ربما لم يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يرأس الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، كم كان صادقاً ومحقاً عندما قال منذ يومين، إن الأحداث بعد الهجوم على غزة، ستنقلنا إلى شرق أوسط جديد بالكامل.
بعد هجوم السبت، سيدفع نتانياهو ثمن مأساته العائلية والنفسية، وستدفع حماس ثمن تضحيتها بالفلسطينيين في غزة، وستظهر في الشرق الأوسط قيادات ووجوه جديدة.
لم يدرك بنيامين نتانياهو، في ظل حماسه المتدفق ربما في مواجهة حماس، أن الشرق الأوسط، اليوم فعلاً على أعتاب مرحلة جديدة ربما تشكل لحظة تاريخية حقيقية. ذلك أن هذا الشرق الجديد، سيكون خالياً، من نتانياهو، أولاً ومن حماس ثانياً، وربما من مشروع اليمين الحاكم اليوم في إسرائيل ثالثاً.
صحيح أن نتانياهو، الذي يتحمل بطريقة مباشرة نصف المسؤولية عن الأحداث على الأقل، وعن تطورها بالشكل الذي نشاهده اليوم على القنوات، ونطالعه على التواصل الاجتماعي، وفي انفجار برميل البارود بسياسته المتطرفة، الخاضعة لإيديولوجيا مؤسسي الصهيونية الأولى، والتي لم تكن تراعي لا تطورات الأرض، ولا المجتمع الإسرائيلي نفسه، والمحيطين العربي والدولي لإسرائيل، بعد أوسلو في 1994.
فإصرار نتانياهو على أيديولوجيا الإحلال، والتهويد والاجتثاث، وضرب أسس حل الدولتين، لابتلاع الأرض، واقتلاع الفلسطينيين منها، وهدم السماء فوق رؤوسهم، في الضفة، وإغراقهم في جحيم القنابل في غزة، سبب رئيسي في حمام الدم، وفي تدفق حمم الجحيم على الإسرائيليين والفلسطينيين.
ولكن مشكلة نتانياهو ليست خياراته السياسية الأخيرة أو تنازلاته لليمين الأكثر تطرفاً، أو ما بعد الجابوينسكية المتشددة التي اعتنقها، ممثلاً في سموتريتش، أو بن غفير، بل في شخصيته ونفسيته، وهو الإسرائيلي الأمريكي، الذي عاد إلى "أرض الميعاد" من فيلاديلفيا محملاً بالشهادات العلمية الرفيعة، والتي طغت عليها مأساته العائلية، حتى أصبح طالب ثأر أبدي.
ورغم أنه شارك في بعض العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين، في أكثر من مناسبة في السبعينات، إلا أن مصرع شقيقه الأكبر يوناثان، في عنتيبي الأوغندية أثناء محاولة تحرير رهائن إسرائيليين وغربيين اختطفهم فلسطينيون من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في 1976، حولت حياة رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي إلى كابوس، بسبب شغفه بالانتقام والثأر من قتلة العقيد نتانياهو، وهو بالمناسبة العسكري الوحيد الذي قتل في عملية إسرائيلية مماثلة من أصل مئات العمليات، منع رئيس الوزراء نتانياهو لاحقاً من تجاوز مأساته الشخصية، إلى أفق السياسة مثل ما فعل قبله إسحق رابين، أو أرييل شارون جزار صبرا وشاتيلا، أو حتى قبل ذلك ميناحيم بيغين الزعيم الأسطوري لليمين المتطرف في إسرائيل تاريخياً، صانع السلام مع الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات.
عندما سجن نتانياهو نفسه في قفص الصهيونة المسيانية، المطالبة بكل شيء، والرافضة لكل شيء، ولكل حل، فإنه حفر قبره السياسي بنفسه، لأن النتيجة لم يكن لها أن تكون إلا هجوم حماس، أو غيرها، يوم السبت الماضي، الذي كان مقدراً ومحتوماً، لا يهم تاريخه، ولكنه كان سيحصل اليوم أو غداً.
ولكن نتانياهو ليس الخاسر الوحيد في الحرب، فبعد القتال عليه غداً أو بعد مئة عام، التفاوض مع الفلسطينيين، على سلام أو هدنة، أو استسلام، أو غيره من المآلات، فهل سيفعل بعد تدمير غزة، وتجريفها، وتهجير سكانها، فيتفاوض مع حماس، بما أنه اقتلع السلطة الفلسطينية من أساسها ودعم في حكومتيه الأولى والثانية، حماس الوحش الذي تربي في حضنه قبل أن ينقلب عليه، لدق عظام السلطة ودفن حلم الدولة الفلسطينية؟ وإذا اختفت حماس من الساحة، فهل يتفاوض مع الجهاد؟ على ترتيب أو شروط إنهاء القتال، أم يعود إلى محمود عباس والسلطة في رام الله؟ وإذا فعل فكيف يواجه أنصاره في إسرائيل، وداعميه في الخارج؟ وبأي وجه، وبأي خطاب؟
أما حماس فهي الخاسر الثاني المقصود، فرغم نجاحها العسكري والنفسي المؤقت، فإن حماس التي تعرف أن المغامرة العسكرية التي أطلقتها وإن حققت لها مكاسب محدودة في البداية، لن تضمن لها الفوز في المعركة، ولا قلب معادلة الصراع في المنطقة، فالنزاع مشكلة دولية منذ يومه الأول، ولن يحل إلا في إطار توافق دولي عليه، بعد توفر الإرادة الجدية لذلك.
ولكن خسارة حماس الأفدح، تتمثل في خسارة معركة الإعلام والدعاية، ونسف كل رصيد التعاطف الدولي السابق مع القضية الفلسطينية، بعد ذبح وقتل مدنيين، فالهجوم على الحفل الموسيقي، واحتجاز رهائن، جرح غائر في الكثير من دول الغرب، وقضية غير قابلة للنقاش في مجتمعات عربية وغربية كثيرة، وارتكاب جريمة رداً على جريمة مماثلة، لا يعفي مرتكبها من المساءلة والملاحقة، وهو ما انتبهت له إسرائيل سريعاً، فانقضت على صور قتلاها الإسرائيليين المستوطنين، والعسكريين، والمدنيين على يد مسلحي حماس، لتنسف جهوداً استمرت عقوداً للتعريف بالفلسطينيين في العالم، دعاة سلام وحوار، يواجهون محتلاً معتدياً، ومغتصباً لأرض ودولة ولحقوق، فالجريمة واحدة، سواء ارتكبها نتانياهو، أو إسماعيل هنية، واليأس والإحباط، لا يبرر قتل الأطفال، والمسنين، لا في كيبوتس، ولا في مخيم لاجئين، هذا ما خسرته حماس، وما خسره الفلسطينيون أيضاً.
خسائر حماس لم تتوقف عند هذا الحد، فهي اليوم رسمياً فصيل فلسطيني رهن نفسه لإيران لعقود طويلة مقبلة، بدليل أنه الفصيل الذي لم تنتفض الجماهير من أجله في الأراضي الفلسطينية نفسها، فلا إضرابات في بيت لحم، أو احتجاجات في رام الله، ولا حتى في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، أو في دول الجوار، ما يكشف حجم صدمة الفلسطينيين قبل الإسرائيليين من مغامرة حماس أولاً، وخوفهم من انعكاساتها الكارثية عليهم ثانياً.
سيدعي البعض أن فلسطينيي الداخل أو الخارج و الشتات خاضعون بالسلطات التي تحكمهم، وهو كلام مردود على أصحابه، فالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية اليوم، أضعف من أن توقف سائق مركبة، أو تعتقل مشاغباً في الشارع، لا أن توقف متظاهرين أو متضامنين مع حماس في غزة، رغم حضور ها القوي في الضفة الغربية، وحتى بين فلسطينيي 1948.
ولتأكيد ذلك، فإن سبب مواجهة الفلسطينيين في غزة اليوم لحمم النار وجحيم الحصار، مغامرة حماس، وجريمتها الأولى يجب تسمية الأمور بمسمياتها، عندما هاجمت مدنيين وقتلت أطفالاً ونساءً، أثارت عليها القريب قبل البعيد، وأعادت عقارب الساعة إلى الوراء إلى ما قبل خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة الشهير، ورفع غصن الزيتون، وحديثه عن الحمامة، فالطائر ذُبح، والزيتونة اقتلعت من جذورها، في غلاف مستوطنات غزة، وهو ما سارع إليه الإعلام الإسرائيلي وساسة تل أبيب، بالحديث عن داعش، و11 سبتمبر، في انتظار، ما ستجود به هوليوود، وقنوات التلفزيون، ونتفليكس، وغيرها، من إنتاجات لن تزول آثارها المدمرة على العرب والفلسطينيين، قبل قرون.
إن نتانياهو، وحماس، اليوم، شريكان في جريمة واحدة، ولكنهما أيضاً، ربما وضعا معاً أسس خطة جديدة للتعامل، مع الشرق الأوسط، بقبر حل الدولتين، نهائياً، أو حل الدولة الواحدة اليهودية، مع كانتونات عربية دائرة في فلكها كما كان الأمر في جنوب إفريقيا زمن الفصل العنصري، لتعود للواجهة، الأفكار التي كانت مطروحة زمن أوسلو، وحتى قبل ذلك بكثير، حل الدولة الفدرالية، أو ثنائية القومية، عربية إسرائيلية، في تذكير، من القبر، بتنظيرات القذافي الشهيرة عن "إسراطين"، وغيرها من المشاريع التي لم يكتب لها يوماً أن ترى النور.
اليوم، وبعد هجوم السبت، سيدفع نتانياهو ثمن مأساته العائلية والنفسية، وستدفع حماس ثمن تضحيتها بالفلسطينيين في غزة، وستظهر في الشرق الأوسط قيادات ووجوه جديدة.
وفي إسرائيل يرجح أن تظهر قيادة يمينية متشددة جديدة، من رحم حكومة نتانياهو المتطرفة، ولكنها حكومة قادرة على التلون وفق ما تقتضيه البراغماتية، بعد أن انهارت أسطورة القبضة الحديدية، وكسر الإرادة للسيادة، وهو ما فعله بيغن نفسه، الإرهابي السابق الذي كان مطلوباً لدى بريطانيا في عهد الانتداب، أو رابين بعده، الذي كان يأمر بكسر عظام الفلسطينيين في زمن الانتفاضة الأولى، قبل التراجع وتغير المسار إلى أوسلو، وحتى قبل ذلك بكثير، بن غوريون نفسه الذي كان يطالب بكل فلسطين قبل أن يتراجع بدافع الضرورة والبراغماتية و ييقبل بقرار التقسيم.
وفي المعسكر الفلسطيني، ستظهر بعد هدوء غبار المعارك، وجفاف شلالات الدماء، قيادات سترفع غصن الزيتون مجدداً، لتقطع نصف خطوة بعيداً إلى الأمام عن أوهام الوطن البديل، والبلد البديل، والخلافة، وغيرها من مشاريع العمائم، لتقيم وطناً جديداً، يضمن الحياة لا الموت، ويضمن التعاون والتواصل لا الأحزمة الناسفة، أو اختطاف الرهائن.
فعلاً إنه شرق أوسط جديد، في الأفق، لننتظر هدوء العاصفة، وإن غداً لناظره قريب.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: غزة وإسرائيل زلزال المغرب انتخابات المجلس الوطني الاتحادي التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل الفلسطینیین فی الشرق الأوسط فی إسرائیل فی الضفة الذی کان فی غزة
إقرأ أيضاً:
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
شرح قاض سابق في المحكمة الجنائية الدولية التداعيات المحتملة لقرار المحكمة المتعلق بإصدار مذكرات توقيف في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
وقال القاضي السابق في المحكمة جيفري نايس في مقابلة مع برنامج الحرة الليلة إن هناك عدة حالات يمكن من خلالها تطبيق القرار، الأولى في حال قامت إسرائيل بتسليم نتانياهو وغالانت وهذا مستبعد تماما.
وأضاف نايس، الذي قاد محاكمة الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، أن الحالة الثانية تتمثل في احتمال نزولهما في أرض دولة من الدول الأعضاء في المحكمة وهنا يمكن أن تحصل ضغوط سياسية للتأثير على الإجراء.
ولم توقع إسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند على الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، بينما هناك نحو 124 دولة منضوية من أبرزها دول الاتحاد الأوروبي وأستراليا وكندا وبريطانيا والبرازيل واليابان وعشرات الدول الأفريقية ودول من أميركا اللاتينية.
ويبين نايس أن نتانياهو أو غالانت يمكنهما السفر للدول غير الأعضاء في المحكمة الجنائية، وفي هذه الحالة قد نرى ضغوطا شعبية وليست حكومية لتسليمه للمحكمة.
ويرجح نايس أن يؤثر القرار على تحركات نتانياهو في المستقبل على اعتبار أن أي دولة ملزمة باعتقاله ولا تفعل فستواجه تداعيات سياسية وشعبية.
ويلفت نايس إلى أن من المتوقع أن يعمد نتانياهو للتشبث بالسلطة أكثر والبقاء بمنصبه لأطول فترة ممكنة من أجل تجنب احتمال الخضوع لسلطة المحكمة الجنائية.
وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية، الخميس، مذكرات توقيف في حق نتانياهو وغالانت، فضلا عن محمد الضيف قائد كتائب عز الدين القسام الجناح المسلح لحركة حماس.
ومن حيث المبدأ، من شأن قرار المحكمة أن يقيّد تنقّلات نتانياهو إذ يتوجّب على أي من الدول الأعضاء الـ124 في هذه الهيئة توقيفه في حال دخوله أراضيها.
ولاحقا، طالب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان الدول الأعضاء في المحكمة والبالغ عددها 124 بالتحرك لتنفيذ مذكرات التوقيف، وقال خان في بيان "أدعو جميع الدول الأعضاء إلى الوفاء بالتزاماتها بموجب نظام روما الأساسي عبر احترام هذه الأوامر القضائية والامتثال لها".
وسرعان ما ردّت الحكومة الإسرائيلية على قرار المحكمة بالقول إن الأخيرة فقدت "كلّ شرعية"، واصفة أوامرها بـ"العبثية".
ولا تملك المحكمة قوة شرطة خاصة بها لتنفيذ أوامر الاعتقال وتعتمد في ذلك على الدول الأعضاء، إلا أن المحكمة ليس لديها سوى وسائل دبلوماسية محدودة لإجبار أعضائها على تنفيذ القرارات إذا لم يكونوا يرغبون في ذلك.