الرأسمالية المتوحشة والعوز المادي
تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT
حين نتحدث عن مصطلح «العوز المادي» يخطر ببالنا صورة الكائن البشري، الوقع في براثن الجوع، والتشرد والمرض والهامشية الرثة؛ التي تجعله يعجز عن العيش بحرية وكرامة، ويظل محرومًا من الحد الأدني من الضرورات التي تضمن استمرار وجوده على قيد الحياة. هذا هو العوز المهين الذي تُدهس فيه كل القيم الإنسانية والطبيعة الفطرية.
ظاهرة العوز المادي هي شكل من أشكال الاستبعاد الاجتماعي، يناضل الفرد من أجل إشباع احتياجاته الأساسية، وقد يعجز عن تحقيق ذلك، مما يولد لـديه شعورًا بالعجز واليأس والدونية، يجعل هذه الفئة من البشر تعيش في حالة من التهميش والانطواء، ويصير أفرادها في عزلة اجتماعية دائمة، وفي أحيان كثير يصبح قطاع كبير منهم تربة خصبة لنمو الأفكار المتطرفة وغرسها، سواء من جماعات إرهابية أو عصابات إجرامية؛ ليس لمجرد إشباع حاجتهم المادية فحسب، ولكن أيضًا بسبب ما يعتمل بداخلهم من حقد تجاه المجتمع، وكراهيتهم له وفقدانهم الثقة فى مؤسساته.
إن الشعور بالعوز المادي قد يدفع الفرد - في بعض الأحيان - إلي ارتكاب بعض الجرائم كالسرقة مثلًا – من أجل إشباع حاجاته الأساسية، ويُعَد هذا الشخص - فى نظر القانون - لصًا يستأهل العقاب. على الجانب الآخر، تتم السرقة على يد الأغنياء والأثرياء ورجالات الدولة والمسئولين الكبار؛ الذين يمتصون دم العمال والكادحين من الفئات الدنيا للشعب، في مثل هذه الحالات يتم النظر إلى هؤلاء اللصوص الكبار، لا بوصفهم مجرمين؛ وإنما باعتبارهم الساهرين على مصلحة الوطن والمواطن!! وتزداد الطين بلة حين يسعى أولئك اللصوص لتجميل صورتهم؛ فيعلنون عن تبرعهم من أجل وطنهم بمبلغ من المال يعادل جزءًا ضيلًا من حجم الصفقات التي يتربحون منها!! إن سياسة الصدقات والتبرعات والهبات، هى في حقيقة الأمر إمتهانً لكرامة الإنسان وإذلالٌ له. ومن أجمل ما قيل عن «العوز المادي» مقولة المناضل الثائر «تشي جيفارا» الذي قال: «إن الفقر ليس عيبًا..» وكان على وشك أن يستطرد من أجل إكمال كلامه، إذ كان يريد أن يقول:.. بل هو جريمة»، ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحاد!!
لاشك أن الظلم وتبني السياسات الطبقية التي تعمل على إغناء الغني وإفقار الفقير؛ هي متلازمة الأنظمة التي تتصف بخصائص أهمها غياب العدل والافتقار إلى المساواة في توزيع الدخل القومي، والعمل على اتساع دائرة الحرمان المادي، التي تُعَد أقصر الطرق وأسرعها لنشر العبودية والتبعية وتغييب الوعي، ولقد عبر كارل ماركس عن ذلك بوضوح شديد؛ في مقولته الشهيرة: «الفقر لا يصنع الثورة، إنما الوعي بالفقر هو الذي يصنع الثورة. أما الطاغية، فمهمته تكمن في أن يجعلك فقيرًا، في حين أن مهمة رجل الدين المتحالف مع الطاغية هى تغييب وعيك».
غالبًا ما يسعى أى حاكم للسيطرة على شعبه وجعله عاجزًا خاضعًا لإرادته مفتقرًا لمشيئته، يستمد قدرته على السيطرة من الحاجة المستمرة للطرف الآخر بدلًا من المواجهة، فالعبودية لكي تؤسس طبقات اجتماعية مستلبة الإرادة وذليلة لها، تنطلق من مدخل واحد هو التحكم في قوت المواطن التي تفضي إلى التحكم في فكره، وبذلك يصبح الفرد مسلوب الإرادة وفي حاجة مستمرة إلي ذات أخرى أقوى منه، حيث إنه لا يستطيع تحمل ذاته الفردية المستقلة عن ذوات الآخرين ليخضع لها ويحتمي بها.
أسهمت الأيديولوجية الأصولية الدينية في ترسيخ ظاهرة العوز والتفاوت الطبقي في ذهنية المحرومين بوصفها أمرًا طبيعيًا وقدريًا، ويتم تبشيرهم أنه بفضل فقرهم؛ هم أقرب إلى الله من الأغنياء. كما يحث رجال الدين الناس على الزهد المادي، ويهنئون الفقراء على إيمانهم وترك متاع الدنيا الفانية للأغنياء، ويرددون - على مسامع الفقراء - ليل نهار - أن الآخرة خيرٌ وأبقى؛ وأن الثروات فيها غواية للنفس البشرية، وهى تصرف الإنسان عن ذكر الله وعبادته، وهكذا يمتثل البسطاء لمصيرهم المحتوم، ويسعدون بحرمانهم على أمل الفوز بالثروة الحقيقية التي تنتظرهم في الآخرة. وإذا نسينا فلن ننسى رجل الدين في الفيلم المصري «الزوجة الثانية» وهو يحث الفلاح الفقير على التوقيع من أجل التنازل عن حقوقه، قائلًا له: «أمض يا ابو العلا يا إبني!!»
نحن لسنا ضد الدين، ولكننا ضد سطوة رجال الدين على عقول الفقراء واختزال دور الدين عندما يتعلق الأمر بالعوز في مجرد التعاطف والمُواساة والدعاء بالخير، كما أننا نرفض الكلمات الناعمة المخادعة التى تخدر وعي الفقراء، وتعدهم بأن العدالة لا تتحقق على الأرض، بل ستتحقق هناك في السماء. إن الأديان جميعًا كانت في الأصل ثورة ضد الظلم، ودعوة للعدل والحرية وحماية المقهورين والمستضعفين من أجل استعادة إنسانيتهم وحقوقهم المهدرة.
دعاء حسن
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: من أجل
إقرأ أيضاً:
ليس تفضلا.. كيف يكون الرفق بالفقير سبيل نجاتك؟
ومن خلال استحضار نصوص قرآنية وأحاديث نبوية وقصص واقعية، تؤكد الحلقة أن التعامل مع الفقراء ليس مجرد فعل خيري، بل اختبار إيماني يُحدد مصير الإنسان في الآخرة، مستعرضة حكمة الإسلام في ترسيخ قِيم الرحمة والتكافل.
وبدأت الحلقة بتساؤل صادم لشخص لم تظهر ملامحه "أحس أن الفقراء نصابون.. كيف أصدقهم؟"، ليجيب الشيخ الكندري عبر قصة رمزية عن "اليد الخشبية" التي شاهدها في أوروبا، والتي تذكّره بأيدي الفقراء الممدودة بصمت، قائلا "اليد العليا (المنفقة) خير من اليد السفلى (السائلة)".
واستدل الدكتور عبد الرحمن الحرمي، ضيف الحلقة، بآية "وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ"، مؤكدا أن المال أمانة إلهية، وأن الصدقة دليل على يقين العبد برزق الله.
وحذّر من وساوس الشيطان التي تُعظّم قيمة المال في نفس الغني، وتُشعره بالخوف من الفقر، داعيا إلى تجاوز الشكوك "لا ترد السائل.. أعطه ولو 10 ريالات بابتسامة".
الرفق النفسيوكشفت الحلقة عن جانب مُغيّب في التعامل مع الفقراء، وهو "الرفق النفسي"، حيث عرضت قصة امرأة فلسطينية لاجئة في الأردن تعيل ابنتها المعاقة جسديّا وعقليّا منذ 44 عاما، وابنها الآخر ذو العشرين عاما المصاب باضطراب عقلي.
إعلانوقال الحرمي "هؤلاء يذكروننا بأن ابتلاءاتنا صغيرة.. فكر فيمن يربط ابنه ليلا خوفا من أن يؤذي نفسه وأخته"، ولفت إلى أن الابتلاءات ليست عقابا، بل اختبارا لحكمة إلهية، مستشهدا بقصة خرق السفينة الواردة في سورة الكهف.
وتناولت الحلقة مفهوم الصدقة الشامل في الإسلام، الذي لا يقتصر على المال، بل يشمل الكلمة الطيبة والابتسامة وإماطة الأذى.
وروى الكندري قصة شاب تبرع بـ11 ألف ريال لعلاج طفل مريض بعد اتصال مؤثر، قائلا "الله يستخدمك أحيانا دون أن تدري.. كن قناة للخير".
وشدّد الحرمي على أن التعامل بلطف مع الفقير -حتى عند عدم القدرة على العطاء- يُعيد التوازن النفسي له، داعيا إلى تجنب الوعد الكاذب "لا تعد ببناء بيت إلا إذا كنت جادا.. فخيبة الأمل تدمر الفقير".
التوازن الاجتماعيوأجاب البرنامج عن سؤال وجود الفقر في العالم بقوله تعالى "وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا"، موضحا أن التفاوت في الرزق يخلق توازنا اجتماعيّا، ويذكّر الأغنياء بمسؤوليتهم تجاه الفقراء.
واستشهد الكندري بحديث "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، مؤكدا أن إطعام المسكين سبب للنجاة من النار، حتى لو كان التصدق بكلمة طيبة.
واختتمت الحلقة بقصة مؤثرة عن امرأة عجوز في بوركينا فاسو، لم تمتلك سوى غرفة طينية متداعية، وبعد بناء منزل جديد لها، دعت للقائمين على المشروع بالسلامة، وبعد أسابيع، نجا فريق العمل من حادث تحطم طائرة، ليربط الحرمي بين الدعاء والنجاة، قائلا "الفقراء قليلوا ذنوب.. دعواتهم مستجابة".
ويدعو البرنامج في حلقته "رفقا بالفقراء" إلى إعادة تعريف الرحمة، والنظر إليها عبر ابتسامة تعيد الأمل، وكلمة تشعر الفقير بإنسانيته، وصدقة تحرر الغني من شُحّ نفسه، وفي هذا يقول الكندري "الرفق بالفقير ليس تفضلا بل هو حق له وواجب عليك".
إعلان 9/3/2025-|آخر تحديث: 9/3/202512:49 ص (توقيت مكة)