيّاً كالمفاهيم والأشياء المجردة، ومن ثمَّ هي كل من يخلع عليه صفة بشريّة، أو يمثله في صورة بشريّة، بما في ذلك إسناد الفعل البشري له، عبر تقنية المجاز التي عرفت بها لغة العرب، ويمكن تقصي ذلك في آداب وادي الرافدين وشعر ما قبل الاسلام وفي القرآن الكريم وقصص الحيوان التي شكّلت الموروث السردي والشعري العربي.
إنَّ هذه الصلة بين الإنسان وسائر الموجودات تشكّلُ تعالقاً مجازياً بين الذات الإنسانيّة والموضوع الذي يتشكّلُ من المحيط الحافّ بالإنسان وفعله وتفكيره، وهنا تتجلّى رغبة الإنسان في أن تشاركه الأشياء في تكوين منظوماته الجماليّة والفكريّة وموقفه منها، ومن خلال هذا التعالق المجازي الذي يقدم فيه النص الشعري نفسه على أنّه نص شمولي يخرج من منطقة اللحظة الشعرية المقترنة بزمان ومكان معينين إلى فضاء لا زمكاني أوسع ليصل إلى التعبير عن مكنونات الذات الشعريّة مستعيراً المفاهيم القارّة للأشياء الحافّة به فيؤنسنها لتتوحد تلك المفاهيم التي يقوم النص بتحريكها عبر التقويل والتفعيل للصفات الإنسانية واسباغها على تلك الأشياء، وسيتبدى ذلك في تحليلنا لبعض من نصوص الكتاب الشعري (أغاني الصموت) اصدار دار الصواف للطباعة والنشر/ 2018 للشاعر ولاء الصوّاف الذي سبق وأن أصدر ديوانه الأول (كاميكاز) 2000، و(كفن شهريار) 2007 و(كلب ينبح فوق الغيم) 2022، إذ تضمن كتابه الشعري موضوع البحث موضوعة الأنسنة في العديد من نصوص المجموعة التي اخترنا منها ثلاثة نصوص لتكون عينة لمعالجته موضوعة العلاقة بين ذاته الشاعرة وما يحيط به من نبات أو حيوان أو جماد أو مفاهيم مجردة لتدخل في تعالق أسهمت تقنية المجاز البلاغي في تخليق وحدة وجوديّة بين الذاتي والموضوعي تجلّت فيها البنية الشعرية على نحو مؤثر وجمالي فضلاً عن تحقيقها الابعاد الفكرية التي تنفرد بها الذات الشاعرة عبر توسّلها بالموجودات الموضوعية لتتحدث وتفعل في فضاء شعري يتجاوز المحسوس والملموس إلى ما هو أبعد من الحقائق الفيزيقية المنظورة وصولاً إلى وضع المتلقي في دائرة تأويلية تنتج فيها نصوص المتلقي.ففي نص (أرجوحتي) نقرأ ما يلي: (منذُ خمسينَ قطافاً أو يزيد/ أهزّها مرةً/ وصوتُ الحربِ يهزّها ثانية/ تأخُذني للغيم/ وتُعيدُني إلى الأرضِ الحرام.. النص ص 7).
في النص السالف تشكّلُ الأرجوحة بنية مركزية ذات دلالة تشير إلى قوّة إرادتها مقابل الإرادة المسلوبة للذات الشاعرة، ولتأكيد هذه السلطة والإرادة فإنّ النص يسندُ إلى الأرجوحة فعل (الأخذ) و(الإعادة)، وهذان الفعلان يشيران إلى حركة الصعود والنزول المعهودة في الأرجوحة، إلّا أنّ الذات الشاعرة تسند فعلاً واعياً ينسجم وتجربة الحرب التي تخوضها الذات، فتبدو عملية الأخذ فعلاً مقصوداً وكذلك عملية الإعادة، وكأنَّ الأرجوحة بهذين الفعلين إنسان ما أو شخص يمارس التلاعب بإرادة الذات المسلوبة التي لا تملك إلّا الإذعان لهذا التلاعب الذي يغريه بالنجاة تارة حين يأخذه للغيم بعيداً عن فواعل التهديد الوجودي ويعيده تارة أخرى في أتون الحرب وفي الأرض الحرام تحديداً وهي منطقة قلّما ينجو أحدٌ فيها، فقد أسند النص هذين الفعلين الانسانيين إلى الجماد وهو الأرجوحة، كما أنّ النص يسند فعل الهزّ إلى موجود معنوي وهو (صوت الحرب) الذي يهزّ الأرجوحة ثانيةً بالتناوب مع الذات الشاعرة، وفي كلا الاسنادين يظهر المجاز كفعل بلاغي اتحدت فيه الذات مع الموجودات الموضوعية لتعميق الأسى في ما تعانيه الذات وهي تخوضُ حرباً أياً كان نوعها، وهنا يكتسب النص شموليته وخروجه عن دائرة الزمكان، إذ إن أنسنة الأرجوحة وصوت الحرب قد أسهمت في تحقيق علاقة وجوديّة أسفرت عن الإحاطة بتجربة المعاناة من المواجهة والتحدي غير المتكافئ بين الذات والآخر.
وفي نص (هل تكتم السر؟) ص23 تؤثثُ الموجودات الحيوانيّة والنباتيّة المؤنسنة الفضاء الشعري للنص، إذ تتركُ الذات الشاعرة سائر الموجودات النصيّة تمارس فعلها المؤنسن في تحريك فواعل البنى الشعريّة التي كوّنتها داخل دائرة المعنى الذي أراد النص تثبيته، فمنذ السطر الأول للنص يُسندُ فعل القول للطير الذي ينقلُ القول للغيم الذي بدوره ينقله للذات الشاعرة التي بدورها تحفظ القول وتكتمه ولم تقله حتى لنبي مفترض يتنقل في أرض السواد من دون أن نعرف كنه ذلك القول الذي احتكم لموجهات عنوان النص وبأنّ هنالك سرّاً ينبغي كتمانه: (ما قاله الطير للغيم.. ما قاله الغيم لي/ ومالك اقله لنبيٍّ بضفيرة حمراء يجوب السواد..).
وهكذا يبدأ النص بترسيم علاقات مجازية بين الموجودات الطير/ الغيم، لتخلق بنية السرّ الذي تواتر بين الطير – الغيم – الذات الشاعرة، ويستمرُّ النصّ في أنسنة موجودات أخرى ذات صلة بالفضاء الذي تأسّس في السطور الاولى، فيلجأ النص إلى رسم مشهد روحاني يستمد عناصره من المخيال الديني: (هنا/ رائحةُ البخورِ تمزّقُ وحدةَ الريح/ تعلو النذورُ.. ويهبطُ اليمام).
فيسند النص فعل التمزيق لرائحة البخور التي تبدد وتفرّقُ الريح بفعل العلو لتصل إلى اليمام الذي يشعر بالأمان فيهبط إلى الأرض بسلام، وتستمر الذات الشاعرة في إشراك عدد آخر من الموجودات الموضوعيّة ليدخل في علائق مجازيّة عبر أنسنتها، ففي السطور المقبلة يسند النص النخلة وهو واحد من الرموز الراكزة في الذاكرة الجمعيّة والدينيّة لما تشكّله من مصدر غذائي أساسي في بلاد وادي الرافدين فيسند إليها فعل لبس لامة الحرب لتسهم في الحرب الدائرة ضد قوى غير منظورة على مستوى سرديّة النص: (ونخلتُنا البتول/ تبدو من بعيد كطفلة تلبس لامة الحرب/ وتمسكُ بيدها عشبة الخلود/ أو كزهرةٍ في زيّ محارب/ انتهى عصرُ فتوّتِها ليمارسَ عليها الموت طقوس التّجلي).
كما وتشركُ الذات الشاعرة موجوداً نباتياً آخر وهو (الزهرة) ليسندَ لها لبس زي الحرب، إلّا أنها لا تقوى على فعل الحرب لشيخوختها لتتعالق مع الموت في طقس صوفي، ويدخل النص في علاقة تناصيّة مع القرآن الكريم وتحديدا مع الآية 261 من سورة البقرة (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبة..) فالزهرة قضت نحبها وهي تدافع عن فعل الخير الذي كان يقوم به «أبو» الذات الشاعرة: (قضت وهي تذود/ عن شرف سبع سنبلات خضر/ هنَّ كلُّ ما رآه أبي).
ففي النص السالف (هل تكتم السر؟) تعالقات الذات الشاعرة مع ثلاثة أنواع من الموجودات تعالقاً مجازياً، إذ أسند الأفعال والأقوال الإنسانية إلى الحيوان والنبات والغيم، لتسهم كلّ هذه الموجودات الموضوعيّة عبر الأنسنة في الحرب ضد قوى شريرة لم يشأ النص الإخبار عنها تحديداً ليمارس النص فعله وتأثيره الشمولي.
وفي النص الثالث (متّهمٌ بالهديل) ص46 تتعالق الذات مع الموجودات تعالقاً يمنح تلك الموجودات طاقة شعريّة تسفر عن تخليق المعاني المتجاوزة للحس المنظور صوب بنائية شعرية تفصح عن المضمر حين تكتسب تلك الموجودات الصفات الإنسانيّة قولاً أو فعلاً وحتى مشاعر، وبدءاً من العنوان (متّهم بالهديل) الذي يشير إلى تعالق معكوس بين الذات والحمام عبر إسناد فعل الهديل إلى الذات الانسانية، واكتساب صفة الحمام الصوتية (الهديل) ليبوح ما شاء له البوح للتعبير عن حالة الأسى التي انتظمت كل مساحة النص، ويمكن حصر الموجودات المؤنسنة التي أسند إليها النص أفعالاً ومشاعر إنسانية وتعالقات مجازياً مع الذات الشاعرة في الآتي: كالأزقة/ العباءات/ الماء/ الكف/ الحروب، إذ أسهمت أنسنة الموجودات الآنفة الذكر في تفعيل علاقة الذات مع الموضوع تفاعلاً مكّنَ النص من تخليق بُنى متعددة شكّلت بمجموعها رؤية النص لما يجري في باطن الواقع/ المضمر، فإسناد (الدفء) لتشعر به الأزقة إشارة إلى براءة وأصالة الأزقة التي استشعرتها الذات الشاعرة كأساس ومرجع لبناء الشخصية منذ الطفولة، كما أن إسناد مشاعر الإحساس بالخجل من الفقر للعباءات السود واكتسابها اللون الأحمر لأنها أصبحت باليةً وقديمة، وكذلك إسناد فعل المرور ونثر القتلى على عتبات البيوت للحروب ووفق سياقات مجازية قد اكسبت تلك الصور الشعرية قيمة بلاغية مؤثرة وتعالقت مع الذات الشاعرة لتحقيق طبيعة الصلة القائمة بين الإنسان وهذه الموجودات المؤثرة في تفاصيل حياته: (لذكرى الأزقة الدافئة/ للعباءات السود المحمرة خجلاً/ للحروب التي مرت من هنا/ ونثرا قتلاها على عتبات البيوت..).
كما أن إسناد فعل الاستيقاظ للماء إشارة إلى بنية الجدب واليباس الحياتي، وتأخر استيقاظه وظهور التحول بسبب من أن الكف التي تنز بالماء لا تزال نائمة في كربلاء في إشارة إلى معاناة الإمام الحسين عليه السلام وآل بيته من شدة العطش: (متى يستيقظ الماء؟/ ربما بعد حين/ لأنَّ الكفّ التي تنزُّ عطشاً/ للآن تنام في كربلاء).
لقد تمكن النصّ عبر أنسنة الموجودات الموضوعيّة التي أشرنا إليها من تحقيق شمولية الوضع الإنساني المزري والمتعطش دوما إلى حياة أُخرى بديلاً لهذا الجدب والتصحّر الحياتي. إذ إن الموجودات التي اختارتها الذات الشاعرة وعبر أنسنتها هي موجودات ذات صلة وثيقة بالذات التي تحولت إلى توق إنساني شامل للنضال ضد عوامل القهر لإقامة حياة إيجابيّة وإنسانيّة.من خلال ما تقدم من بحث في العلاقة بين الذات الشاعرة والموجودات الموضوعية عبر خاصيّة الأنسنة في ديوان (اغاني الصموت) للصواف، إذ لم يتوقف البحث عند تأشير مواطن الأنسنة في النصوص وانما تجاوز ذلك إلى جوهر السؤال النقدي وهو الكيفية التي تم فيها ذلك التعالق وأثر المجاز في هذه العلاقة وهو ما اكسب النصوص شعريتها؟ وكذلك نوعية الموجودات ومناسبتها لتحقيق المجاز في تلك العلاقة، إذ تمكنت النصوص من الوصول إلى تخليق الفضاء الشعري الذي تحركت فيه تلك الموجودات من نبات أو حيوان أو جماد أو أشياء معنوية تجاوزت الحس والمنظور واكتسابها الفعل والقول الإنساني عبر آليّة المجاز لتسهم وعبر العلاقة مع الذات الشاعرة في تحقيق رسالة النصوص أولاً ولإلفات النظر إلى أهمية هذه الموجودات المجاورة لوجود الإنسان على هذه البسيطة.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: فی النص ة النص ة التی
إقرأ أيضاً:
النص الكامل لعظة راعي الأبرشية مار بطرس قسيس خلال قداس ليلة عيد الميلاد بحلب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال راعي الأبرشية مار بطرس قسيس في عظة الميلاد والتي القاها خلال القداس في كاتدرائية مار أفرام السرياني بالسليمانية بحلب:
الأحباء الكهنة والشمامسة وأعضاء المجالس الملية واللجان والمؤسسات وعموم أبناء الأبرشية الموقرين
نعمة لكم وسلام من الله أبينا يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا.
إنها ليلة الميلاد المجيد، الليلة التي تحققت فيها أولى خطوات الوعد الإلهي بأنَّ نسل المرأة يسحق رأس الحية. الليلة التي تصالحت فيها السماء مع الأرض بميلاد المخلص الذي سيرفع خطيئة العالم. الليلة التي رنمت فيها طغمات الملائكة نشيد الظفر معلنة مد جسر العبور، عبور البشر من الأرض إلى السماء، وعبور النعم والبركات من السماء إلى الأرض.
ولكن الأهم ضمن هذه النعم والبركات التي حصلنا عليها بميلاد رب المجد، معرفتنا الحقة بأن الله يحبنا، كما عبر عن ذلك يوحنا الرسول في رسالته الأولى قائلاً: "بهذه أُظهرت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به".
محبة الله لخليقته، أيها الأحبة، هي طبيعة الله الحقيقية، لأن الله محبة.
وقد تجلت هذه المحبة للإنسان منذ البدء بأن هيأ له أفضل الظروف لكي يعيش حياة هانئة وسعيدة، في سلام وخير، مع الآخر، طبيعة كان أو مخلوقات. ولكن سرعان ما ظل الإنسان عن طريق الله ساقطاً في فخ الكبرياء المقيت وخاضعاً لإرادة الشرير ابليس.
ومشت الإنسانية في ظل الخوف والموت زماناً طويلاً، وما كانت تقدم لنفسها إلا مزيداً من السقوط والانحدار، وكأنها تقوم بإفناء نفسها. فأتى الميلاد. ميلاد الكلمة يسوع المسيح. وفي الحقيقة، فإن هذا العمل العظيم هو لائق بدرجة فائقة بصلاح الله. لأنه إذا أسس ملكٌ مدينةً، ثم بسبب إهمال سكانها حاربها اللصوص، فإنه لا يهملها قط، بل ينتقم من اللصوص ويخلّصها لأنها صنعة يديه وهو غير ناظر إلى إهمال سكانها، بل إلى ما يليق به هو ذاته.
هكذا وبالأكثر جداً، فإن كلمة الآب كلي الصلاح، لم يتخلّ عن الجنس البشري الذي خُلق بواسطته، ولم يتركه ينحدر إلى الفناء، بل أبطل الموت الذي حدث نتيجة التعدي، بتقديم جسده الخاص. ثم قوَّم إهمالهم بتعاليمه، وبقوته الخاصة أصلح كل أحوال البشر.
في هذا يقول القديس أثناسيوس في كتابه تجسد الكلمة: "أنه لم يكن ممكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم فساد إلا المخلص نفسه، الذي خلق منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكن ممكناً أن يعيد خلق البشر ليكونوا على صورة الله إلا الذي هو صورة الآب. ولم يكن ممكناً أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكناً أن يُعلِّم البشر عن الآب ويقضي على عبادة الأوثان إلا الكلمة الذي يضبط الأشياء وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي".
لذا أيها الأحبة، ليس لنا نحن الترابيون إلا أن نشكر الرب الإله على افتقاده لبشريتنا الضعيفة بهذا الخلاص العظيم الذي قدمه لنا ونحن لسنا بمستحقين. ولنعمل على أن يكون جوابنا له فعلاً يعكس إدراكاً لدعوتنا ورسالتنا في هذه الحياة. كما أرادنا هو أن نكون: ملحاً للأرض ونوراً للعالم وخميرة للعجين. ليس في شرقنا العزيز فقط. بل في كل أنحاء الأرض. حيث الشهادة لمحبة الله للعالم يحتاجها العالم بأجمعه، كل العالم، ووصيته الأخيرة لنا كانت "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". فلنكن رسلاً حقيقيين لرسالة المحبة الخالصة والباذلة التي سلمنا وعهدنا إياها نحن المخلصين باسمه القدوس.
في الأسابيع الأخيرة شهدت سورية الحبيبة تغييراً جذرياً في نظامها الذي حكمها لأكثر من خمسين عاماً. هذا التغيير كان أشبه بزلزال بشدة عالية جداً، وكان من الممكن أن نعيش اليوم أياماً وتجارب قاسية على كل المستويات. إلا أن رحمة الله ومحبته لنا خففت بأكبر قدر من أثره المدمر. فكان تغييراً سلساً ولم يتم رصد حالات مؤلمة إلا ما ندر. أما ارتدادات هذه الزلزال فهي التي نعيشها اليوم وننزعج من حصول بعض التعديات أو التجاوزات في غير منطقة من الوطن. ولا أود أن أطلق التوصيفات جزافاً على بعض هذه الممارسات، إلا أننا نقول باختصار بأنها لا تبني الوطن الذي نحلم به. لذا يجب أن نرفضها ونستنكرها بشدة ونعمل على وأدها في مهدها.
لا يجب أن تنتهي فقط هذه التعديات، وإنما يجب على كل واحد فينا أن يتطهر ويتغير. يجب علينا أن نقوم بهذه النقلة النوعية للأمام، رافضين الاستمرار بكل ما اعتدنا القيام به من ممارسات وكل ما كنا نقوم به راضين أو مرغمين، مشاركين بذلك في فساد السلطة والمجتمع.
نعم أيها الأحبة، أمامنا اليوم فرصة ذهبية قد لا تتكرر. والفرص التي تعطى للشعوب ليست بكثيرة. أمامنا فرصة حتى نثبت لأنفسنا قبل الآخرين، بأننا شعب يحب الحياة، وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. باننا شعب مؤمن، وإيماننا يقودنا إلى فعل الخير والفضيلة. بأننا شعب صابر وقد آن أوان افتقاده ونشله من سقطته.
ولننظر جميعنا للأطفال والشبان، أي بلد نود أن نورثهم، وأي مجتمع نحلم أن يعيشوا به. لنؤسس للأجيال القادمة قاعدة وطنية إيمانية إنسانية، بعيداً عن الاختلافات التي لم ولن تزول، ولكننا نستطيع فعل شيء واحد، ألا تكون هذه الاختلافات سبباً أساسياً لخلافات ونزاعات بين أبناء هذا الوطن.
بلدنا فيه من الفقر والبطالة والجوع والجهل والفساد الشيء الكثير، أكثر مما تتحمله أية دولة في العالم مهما عظمت، وهو موروث قديم جديد، لن نستطيع ولا يجب أن نقبل بالاستمرار فيه. ولذلك نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لفترة من الأمن والسلام والاستقرار، حتى نعالج كل هذه المشاكل وغيرها ونصل إلى واقع أفضل لبلداتنا ومدننا وبشكل عام لوطننا. إنها بحق مسئولية الجميع.
كما أنها مسئولية الجميع الوصول إلى المصالحة الحقيقية بين مكونات هذا الشعب. فما فعله النظام السابق لم يفعله باسم طائفة معينة ولم يحل ظلمه وقمعه على طائفة دون الأخرى. فكلنا عانينا الأمرين وكلنا ضحايا للعهد البائد. ولكننا اليوم ولكي نبني وطننا، لا بد من المصالحة والمسامحة المتبادلة. لا الانتقام أو العدالة الانتقائية. هذا ما علمنا إياه يسوع بقوله لنا:
"يا ابت اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون"
"لا تقاوموا الشر بالشر"
"يا رب كم مرة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أسبع مرات؟ لا أقول لك سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات"
"من منكم بلا خطيئة فليكن أوّل من يرميها بحجر"
"ولكن إن جاع عدوك فأطعمه، وإذا عطش فاسقه، لأنك في عملك هذا تركم على هامته جمرًا متقدًا"
آيات كثيرة تتكلم عن المسامحة والمصالحة، هذا لأنها الطريق الوحيدة التي تقود إلى بناء المجتمعات التي عانت ما عانيناه. وفيها فرصة قوية لكي تقود المخطئ إلى التوبة الحقة. فيرجع عن أعماله الظالمة ويقوم بالتكفير عن أفعاله المشينة بتعويض ضحاياه عما افتعله بهم. لذلك نحن المسيحيون لا نتشفى بالظالمين ولا نطلب الانتقام منهم. بل نصلي من اجلهم حتى يُسكن الرب روحه في عقولهم وأفكارهم فتتقدس أفعالهم ونواياهم.
هذا وقت الصلاة والتضرع أيها الأحبة. في السابق صلينا كثيراً من أجل حاجات متنوعة. أما اليوم فالصلاة هي من أجل أن يُنقّذ هذا البلد من أيدي أعدائه وأعوانهم. من أجل أن يهيأ الرب الإله لسورية حكاماً صالحين ويخافون الله. من أجل كل من ضحى ويضحي لخير هذا البلد واستقلاله وسيادته على أراضيه. من أجل أن يستطيع الواحد منا أن يقبل الآخر كما هو ويضع الواحد منا يده بيد الآخر لبناء هذا الوطن، الذي يتسع للجميع ويحتاج لجهود الجميع "ولنا هذه الثقة أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا".
أيها الأحبة: نحن ككنيسة سريانية أرثوذكسية نفتخر بأننا من أصل هذه الأرض المباركة. كنا وما زلنا وسنبقى فيها. لغتنا قوميتنا حضارتنا عبادتنا قديسونا، بل وحتى إلهنا المتجسد هم من هذه الأرض. نحن منها وهي منا. فيا سورية القلب والروح. يا معشوقة المغتربين وغرام المقيمين. ويا أرض القداسة والقديسين. لن نبخل عليكي بأي جهد حتى تستعيدي عافيتك وتعودي لتكوني منارة الشرق. برسالتك الأرضية والسماوية. رسالة المحبة والأخوة والسلام بين كل الناس.
وقلناها سابقاً ونكرر، لنا الفخر بأن مطران وراعي هذه الأبرشية هو الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، الشخصية الدينية والوطنية، الذي قدم ذاته رخيصة من أجل هذا البلد ومواطنيه. ناطقاً بالحق في زمن غابت فيه الأصوات المنادية بالعدالة والمساواة والتحرر. بخطفه حاولوا اسكات صوته، ولكن بقيت رعيته تنادي باسمه في كل المنابر راجية إطلاق سراحه وتحريره من أسره. واليوم ونحن نذكره من جديد، نصلي من أجله كما فعلنا دائماً كي يعود لنا سالماً ومعه سيادة المطران بولس يازجي والكهنة وكل المخطوفين.
أخيراً نهلل لصاحب هذا العيد المجيد كما هللت وسبحت الملائكة قائلة: "المجد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر". وليحل أمنه وسلامه في المعمورة أجمع وليعيد إلينا راعينا الجليل مار غريغويوس يوحنا إبراهيم سالماً، وليبارك في حياة وخدمة قداسة سيدنا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني، الرجل الجبار والحكيم، الذي أرسله الله لكنيستنا ولوطننا في هذه الظروف الصعبة، نعايده ومن خلاله نعايد كل السادة المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكي السرياني المقدس. كما ونعايد الآباء كهنة الأبرشية وأعضاء مجالسها الملية ولجانها ومؤسساتها الخدمية والاجتماعية وشمامستها وكورالاتها وكشافاتها وعموم مؤمنيها.
شملتكم العناية الإلهية بشفاعة أمنا القديسة الطاهرة مريم وجميع قديسيه وكل عام وأنتم خير.
بريخ مولوده دموران