بعد أن كان جهاز الراديو موجودًا في بعض البيوت، وكأنه جهاز نخبوي، أصبح متوفرا، وأخذ ينتشر لدى الجميع تقريبا، من نهاية يوليو 1970م بظهور الإذاعة العمانية. وساعد على انتشاره وسهولة اقتنائه أنه أصبح أصغر حجما وأقل سعرا.. وتغيرت أولوية وطقوس الاستماع للإذاعات، فأصبح السواد الأعظم من الناس يتابع الإذاعة الوطنية، وحفظ التردد على الموجة المتوسطة 1242 في الشمال، و738 في الجنوب.
بين عامي 1970 م و1974 م طبيعي أن تتصدر الإذاعة المشهد، ويخلو لها الجو، لأنها تكاد تكون الوسيلة الوحيدة في غياب التلفزيون، وما زال حضور الصحافة أضعف من منافسة الراديو. فجريدة الوطن التي حققت أول حضور صحفي في المجتمع، وتلتها صحيفة عمان في عام 1972 م ما زالت تصدر أسبوعيا، ويصعب أن تصل إلى كل البلاد لقلة الشوارع وضعفها، ووسائل النقل والبريد. أما الراديو فهو جهاز سحري، يعبر الحدود الجغرافية ويخترق الحدود السياسية، يرافقك في الأسفار، يمدّك بأحدث وأسرع الأخبار، يقدم لك خدمة مجانية، يسهل حمله، لا يحتاج منك أي طقوس لمتابعته، يؤنسك في الوحشة، يخاطب الأذن ويرسم في الأذهان صورا من خيال المتلقي كما يتمناها هو، وليس كما تفرضها الصورة؛ لذلك فالإذاعة هي ونيس من نوع خاص قد تفوق حتى الكتاب، فهي لكل الفئات حتى الأعمى والأمي اللذين لا يلبي لهما الكتاب أو الصحافة احتياجهما المعرفي والترفيهي. كُتب في أحد الإعلانات الصحفية المصرية في تلك الحقب، ترويج لنوع من أجهزة الراديو: (زميل الفلاح، وأنيس القرية).
وهنا في سلطنة عمان أيضا أصبحت الإذاعة رفيقا وأنيسا، فانتشار السيارات يعني انتشار الراديو، وميزة جهاز السيارة أنه مثل بعض الأجهزة الكبيرة، به عدد من الأزرار التي يمكن تثبيت بعض المحطات عليها، رغم أن جغرافية مسقط لا تساعد على التقاط كثير من المحطات الخارجية.
يأخذه الصياد في قاربه ليسليه ويتابع حالة الطقس، خاصة في الحالات الاستثنائية للمناخ. وإذا مررت على المَزارع ستجد البيدار (الفلّاح)- عندما كان الفلاح عمانيا- يعمل على إيقاع الإذاعة، ويخفف عنه وحشة ظلام الليل وهو يولّم الفلج (يحول مساره لأخذ حصته)، وإذا تجولت في السوق بين الدكاكين التي تفتح باكرا ستجد الإذاعة تملأ الأثير، في المحلات والمطاعم، التي كان البعض القليل منها لديه أجهزة أسطوانات، فحل الراديو محلها، وكذلك حافلات المدارس، وسيارات الأجرة.. أما ربة البيت فتضعه في المطبخ لتستمع بينما تتابع أعمال البيت، وقد تأخذ استراحة خاصة مع الإذاعة عندما يبدأ برنامج الأسرة بالذات، ويضعه الطالب بجانبه وهو يذاكر دروسه ويحل واجباته، فمن أسرار متابعة الراديو أنه لا يشوش عليه تركيزه! أصبح توفره سهلا في يد كل شخص، في صورة تشبه إلى حد ما توفر الهواتف النقالة اليوم. خاصة وقد صغر حجمه وتعددت أنواعه وأحجامه وألوانه، وظل نوع أو اثنان يتصدران المبيعات لجودتهما وحجمهما.. لم نكن نعرف بعد موجات الـ FM التي ستحدث نقلة نوعية في جودة الصوت، وتُطرح لاحقا أجهزة أصغر بكثير وبحوالي عشر موجات.. ظهر نوع صغير مربع ومفلطح وبألوان عديدة، رغم أنه بموجة واحدة فقط (Mw المتوسطة) اشترى لي والدي واحدا لونه أخضر، أحد وجهيه عبارة عن سماعة وبه مفتاحان فقط أحدهما للتشغيل ومستوى الصوت والآخر لتثبيت المحطات، كنت أنام وأتوسد به أذني وأنا أستمع إليه، أو أضع سماعة الأذن الأحادية فتظل أصواته تنساب إلى دماغي في متعة لا أنساها حتى أستسلم للنوم، أو أصحو على ألم في أذني من شدة ضغط السماعة عليها - وهي حالة ما زلت أتلذذ بها وأمارسها أحيانا إلى اليوم-.
يحدث أن تتحلق مجموعة أشخاص حول جهاز الراديو للمتابعة الجماعية في بعض الأعمال، خاصة المسلسلات أو الأخبار الاستثنائية.
أما ظهور وانتشار (راديو ومسجل) في جهاز واحد، فقد فتح بابا واسعا لهواة التسجيلات، فيسعى بعضهم إلى شراء كميات كبيرة من أشرطة الكاسيت الفارغة ليضعوها على أهبة الاستعداد لتسجيل الأغنية التي تروق لهم، خاصة من برنامج ما يطلبه المستمعون، أو المسلسل الذي يعودون لمتابعة أحداثه، أو المسابقة الإذاعية التي سينافسون على جوائزها. ومن يخشى على المادة المسجلة من أن يأتي من يسجل فوقها مادة أخرى فيلغيها، فالسر يكمن في صمام صغير جدا أسفل الشريط يمكن كسره أو حشوه بأي شيء ليصبح الشريط قابلا أو غير قابل لإعادة التسجيل.
(قالوا في الريدو)، (قال المذيع)، (قالت الإذاعة). عبارات تعني ضمنيا أن مصادري موثوقة فلا تجادلني فيها، لأن الإذاعة مصدر الأخبار والمعلومات الصادقة والصحيحة.. هكذا كانت الإذاعة ترافق الناس على مدى أكثر من مائة عام في كل العالم. وبالإضافة إلى الظروف العادية يلجأ له الجمهور في الملمات والأحداث الجسام، ويلتفون حوله كحالة جمعية - وإن لم يجمعهم المكان-.
ومثلما يحدث الآن في الهواتف النقالة من جدال حول قوة البطارية وطرق الشحن والباوربانك، كان يدور بعض الجدال حول أفضل البطاريات التي تعمر طويلا، ولا يقبل البعض بأقل من (بو قطو) إفرريدي. وسرت معلومة أن البطارية بعد ما ينتهي عمرها يمكن أن تضعها في الشمس فترة فتشحن نفسها قليلا (لا أعرف حتى الآن إن كانت هذه حقيقة علمية أم لا).
في كل العالم أدّت الإذاعة أدوارا كبيرة في قيادة الرأي العام نحو أهداف يراد تحقيقها وبالذات من قبل الحكومات سواء حملت تلك الأهداف الخير أو دسّت سمومها في العسل.
ومن تجربة شخصية في 1990م إثر غزو العراق للكويت، شعر الناس بصدمة كبيرة، وانشق العرب فريقين تقريبا، وبدأت تتشكل لعبة سياسية جديدة، وأخذ الإعلام العربي والأجنبي يكيل على الناس حسب أجندة كل محطة أو دولة. وزادت ساعات البث الإذاعي بإذاعة سلطنة عمان لتصبح على مدار الساعة بعد أن كان البث اليومي من السادسة صباحا إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وأصبحت الأخبار على رأس كل ساعة.. ووسط هذا الزحام والقلق تهافت الناس على شراء أجهزة الراديو، وخاصة الصغيرة التي يسهل حملها.. المفارقة في هذا الوقت أنني مذيع، ولكن لم يكن لدي جهاز راديو صغير، فنزلت إلى السوق متوقعا أن أشتري واحدا من أول محل للإلكترونيات، ولكن كانت المفاجأة أنني كلما دخلت محلا يكاد البائع يرد علي قبل أن أسأله بأنه لم يتبق عنده أي جهاز وبأي حجم أو ماركة، وقد جربت أكثر من سوق ولم أوفق، وبما أن البائع في كل المحال أجنبي آسيوي وأنا عربي عماني، فقد كان بعضهم يُتبع رده بتوجيه سؤال لي: (كيف هذا جنجال مال صدام وكويت) (نفرات فيه خوف يمكن صدام يجي مني) (ما فيه زين هذا نمونة).
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل انتصار الجيش ممكن؟
سيظل المشهد نابضاً في الذاكرة، مشهد سقوط “سنجة” ومشهد تحريرها، سواء في “سنجة” أو مجمل المناطق المحتلة بواسطة المليشيات الإجرامية، يظل انتصار الجيش أمراً شديد الأهمية؛ لأنه يعني وقف القتل والتخريب والتهجير . بيد أنّ المشكلات الأخرى المتكاثرة في الدولة التي تبدو الآن أكثر عسراً واستعصاء بعد الحرب سهلة يمكن حلها.
قد يبدو المشهد بائساً للسودانيين في الجزيرة ودارفور بهذا الكم من الجنون المليشاوي الذي يحظى بموافقة وتأييد الغرب وبعض الخونة من السياسيين في الداخل ،رغم القتل والدمار الذي حصل، ويستمر بلا هوادة، فالتغيير على الأرض سيأتي طوعاً أو بالقوة، وهذا سينهي اسطورة مليشيا “الدعم السريع” وكل أشكال التمليش التي زعزعت أسس المجتمع السوداني لتفرض نظاماً مبنياً على الهمجية والوكالة للخارج ..
هذا المشروع تساقط سريعاً إثر ضرب الجيش لمليشيا الدعم السريع وإبطال قدراتها على محاولة الاستيلاء على السلطة ، عندما حاولت القيام بذلك عبر النهج الذي كانت تستخدمه قيادتها في نهب قافلة تجارية على طريق بري في دارفور .
وعلى الرغم من محاولات بائسة لالتقاط زمام الأمور بعد قضاء القوات المسلحة على مشروع مليشيات “حميدتي” فإن أفول هذه الحقبة يفتح المجال أمام فرص حقيقية لقيام نظام حاكم يخطط لمستقبل سوداني واعد بعيداً عن ثقافة الموت والقتال العبثي.
بعد تحرير “سنجة” أصبح تحرير المناطق المحتلة في ولاية الجزيرة امراً ملحاً، لا يحتمل التأجيل أو الانتظار، فالمشاهد الوافدة من هناك مخيفة ومروعة، جثث تقيم داخل البيوت المهجورة وبنايات محروقة أو مهجورة، الآلاف من النازحين ، ارقام قياسية في تاريخ البلاد، بعضهم يفترشون الأرضَ في قلب المدن الآمنة ، وينام آخرون في العراء لتعذر العثور على سقف، مشاهد مؤسفة تنقل رائحة الموت إلى كل الجهات ومعها رائحة القلق والذعر.
الامل معقود، والنصر آت بلا شك ، فتحرير “سنجة” ، وصمود “الفاشر” أعادا التذكير بتفوق قوات الشعب المسلحة واختراقاتِها الاستخبارية العميقة ، وقدرتها على التحرك لسريع لاغتيال امنيات المليشيا المعقودة على ضغوط دولية من اجل العودة الى مربع التفاوض من جديد ، يمكن القول إن الأيام التالية ستشكل منعطفاً تصعيدياً في مسار الحرب وتوسيع مسرح استعادة السيطرة لصالح الجيش والوطن .
توجه القيادة السودانية الجديد ، وتحالفاتها الخارجية التي بدأت تتضح ملامحها مع انقشاع الضبابية، تشير بوضوح الى كيف سيعيد السودان بناء نفسه وتحديدها في ضوء موازين القوى .
ملامح السودان بعد العاصفة ستؤثر بالضرورة على ملامح الإقليم، كما أن ترميم مؤسساته وإعادة جمع حجارة وحدته سترسم موقعه الإقليمي.
ظهور “البرهان” في “سنجة” على هيئة مقاتل ، كشفت عن طبيعة المرحلة القادمة ، وأن انتصار الجيش في معركة الوجود واقع محسوم .
محبتي واحترامي
رشان اوشي
إنضم لقناة النيلين على واتساب