ما كانت دولُ الغرب لتعرِف هذه الحال من الهلع - التي تستبدّ بها منذ زمن - من الانفجار الديمغرافي الهائل في العالم لولا أنّ معطيات الفورة السكانية الهائلة تجري خارج ديار الغرب؛ في بلدانٍ ينظر الغرب إلى أهلها إمّا بوصفهم أعداء أو خصوما (بلدان الشرق الآسيوي والجنوب). لا يعني التزايُد السكاني في ذلك العالم سوى تعاظُم جموع أولئك الذين يعالنُهم الغرب عداءً، أو يرى إلى وجودهم من حيث هو غرامةٌ ثقيلة على العالم.
يجري الكلامُ الكثير - في أوساط غربيّة عـدّة - على وجوب «التحرُّر» من عبء هذه الدّيمغرافيا «الفائضة» بدعوى أنّ الموارد المتاحة ما عادت تكفي جموع المتزايدين كثرةً في العالم. وما كان يُـقَدَّم في الماضي بوصفه وصفةً لعلاج النّازلة (= تحديد النّسل)، لم يعد يردِّده أحدٌ بعد أن تبيّنت حدودُ ما تستطيعه سياسات الحدّ تلك من نتائجَ متواضعة. في الأثناء، كان التّفكير في المسألة يَلج طوْرا دراماتيكيّـا جديدا يَـطْبَعه قـدْرٌ كبيرٌ من العنف الاستراتيجيّ يعبّـر عنه، اليوم، الانتقالُ من فكرة الحدّ من الانفجار الدّيمغرافيّ إلى فكرة إبادة «الفائض» السّكانيّ في العالم، أي ذلك القسم الهائل من البشريّة الذي سيجد نفسه - مع تعميم استخدام الذّكاء الاصطناعيّ - خارج مجال الإنتاج: المادي والرمزي. والإبادة هذه أشكال تتوسّل أدواتٍ متباينةً تتراوح بين العنف الماديّ العاري و«حقوق الإنسان»، نقف - في إسراعٍ - على ثلاثـةٍ من تلك الأشكال رئيسة وفـتّـاكة:
أوّلُها وأقـدمُها الحرب؛ إذْ هي أمُّ وسائل الإبادة في التّاريخ، وقد اختبرها كـلُّ من تَغَـيّا تحقيقَ فِـعْل الإبادة ذاك وبَـلَغ بها مراده. من أبْـدَهِ بديـهيّـات العلم العسكريّ الاستراتيجيّ أنّ الهدف من وراء شنّ الحرب هدفٌ سياسيّ، في المقام الأوّل، هو هدف إخضاع العـدوّ وفرض إرادة المنتصر عليه... على ما يرى كلاوزڤيتس. ومعظم الحروب التي جرت في التّاريخ تنتمي إلى هذا الهدف. لكنّ بعضَها ما تَـوقَّـف عند حدود كسْـرِ إرادة العـدوّ، وإخضاعِـه لإرادة المنتصر وإملاء شروط الأخير عليه، قصد فرْض التّنازل عن حـقٍّ من حقوقه التي قاتل من أجلها، بل جاوز هذا الحـدّ إلى حيث ابتغى إفراغ أرض عدوّه من شعبها الأصليّ للاستيطان فيها والحلول محلّه في الحيازة والسيادة، فكان على حربه أن تكون حرب إبادة تقتلع شعبَ الأرض من أرضه. وتلك، مثلا، حالُ حروب الإبادات الجماعيّة الأوروبيّة للقارّة الأمريكيّة وشعوبها الأصليّـة، وحال حروب الإبادة الصّهيونيّـة للشعب الفلسطيني لاغتصاب الأرض والاستيطان فيها. وحين نأخذ في الحسبان حقيقةَ أنّ وسائل الإبادة تطوّرت وتعاظم مفعولها - بإنتاج أسلحةٍ أفـتك مثل النّـوويّـة والبيولوجيّـة والكيماويّـة...- سندرك إلى أيّ حـدٍّ ستعُـمّ تلك الإبادة أقساما هائلة من السّكان في أزمنةٍ سريعة قياسا بتلك التي اقتضتها الإبادات في أمريكا وأستراليا وفلسطين. وإذا كنّا قد تعوّدنا على أن تنشب الحروب بين دول الشّمال (حروب المصالح)، أو بين دول الجنوب (حروب الحدود الموروثة عن الاستعمار)، فإنّ الحروب القادمة - المحمولة على صهوةِ مشروع إبادة «الفائـض» البشريّ - ستكون، حُكْمـا، حروب الغرب على الجنوب؛ هذا الأخير الذي يُراد وقف زحفِ ديمغرافيّـته! وهي حروبٌ شهدنا على نماذج منها في العراق وأفغـانستان...
وثانيها استراتيجيّـة إنتاج الفيروسات ونشر الأوبئة على نطاقٍ واسعٍ من العالم. لقد كشف وضْعُ يد القـوّات الرّوسيّـة على عشرات المختبرات البيولوجيّـة في أوكرانيا - أثناء عمليّتها العسكريّـة في إقليم دونباس - والعثورُ على برامج البحث المموَّلة من الولايات المتّحدة الأمريكيّة (باعتراف مسؤولة رفيعة في واشنطن)، عن المدى الذي سيذهب إليه المسعى الأمريكيّ - والغربيّ إجمالا- في مضمار سياسة نشر الأوبئة في العالم واستخدام الفيروسات القاتلة سلاحا فـتّاكـا في الحرب وتحديدا، في مشروع الإبادة السّكانيّـة لمناطق عـدّة من العالم. ولقد تكون كارثة جائحة فـيروس كورونا - على عظيم ويلاتها على حَـيَوات ملايين البشر- مجرّد «بروفـة» لإعداد فصولٍ أخرى ممّا هو قادم أشـدّ وطأةً من الوباء السابق! ومن البيّـن أنّ كلفة هذه الاستراتيجيّة أقـلُّ وطأةً على دول الغرب من كلفة الحروب العسكريّـة، الماديّـة والبشرية، وأكثر سريّـة بكثير؛ وهي لا تحتاج من الإنفاق على البحوث ومن التّصنيع المختبريّ إلى عُـشر أعشار ما يجري إنفاقُـه على بناء الجيوش وتجهيزها وتحريكها من مبالغ ماليّة، دون احتساب نجاعتها في إحداث عمليّات القتل الجماعيّ - بأضعاف ما تَـقْوى عليه الحرب العسكريّة- ولكن من غير أن تخلّف العمليّـاتُ تلك وراءها بصمات تـدُلُّ على الجُـناة.
وثالثها وقـف عمليّـة التّناسـل البشري لجيلين أو ثلاثة (إلى حين موت من سيبقى حيّـا بعد الحروب والأوبئة)، وذلك بوسائـل عـدّة أظْـهرها، اليوم، اللَّـقاحاتُ التي تبيد القدرة الإخصابيّـة لدى الجنسين، ثـمّ التّشجيعُ على العلاقات الجنسيّـة من داخل الجنس الواحـد (الجنسيّة المثليّـة)، وعلى الزّواج المِثـليّ، والسّعيُ إلى تكريس النّظر إلى هذه العلاقات بوصفها حقوقا طبيعيّـة لا تَـقْـبَل الانتهاك، ومعاقبةُ كـلّ دولة تُجـرّمها أو تمنعها قانونا. حتّى الآن، لم تخرُج مقاربةُ المثليّـة عن النّطاق القِـيَميّ- الأخلاقيّ بما هي، في عُرْف مَن يتناولونها بالنّـقد، تعبيرٌ عن انحطاط الغرب على هذا الصّعيد. وهذا إذا كان مدخلا لمقاربةٍ ثقافية وسوسيولوجيّـة للظاهرة، إلاّ أنّه لا يفيد كثيرا في تبيّن الغاية السّياسيّة من وراء الظّاهرة: قطع الطّريق على العلاقات بين الجنسين مقـدّمةً لإنهاء ظاهرة التّناسـل! وقد نصحو، بعد عقود، على ظاهرة اختفاء الإنجاب وما ينجم منه من تراجُـعٍ تدريجيّ في أعداد السـكان!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی العالم
إقرأ أيضاً:
حروب وأزمات.. حصاد 45 عاما من التدخل الإيراني في الشؤون العربية
منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، شهد الشرق الأوسط تحولات جذرية كان معظمها ناتجا عن اعتماد الجمهورية الإسلامية الجديدة سياسة "تصدير الثورة" إلى دول الجوار.
وعانت الدول التي امتدت إليها أذرع النظام الإيراني، وأبرزها العراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين، من اضطرابات سياسية واقصادية، وتورط بعضها في حروب أو مواجهات عسكرية مدمرة بدفع إيراني.
العراقوبينما كان الشيعة العراقيون متعاطفين مع الثورة الإيرانية في بادئ الأمر، إذ رأوا فيها مثالا لإحداث تغيير سياسي واجتماعي، نظرت إليها السلطات العراقية بقيادة صدام حسين وحزب البعث على أنه "تهديد وجودي"، خصوصا مع شعارات تصدير الثورة التي تبنتها القيادة الإيرانية الجديدة، وفقا للباحث الأكاديمي عقيل عباس.
يضيف عباس أن حزب الدعوة الشيعي العراقي تأثر بالثورة الإيرانية، ودخل في مواجهات مع نظام صدام حسين الذي أمعن في ملاحقة أفراد الحزب ونفذ كثيرا من الإعدامات بحقهم.
"كانت الثورة الإيرانية وبالا على العراق"، وفق تعبير عباس.
ويشير تقرير صادر في يوليو 2018 عن مجموعة الأزمات الدولية (ICG)، إلى أن إيران استغلت الفراغ السياسي الذي تبع سقوط نظام صدام حسين عام 2003، فعززت نفوذها في العراق من خلال دعمها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وميليشيات الحشد الشعبي وقوى أخرى، بمساعدات مالية وأسلحة وتدريب عسكري،
وساهمت فصائل مسلحة موالية لإيران، في قتل واختفاء مئات الأشخاص في ما عرف بـ"احتجاجات تشرين" 2019، وفقا لتوثيق منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فضلا عن سقوط آلاف الجرحى، على مدى ثلاثة أشهر من الاحتجاجات على تدهور الأوضاع المعيشية والتدخل الإيراني في شؤول البلاد.
وحرق المحتجون مباني دبلوماسية تابعة لإيران في مناطق عدة في بغداد والجنوب العراقي.
وكشفت عمليات قتل المحتجين هشاشة الوضع الأمني، ودور ميليشيات مدعومة من إيران، مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراقي، في تقويض سلطة الدولة وإضعاف أجهزة الأمن العراقية الرسمية.
ومنذ 2003 حولت طهران العراق إلى ساحة مواجهة في الصراع الإيراني الأميركي، وشنت ميليشياتها هجمات على القواعد الأميركية والبعثات الدبلوماسية، مما أضر بالبنية التحتية وعرقل عجلة الاستثمار الأجنبي في البلاد.
سوريا"التدخل الإيراني في سوريا مر بثلاث مراحل متميزة"، يقول محمد العبدالله من المركز السوري للعدالة والمساءلة.
في البداية، كان الدور الإيراني متجها نحو نشر الوعي الديني في أوساط السوريين، وخاصة بين العلويين والشيعة. ثم، بعد عام 2000، أصبح الدور الإيراني أكثر وضوحا في نشر المذهب الشيعي بعد أن بدأ بشار الأسد في تسهيل جهود التشيع الإيراني. وأخيرا، بعد عام 2011، تدخلت إيران بشكل عسكري وأمني واضح في سوريا، وزجت بميليشيات شيعية للقتال إلى جانب النظام السوري.
يرى العبد الله إن شعار "تصدير الثورة" كان غطاء لتمكين إيران من توسيع نفوذها الإقليمي.
ووفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2022، بلغ عدد المقاتلين الإيرانيين والميليشيات التابعة لها في سوريا نحو 100 ألف مقاتل. وقدمت إيران لنظام الأسد خطوطا ائتمانية بقيمة حوالي ستة مليارات دولار، مما ساعد في تخفيف آثار العقوبات الدولية، ولكن ساهم أيضا في تدهور الاقتصاد السوري، وفق مخرجات تقرير نشرته في عام 2023 مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
لبناناستطاعت إيران تصدير ثورتها إلى لبنان عبر تأسيس حزب الله الشيعي، يقول الصحفي اللبناني عماد شدياق.
أوجد حزب الله شقاقا بين الأحزاب اللبنانية وعقّد الوضع السياسي. وأثر تصنيف حزب الله منظمة إرهابية على القطاع المصرفي اللبناني، إذ بدأت المنظومة المصرفية العالمية تحاربه، مما أضر بالاقتصاد اللبناني.
على المستوى الأمني، نفذ حزب الله العديد من الاختراقات لأجهزة الدولة، مما زاد من تعقيد الوضع الأمني في البلاد، وفقا لشدياق الذي يرى أن تصدير الثورة الإيرانية أثر على لبنان على كل المستويات.
وفقا لتقرير مجموعة الأزمات الدولية (2020)، أدى الوضع السياسي الهش الذي تسبب فيه حزب الله إلى تعرض لبنان لضغوط إقليمية ودولية، وخلق فراغا سياسيا في البلاد. وساهم الدعم المالي الإيراني لحزب الله في مفاقمة أزمة لبنان الاقتصادية، التي وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم.
وقد تمكن الحزب من السيطرة على إمدادات الوقود وزيادة الاعتماد على إيران في هذا القطاع الحيوي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وفقا لتقرير المركز اللبناني للدراسات السياسية (2023).
وتورط الحزب في تجارة المخدرات، وفقا لتقارير دولية عديدة، منها تقرير معهد واشنطن (2020) وإدارة مكافحة المخدرات، فجمع، جراء ذلك، أموالا ضخمة زادت من تأثيره على الاقتصاد اللبناني.
اليمنيقول الباحث الأكاديمي اليمني، عبد القادر الخراز، إن الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن أدى إلى حرب مستمرة منذ سنوات، وأزمة إنسانية كبيرة، وعمليات اختطاف وتعذيب وقتل داخل السجون.
خاض الحوثيين بدعم إيران ستة حروب قبل عام 2011، وفقا للخراز، مما أثر بشكل كبير على محافظة صعدة، شمال غربي العاصمة صنعاء. وبعد عام 2011، لعبت ميليشيا الحوثي دورا كبيرا في تغيير المعادلات داخل اليمن، واحتلت صنعاء وسيطرت على العديد من المحافظات الشمالية.
قدمت إيران للحوثيين حديثا صواريخ باليستية وطائرات مسيرة، فسيطروا على مناطق واسعة من اليمن، وتمكنوا من استهداف السعودية والإمارات اللتين شنتا ضمن تحالف عام 2015 حربا على الحوثيين دعما للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا.
ووصفت تقارير دولة الأزمة الإنسانية في اليمن، جراء الحرب، بـ"الكارثية". ويعاني ملايين اليمنيين من نقص حاد في الغذاء والماء والدواء، وفقا لتقارير الأمم المتحدة (2023).
وتواصل إيران مد الحوثيين بالدعم المالي والعسكري، بينما تتواصل الأزمة الإنسانية جراء عدم قدرة المنظمات الدولية على إدخال المساعدات بسبب الحصار وتدمير الموانئ والمطارات، في سياق النزاعات المسلحة.
فلسطينفي 7 أكتوبر 2023، استهدفت حماس الداخل الإسرائيلي، بهجوم أسفرت عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي واختطاف عشرات آخرين كرهائن وفقا للسلطات الإسرائيلية. وكان الرد الإسرائيلي سريعا وعنيفا، أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 43 ألف فلسطيني، وفقا لوزارة الصحة في قطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير واسع للبنية التحتية ونزوح حوالي 85% من السكان.
تعود جذور العلاقة بين إيران وحماس إلى ما بعد الثورة الإسلامية في إيران، حين شرعت طهران في دعم الحركة في إطار استراتيجيتها لتوسيع نفوذها الإقليمي.
وبلغت قيمة المساعدات الإيرانية لحماس نحو 100 مليون دولار سنوياً، وفقا لتقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (2023). وساهم الدعم الإيراني في تعزيز القدرات العسكرية لحماس، لكنه عمق في الوقت ذاته عزلة الفلسطينيين على الساحة الدولية، وجعل غزة بؤرة للصراعات الإقليمية، مما أضاف مزيدا من المعاناة على كاهل الشعب الفلسطيني.