د. أسماء عبدالوهاب الشهاري
في استنقاذٍ لتاريخ البشرية الذي كان أسوداً ومعتماً قاتم اللون وشاحب الملامح ملطخاً بدماء العار والذل والصغار.. مصبوغاً بقبح الاحتلال و وحشيته وبشاعة تصرفاته النازية والفاشية الإجرامية.
حيث مرت على البشرية عقوداً من الزمن شُوهت فيها ملامح الأرض وانعكست الموازين وضُيعت الحقيقة، فهناك في أطهر بقاع الأرض وأقدس المدائن وأبركها، حيث أرض الأنبياء ومسرى خير الرسل والأصفياء النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تم جمع وتحشيد من لفظتهم جميع بقاع الأرض ولم تقبل أو تطيق وجودهم؛ فهم كائنات جُبلت على الشر والإجرام وزعزعت الأمن والاستقرار في أي مكان يتواجدون فيه، اشتهروا منذ القدم بقتل الأنبياء ونقض المواثيق والخيانة وسفك الدماء والسعي لإشاعة الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل وما هو أبعد من ذلك بكثير.
وبعد حبك المُآمرات من قبل الدول المستكبرة والاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا، تم إجماع الأمر والقرار على التخلص من هذه الشرذمة النتنة على حساب الأقصى والأرض المقدسة فلسطين وأبنائها؛ وبنوا ذلك كله على الأكاذيب وبيع الوهم والأباطيل. ومنذ ذلك الزمن ولعقود عديدة اتخذ الصهاينة من الأرض المقدسة وما حولها مركزاً يفرغون فيه طاقاتهم الشيطانية الإجرامية البشعة فمارسوا كل أنواع الجريمة من القتل والسحل والاعتقال والتعذيب الوحشي للأسرى وحرق المزارع واقتلاع الأراضي وتدمير المساكن فوق رؤوس ساكنيها. ولم يراعوا في ذلك كله اعتباراً أو حرمة لأي شيء على الإطلاق. بل استخدموا شتى أنواع الأسلحة الفتاكة وأقبح وأبشع الأساليب التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
يكاد لا يختلف أحد على أن مظلومية الشعب الفلسطيني هي أكبر مظلومية في تاريخ البشرية لأن اليهود المعروفين بخبثهم وحقدهم وبشاعة نفسياتهم يسابقون الزمن في صنع أكبر عدد من الجرائم على مدار الدقيقة والثانية وذلك منذ قرن من الزمن.
ولكن الشعب الفلسطيني شعبٌ جبار برجاله ونسائه وصغاره وكباره وزيتونه وأحجاره. فقد واجه ذلك كله بصدورٍ عارية ولكن بعزائم تلامس السماء وتعلو فوق قمم الجبال.
كان قد رُسِم في أذهان الأجيال المتتابعة العربية والغربية ودُون في كل زوايا التاريخ مظلومية الإنسان العربي والمسلم، أشد أنواع الظلم، وأقسى صنوف الاضطهاد، فها هي الأم تحاول أن تسترجع ابنها الشاب الصغير أو الطفل من بين أيدي الصهاينة الذين يأخذونه للأسر بكل وحشية أو تودعه شهيداً وهي تذرف دموعاً حرّى، وهناك يقف الشيخ الذي تحترق مزرعته أو تُجرف أمام عينيه بعد عمرٍ أفناه في زراعتها وريّها. وهناك المستوطنون وبئس جيران السوء الذين يجرعون جيرانهم ويلات العذاب برعاية من الجيش الصهيوني. وهناك وهناك..
هكذا كانت الصورة وهكذا استمرت وأُريد لها أن تنتهي حتى بلغ الظلم والعذاب مبلغاً كادت أن تندثر معه القضية حيث وصلت لأسوأ حالاتها؛ ومن رحم الظلام الحالك تولد المعجزات ويتفجر الطوفان العظيم الذي يجرف كل ما أمامه من باطلٍ وظلمٍ وزيفٍ وفجور؛ فهناك في عهد الأعراب عندما كانوا يبيعون الوهم والكذب أمام الشعوب العربية والإسلامية بأنهم يتبنون ويدعمون القضية الفلسطينية وأنهم حامو الحمى للأقصى-على الرغم من ثرواتهم الهائلة- والشعوب التي لم تلتفت لذلك وكانت تنفق وتسعى جاهدة وكل أملها أن ترى البطل الفلسطيني مُسلحاً، بيد أن ذلك كله لم يحصل منه شيء وظل المقاوم الفلسطيني يواجه المدرعات والجرافات والدبابات الإسرائيلية والبارجات وحاملات الطائرات والصواريخ بالحجارة التي كانت تتحول بيده إلى حمم نارية فهو لم تكن تنقصه الشجاعة أبداً سواءً كان طفلاً أو شاباً أو كهلاً فقد كان يواجه بكل استماتة واستبسال وبالأخص عندما يتعلق الأمر بالأقصى والمقدسات ولن ننسى أبداً كل الانتفاضات، ومن هنا يستطيع كل ذي لب أن يستنتج ويعلم لماذا تم شن كل تلك الهجمات والشحن الطائفي والمذهبي والعنصري الرهيب والبغيض ضد إيران وكل حركات المقاومة في العالم العربي والإسلامي والتي سُخرت لها جميع الإمكانيات من آلة إعلامية ضخمة وعملاقة وملايين الدولارات وغير ذلك. نعم. إنه القدس وإنها القضية الفلسطينية. ألا نرى أنه عندما تدّخل محور المقاومة بشكل مباشر في الدعم والمشاركة مع مجاهدي فلسطين امتلكت وقتها جميع الفصائل الفلسطينية مختلف أنواع الأسلحة وتمكنت وهي محاصرة ومحاربة منذ عقود أن تمتلك وتصنع مختلف الأسلحة وأن تبتكر فنون القتال الفريدة بما فيها حفر الأنفاق وأن تأتي الصهاينة زحفاً وبحراً وبراً ومن تحت الأرض وحتى من فوق رؤوسهم الفارغات. نعم. فهي لم تكن تنقصها الإرادة ولا العزيمة ولكنها لم تكن تجد غير الحجارة أثناء زعم الأعراب المتصهينيين بدعمهم للقضية!
ولذات السبب ستجد أن جميع دول المحور من صنعاء اليمن إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران وغيرها إما محاصرة أو محاربة أو الاثنتين معاً. في حين تجد كل دول التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب بعيدةً عن ذلك!
وهنا دعوة لوقفة صادقة للتأمل!
من خلال ما سبق سنعلم يقيناً أنه مهما تحدثنا أو قلنا ومهما سيقول من سيأتي من بعدنا فإن عملية السابع من أكتوبر للعام 2023، تعد نقطة تحول تاريخي، لا نقول على المستوى الدولي أو الإقليمي بل على مستوى البشرية ككل. فهو يومٌ فاصل بين واقعين مختلفين تماماً. وإن كان ذلك في الحساب الزمني قصير وخاطف جداً يمكن قياسه بساعات قليلة، لكنه اختصر العشرات من السنوات، فقد كان يوماً فارقاً وحصلت عبره نقلة نوعية على جميع المستويات وأهمها تغيير معادلات الصراع مع العدو، بحيث أنه لا يمكن العودة لما كان قبله من معادلات الصراع، ولكنه سيمهد لما هو أكبر فهو بداية النهاية للغدة السرطانية التي طال بقاؤها واستفحل شرها.
عمليةٌ خاطفةٌ حاسمة تحول فيها الحفاة إلى راجمات صواريخ وطائرات مسيرة بالعشرات. بل قل بالمئات في دقائق قليلة!
كانوا كالأشباح باجتيازهم للحواجز والجدران العازلة وتدميرها “وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر”؛ وتحولوا هم أنفسهم إلى طيور أبابيل سقطت من السماء بغتة ودون موعدٍ مسبق على رؤوس الكفار والمجرمين وتحولت الحجارة بأيديهم إلى رعدٍ وبرق وطوفانٍ وأعاصير.!
هكذا لم يُذهلوا الصهاينة فقط، بل أذهلوا العالم، كل العالم. تسمّرت العيون وكاد نبض القلوب أن يتوقف ونحن نرى العشرات وإن لم تصدق فقد كانوا بالمئات بين جريحٍ وأسيرٍ وقتيل من اليهود.!
بالأمس عندما كان دمنا وحده المباح فإن قتل صهيوني واحد كان يعد عيدا.. فأي وصفٍ يسع قتل المئات من الأنجاس!
أيُّ دهشة والتاريخ تُعاد صياغته وموازين القوى تنقلب وتتغير بين عشيةٍ وضحاها!
إنه لخطرٌ محقق فأوروبا لن تتقبل عودة المتطرفين الصهاينة إليها الذين اجتمعوا في الأرض المقدسة من أصقاع الأرض فتراها تبادر مع أمريكا وبريطانيا وغيرها في الشجب والتنديد والتهديد والوعيد ولا نلومهم فما حصل لربيبتهم إسرائيل خارقٌ للعادةِ فعلاً.!
فتراهم يدعمونها قولاً وفعلاً.. اتحاداتٍ دوليةٍ ودولاً.. مالاً وعتاداً. لكن اليهود لم يكن ينقصهم ذلك بيد أن الرجولة لا تُشترى بثمن لو كانوا يعلمون.
وما يجدي كل ذلك وأضعافه بأيدي من عند النزال يضعفون وكالجرذان يفرون!
وأما الصهاينة من حكام العرب أو المتأسلمين كأردوغان تركيا فإن تصريحاتهم لا جديد فيها ولا غريب. فلا توجد قطرة ماء من خجلٍ في وجوههم فتراهم يسارعون في اليهود والنصارى استرضاءً وترضية. ولن نستبعد أبداً دعمهم للكيان الغاصب في هذه العملية أو غيرها. فمن لا يستحيي من الله فكيف له أن يستحي من شعبه ومن أبناء ملته وإن كان قد أصبح -منهم- وليس -منكم- كما أكد على ذلك القرآن الكريم.
إذن طوفان الأقصى فجر واعد بالنصر، وإشراقة صبح بالعز، وبدايةٌ لعهدٍ جديد تخطه الدماء ويكتبه العظماء من أبناء الأمة وعلى جميع الفصائل الفلسطينية أن تقوي من وحدتها فهو قبل كل شيء سلاحها وعدتها.
وأما دول المحور فكلنا يقين أن لها يد في كل ما حصل وما شهادات المقاومين الأحرار من الفلسطينيين إلا حقٌ وصدقٌ وعدل. وأن القادم بإذن الله أشدُّ وأنكى على الصهاينة والمتصهينين وأعظم. وعلى كل أحرار وشرفاء الأمة الذين يتوقون لهذا اليوم منذ زمنٍ بعيد ألا يلتفتوا للعملاء والخونة من المتصهينيين وأن يعزموا أمرهم ويشدوا عدتهم ورحالهم مع جميع رجال محور المقاومة الأحرار فبهم وعليهم بعد الله الآمال تشاد وما طوفان اليمن في مسيراته كل مرةٍ ببعيد، ولو فتح له المجال لزحف زحفة رجلٍ واحد ولاقتلع الصهاينة وذراهم كالهشيم والنصر على يديه أكيد . وبسم الله وعلى بركة الله نبدأ مرحلة عهدٍ جديدٍ ونحن نعلم وندرك حجم ما قدمه أخوتنا الفلسطينيون العظماء من تضحيات كبيرة في سبيلها وهم كانوا يعلمون ما سيحل بهم مسبقاً-ورغم ذلك- لم يبخلوا على الأمة جمعا بشلالات تلك الدماء في سبيل المجد والحرية وهم يستميتون في الدفاع عن كرامة الأمة كل الأمة. فلهم منا العهد بالوفاء. وإنه لجهاد. نصرٌ أو استشهاد.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
يا أيها الزلزال حنانيك
بينما الناس في متاهة الحياة يغدون ويروحون يصارعون أحداثها ويتفاعلون مع مجرياتها؛ بين ماشٍ على مَهَل ومسرعٍ بغير وَجَل ومستغرقٍ في مستقبلٍ يستشرفه وماضٍ إلى مصير لا يعرفه، وبين مُتحرٍ للحلال لا يبرحه ومسرفٍ في الحرام كأنه لا يعرفه، بين حاملٍ للهموم وآخر تارك أمره للحي القيوم، تعددت نواياهم واختلفت سرائرهم وطواياهم، وإذ هم على اختلاف الحالات وبدون مقدمات زُلزِلت الأرض في تركيا زلزالها وكأن القيامة في جزء من الأرض قد قامت، فالأرض هنالك قد مُدت وأذنت لربها وحُقت، فالصرخات تعالت والآهات توالت، وفرَّق الزلزال بين الأخ وأخيه والأب وبنيه، والرضيع وأمه التي تؤويه، والناس في الشوارع يهرولون كأنهم إلى نُصُب يوفضون، وتراهم من شدة الخطب حيارى كأنهم سكارى وما هم بسكارى، ولكن هول الزلزال شديد وارتداداته لا تتوقف فهي تُبدئ وتُعيد.
والأمر لا يعدو لمحة من لمحات يوم القيامة، فلا السماء انفطرت ولا الكواكب انتثرت ولا النجوم انكدرت ولا البحار فُجّرت ولا القبور بُعثرت ولا الشمس كُوّرت ولا الجبال دُكت، لا شيء من ذلك حدث، بل فقط زُلزلت الأرض في جزء يسير منها زلزالها ولم تُخرج أثقالها وسأل الإنسان -وحُق له أن يسأل- وقال ما لها؟ كأنه لا يعلم أن ربها أوحى لها، وما كان لها أو لغيرها في الوجود أن تفعل شيئا من تلقاء نفسها، وهي طائعة لا تعصي ربها وقد عُرضت عليها الأمانة فأشفقت منها وأبت حملها وحَمَلها الإنسان وها هو يسأل: ما لها؟ هنالك كأني سمعتها تُحدِثُ أخبارها.
نعم سمعتها كأن لم أسمعها من قبل تسأل: أين أهل العظة والاعتبار مما أُحدِث به من أخبار؟ فقط أرسلت لكم نذيرا مِن نُذُرى الأولى وما أزفت بعد الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة، ولكنها أوشكت وأنتم لا تعتبرون ولا إلى الحق تعودون ولا إلى نصرة المظلومين تُهرعون ولا إلى إغاثة الملهوفين تسرعون ولا في وجوه الطغاة تقفون.
فها هي غزة كشفت ستركم وفضحت أمركم، وأنا الأرض المأمورة بأمر ربها أتميٌَزُ عليكم من الغيظ وودت لو أن الله أمرني فابتلعتكم ولا أبالي.
وقد رأيتم نَذرا يسيرا من أهوالي وأنا أسألكم إن اشتد زلزالي عن آثاري أَلَيس قتلا أو دمارا؟ فهذا الذي منه تخافون وتسرعون في الشوارع كأنكم إلى نُصُبٍ توفضون، فهلّا نظرتم إلى غزة وما يحدث فيها من زلزال الظلم والجور والطغيان وآثار ما يجري منكم من خذلان، فإذا الأمهات هناك ثكلت وإذا الزوجات رملت وإذا الأطفال يتمت، وإذا البيوت هدمت وإذا الأَُسَر شُردت، وإذا الحرمات انتُهكت وإذا المقدسات اُغتصبت، فما كان جوابكم وما هو رد فعلكم شعوبا وحكومات، فما أصحاب رسول الله يزأرون فوق الخندق يواجهون الأحزاب، ولا ثمّ معتصم يغيث من استغاثت ولا يجير من استجارت، فأين نخوتكم؟ وإن لم يكن بكم من دين فأين بقايا عروبتكم وكرامتكم؟
فوالله تلك هزة يسيرة هنا أو هناك علّها تهز مشاعركم وتحرك بقايا ضمائركم، فإن لم تفيقوا أو تستفيقوا فائذنوا بحرب من الله ورسوله أنا أول مقدماتها وبداية نُذُرها، ولا تسألوا بعد ذلك لِمَ زلزت الأرض زلزالها فقد أنذَرتكم وحدَثتكم أخبارها، ولكل حادثة لها ما بعدها.