الصحة النفسية.. ينبوع الحياة
تاريخ النشر: 11th, October 2023 GMT
د. سليمان بن خليفة المعمري
يحتفل العالم في العاشر من أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للصحة النفسية، وإذا كان من توصيف للصحة النفسية السليمة بالنسبة للإنسان فهي بحق مهد الصحة وينبوع الحياة بها يذوق طعم السعادة والهناء وطيب وجودة الحياة ومن بين جنباتها تهب عليه نسائم الأنس والحياة اللذيذة، واذا كنت في شك من ذلك أو ريب فاسأل المضطربين والمكتئبين والمهمومين يخبرونك بكل أسى بأن حياتهم في فقد الصحة النفسية بلا طعم ولا لون ولا رائحة، إذ أصبحوا لا يأنسون بشيء ولا يعرفون للبهجة والسرور سبيلا ولا يستسيغون لحظات الفرح، وقد تم في إحدى الدراسات عرض فيلم كوميدي على مجموعة من المكتئبين فأظهروا متعة أقل من غير المكتئبين بل إنهم أعلنوا أنهم شعروا بحزن بسيط حتى أثناء مشاهدة الفيلم الكوميدي، وقد صدق من قال" حين تغادرنا السعادة فإن كل ما نعيشه بعدها لا يعد مغريا".
إن المضطربين نفسيا المفتقرين إلى الصحة النفسية السليمة ينظرون إلى الحياة والعالم بالكثير من السوداوية وتشيع لديهم التفسيرات التشاؤمية التي تركز على القدرة( أنا) وليس على الجهد( المهارة) بالإضافة إلى المعتقدات السلبية غير الواقعية، وكثيرا ما يجترون الماضي ويفرطون في تأمله ويعيشون على أطلاله ويفقدون الأمل في الحاضر والمستقبل ويفتقرون إلى المرونة ويوغلون في الشكوى والتذمر ويندبون حظهم العاثر ويميلون إلى تضخيم الحوادث السلبية، وقد يصابون بالأمراض السيكوسوماتية( الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي)، كما قد يصبحون أشخاصا سكوباتيين يعادون المجتمع وقد يقترفون جرائم مروعة، لذا فإنه لا شيء يعدل الحفاظ على الصحة النفسية وتحقيق السلام والهدوء النفسي والتمتع بمباهج الحياة، والحق إنه لا بد من إيلاء الاهتمام البالغ بقضايا الصحة النفسية وتعزيز الوعي لدى كافة شرائح المجتمع بضرورة الحفاظ على الصحة والتوازن النفسي وإيجاد ثقافة معرفية بسبل الوقاية من الاضطرابات والضغوط النفسية وإمكانية توفير لقاح نفسي psychological inoculation للوقاية من أحداث الحياة الضاغطة عبر تعريض الأفراد لنسخ أخف من الضغوط وسبل التعامل معها، كما إنه من الضرورة اتباع عدد من الاستراتيجيات الفاعلة لتحسين الصحة النفسية للفرد لعل أهمها تعزيز الجوانب الروحية والإيمانية إذ يعد الإيمان أحد أهم القوى الفاعلة في هذا الجانب وصدق الله العظيم" الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)، " سورة الرعد"، بالإضافة إلى إن على الفرد أن يوجه خياراته نحو إثراء الحياة والتمسك بها والبعد عن السلبية وقد قيل في الأمثال" عندما تشرق الشمس، قدم لها التحية" فاستمتع بيومك وافرح بمباهج الحياة واعلم أن الحياة هدية ربانية عليك أن تقبلها وتسعد بها، ولتردد مع شاعرنا الجميل أبو القاسم الشابي :
هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ
ويحتقرُ الميْتَ مهما كَبُرْ
فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ
ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ
كما إن مما يحسن صحتنا النفسية هو أن نتصالح مع ذواتنا وأن نحب هذه النفس التي بين جنبينا فنكون قريبين منها ونسعى لحل مشكلة الفوضى الداخلية لدينا مبتعدين عن السلوكيات المدمرة للذات، متجنبين كل ما يخالف الضمير والحس الإنساني السليم، متذكرين على الدوام " أن الشخص الوحيد الذي نستطيع السيطرة عليه هو أنفسنا"، وأن يكون لدينا هدف نسعى لتحقيقه ومعنى للحياة نعيش من أجله، فما أسوأ أن يعيش الإنسان بلا دور ولا حيثية إذ يحكى عن أحد زعماء الصين أنه كان يعاقب عدوه بأن يوفر له كل ما يشتهي، حتى يجد نفسه بغير تطلع ولا أمل ولا هدف، فيذبل ويقعد ويموت! فالأهداف محرضات تستفز كوامن القوة وملكات الإرادة لدينا لتحقيق النجاح والإنجاز في الحياة.
وإن على من ينشد الصحة والهناء النفسي ألا يبقى أسير الماضي وأخطائه إذ كلما طال نظرنا للوراء طال تجنبنا النظر للأمام وعلى رأي كينيث أيوكنيكلوس" أن تعلم شيئا من الماضي فهذا أمر، أما أن تظل غارقا فيه هذا أمر آخر تماما" فاستفد من تجارب الماضي وعش حاضرك وتطلع إلى المستقبل بنفس تواقة متفائلة بأن القادم أحلى وأجمل، كما إن الحياة المترعة بالأنس والحب والسعادة لا يمكن أن تتحقق دون التواصل مع الآخر وتقبله والانفتاح على العالم والتفاعل الاجتماعي الراشد والتجاوز عن أخطاء الآخرين ومسامحتهم والتغاضي عن هفواتهم وهناتهم، إذ ليس هناك من وقود يشعل فتيل الأمراض والاضطرابات النفسية أشد من الوحدة والفراغ والانفراد بالنفس والانعزال عن الآخرين، وقد وجدت أحد المسوحات التي تمت على الراشدين في البيئة الأمريكية أن معظم الأفراد ذكروا أن علاقتهم بالأسرة والأصدقاء كانت المصدر الرئيسي للرضا عن الحياة والإحساس بالإشباع والهناء النفسي.
والواقع أن خير وسيلة للتمتع بالسلام النفسي وعزل تأثيرات الحوادث السلبية التي تواجهنا في الحياة هي الإمعان في المزيد من الأفعال الإيجابية والاشتغال بالنافع المفيد، فإذا داهمك القلق واحاطت بك جيوش الكآبة والإحباط فافزع إلى العمل واخرج إلى الحياة والناس، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم من يشعر بالغضب إلى تغيير الهيئة التي عليها ففي الحديث الذي رواه أبو ذر الغفاري:" إذا غضبَ أحدُكم وَهوَ قائمٌ فليجلِسْ فإن ذَهبَ عنْهُ الغضبُ وإلَّا فليضطجِعْ"، لذا فإن ممارسة بعض السلوكيات من شأنها تعزيز صحتنا النفسية والجسدية وتغيير الحالة المزاجية كممارسة الرياضة عبر برنامج ثابت وليس مجرد تدريب واحد فقط، وممارسة التأمل وتمارين الاسترخاء وتعلم أساليب التعامل مع الضغوط وإدارة الوقت، كما وجد أن القراءة والكتابة يعملان على تحسين المزاج وتخفيف وطأة المشاعر السلبية بسبب الانفعالات الإيجابية المرافقة لهما، بالإضافة إلى مساعدة الآخرين وتقديم العون لمستحقيه، ففي أحد التجارب المثيرة، قام الباحثون بإعطاء مجموعة من الطلبة بعض النقود في الصباح، وكانت التعليمات لبعضهم أن ينفقوا النقود على أنفسهم بينما كانت التعليمات لآخرين( اختيروا عشوائيا) أن يشتروا بالنقود هدية جميلة لشخص ما، وطلب من جميع الطلبة أن يذكروا ما حدث في آخر اليوم للباحثين، وقد افترض معظم الناس أن المبحوثين سيفضلون أن ينفقوا النقود على أنفسهم، لكن كانت المفاجأة أن الذين اشتروا الهدايا ذكروا في آخر اليوم أنهم كانوا أكثر سعادة، فإذ أردت أن تسعد فاسعد من حولك وتقاسم معهم مشاعر الأنس والفرح والبهجة والسرور.
وختامًا.. ورغم سعي الإنسان الحميم نحو السعادة والهناء ورغبته العارمة في صفاء حياته مما قد يعكرها من الأكدار إلا إن سنة الحياة قد تخالف توقعاته فكان لزاما عليه أن يظهر المرونة والشجاعة والتقبل في مواجهة أقداره وتحديات الحياة، فيتذكر أن الحياة إخفاق ونجاح وعليه أن يتقبل إخفاقاته بواقعية وروح رياضية وأن يحتفل بنجاحاته وإنجازاته ويسعد بها مهما صغرت، وقد صدق الفيلسوف الألماني الكبير نيتشه إذ يقول" ما دمت حيا فستعاني، والطريق الوحيد أن تجد معنى لمعاناتك"، كما أصاب الروائي الروسي الكبير فيودور ديستويفسكي حين قال" إن شيئا واحدا يروعني، هو ألا أكون جديرا بألآمي"، فعلى الإنسان أن يتعامل بحكمة ورشد مع تحديات وأقدار الحياة وأن يستعصم بالأمل والتفاؤل والإيجابية ليستعيد هدوءه وتوازنه وصحته النفسية ولله در الشاعر حين قال:
خُذِ الحَيَاةَ كما جاءتْكَ مبتسماً
في كفِّها الغارُ أَو في كفِّها العَدَمُ
وارقصْ على الوردِ والأَشواكِ متَّئِداً
غنَّتْ لكَ الطَّيرُ أَو غنَّتْ لكَ الرُّجُمُ
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
"رجاء في الظلام".. طرق الوقاية من الانتحـ ار بالمؤتمر العلمي للجنة المجمعية للصحة النفسية
اختتمت لجنة الصحة النفسية ومكافحة الإدمان بالمجمع المقدس المؤتمر العلمي السنوي الثامن عشر لها والذي أقيم على مدار ثلاثة أيام في بيت سان مارك بالخطاطبة، تحت عنوان "رجاء في الظلام - فهم طرق الوقاية من الانتحـ ار".
وشارك في المؤتمر حوالي ٣٠٠ مشارك من إيبارشيات الكرازة المرقسية، من الآباء الكهنة والخدام، والمكرسات، والخدام المهتمين بمجال الدعم النفسي، حيث تم بحث قضية الانتحار، التي تمثل تحديًا نفسيًا واجتماعيًا كبيرًا، وللتوعية بأفضل طرق الوقاية منه.
وتضمن البرنامج حلقات نقاشية ومحاضرات علمية ومعرضًا للكتاب، توفرت خلاله فرصة الاطلاع على إصدارات متخصصة في قضايا الصحة النفسية والوقاية من الانتحار، بمشاركة من مكتبة دار الكلمة ومكتبة الأنجلو المصرية، ما أسهم في بناء وعي متكامل لدى المشاركين.
شهد المؤتمر مشاركة مجموعة من أبرز الخبراء والمتخصصين، الذين ألقوا محاضرات سلطت الضوء على مختلف جوانب الوقاية من الانتحار. من بين هؤلاء الدكتور جوزيف صادق، رئيس وحدة مكافحة الانتحار في كندا، الذي تناول أهمية تقييم مخاطر الانتحار وطرق التدخل المناسب للأفراد المعرضين لخطر السلوكيات الانتحارية.
وتحدثت الدكتورة نعمات علي، مديرة وحدة الطوارئ والدعم النفسي في الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، عن دور شبكات الدعم وكيفية التعامل مع من يهدد بالانتحار.
فيما ركز الدكتور عبد الجواد خليفة، مدير وحدة علم النفس الإكلينيكي، على أساليب العلاج السلوكي المستندة إلى الأدلة مثل CBT وDBT، التي تساعد على تقليل الأفكار الانتحارية وتعزيز الصحة النفسية العامة.
وقدمت الدكتورة كاترين رأفت من فريق إدارة الدعم النفسي الطارئ ومستشفى العباسية للصحة النفسية، محاضرة عن بناء المرونة النفسية والأمل، مع التركيز على أهمية التأقلم وبناء روابط اجتماعية داعمة للأفراد المعرضين للأزمات النفسية.
في حين ناقش الدكتور أحمد سواحل، استشاري الطب النفسي، كيفية تقديم الدعم للأسر بعد حالات الانتحار، مسلطًا الضوء على أهمية توفير بيئة تعزز التعافي وتخفف من آثار الصدمة والحزن.
وفي كلمته دعا نيافة الأنبا ميخائيل أسقف حلوان ومقرر اللجنة المجمعية للصحة النفسية ومكافحة الإدمان، الحضور إلى أن يكونوا "سفراء للحياة"، يحملون نور الأمل إلى من تغمرهم ظلمات اليأس.
وأكد أن "سفراء الحياة" هم كل من يساهم في دعم الصحة النفسية والروحية، سواء من المتخصصين أو المتطوعين أو أفراد المجتمع. وعبّر عن قناعته بأن التكافل والتعاون هما المفتاح لنشر رسالة الحياة والأمل، وأن الكنيسة والقادة الروحيين شركاء أساسيون في تقديم الدعم النفسي والروحي.
اختتم المؤتمر فعالياته وسط إشادة واسعة من المشاركين، الذين أكدوا على أهمية الاستمرار في نشر الوعي المجتمعي والدعم النفسي. وتمنى نيافة الأنبا ميخائيل أن يكون هذا اللقاء منارة للأمل ودعوة للعمل معًا لإيجاد النور في أوقات الظلام، وأن تكون الرسالة التي خرج بها الحضور هي رسالة حياة وسلام لكل نفس متعبة.