لستُ من أنصار الهوامش الكثيرة في القصص القصيرة والروايات -

كنتُ أستبعد أن يهدّد التقدّم التكنولوجي مهنة الترجمة.. والآن لم أعد متأكّدة من ذلك!

هناك مترجمون أخلصوا للمجال وقدّموا أعمالا تشعرك بأنها النَصّ الأصلي -

الرقابة من كل الجهات من التحدّيات المستمرة التي نواجهها -

قرأتُ كتبًا لمترجمين كبار بها أخطاء في فهم المعنى الفعلي -

الترجمة عبر لغة وسيطة لا تقلل من قيمة العمل -

في الأعماق التي يغمرها صدى الكلمة وأصداء اللغات، يستيقظ عالم الترجمة بكل تفاصيله وتعقيداته.

. هذا العالم الذي يشهد تقاطع الثقافات واحتكام اللغات، يكشف عن حاجة ماسّة للتنوع الثقافي، الذي يعد مفتاحا لبناء جسور التواصل والفهم بين الشعوب. في هذا السياق تبرز المترجمة العمانية ريم داوود، وهي تعبر حدود الثقافات وتتجاوزها، مستلهمة من التجارب التي عاشتها وهي تجوب ثقافات العالم متنقلة من الهند، التي كانت بوابتها الأولى وصولًا إلى فنلندا والأرجنتين وتركيا وما وراءها، مما ساهم في ترسيخ مكانتها بصفتها مترجمة بارعة وعاشقة للأدب..

تبدأ رحلتها الأدبية بترجمة رواية «دكان الساري» لروبا باجوا، لكن سرعان ما توسعت رؤيتها لتشمل مجموعة واسعة من الأعمال الأدبية المتنوعة والغنية، حيث ترجمت «القناص» لبلايز مينفسكي، ومجموعة «سبع ليال في حدائق الورد» ليي ماي، و«التطهير» لصوفيا أوكسانين، و«حديقة الكلاب» لصوفيا أوكسانين، و«الموت في بابل.. الحب في إسطنبول» لإسكندر بالا، و«سحر» لصلاح الدين دميرتاش، و«التعساء» لديمتري فيرهولست، و«فندق الغرباء» لديمتري فيرهولست، و«اسمي نور» لإلسا أوسوريو، و«زيارة لمكتبات العالم» لخورخي كاريون، و«لا صديق سوى الجبال» لبهروز بوتشاني، و«أمي عميلة سرية» لأوندراش فورجاتش، و«أحزان هندية» لعبدالله خان، و«سفر دانيال» لإي إل دوكترو.

في هذا الحوار تقدم ريم داوود وجهة نظرها حول التوازن المطلوب بين الدقة اللغوية والولاء للثقافة الأصلية، وفي زمن تقني نشهد فيه طفرة في الترجمة الآلية، تتحدث عن مكانة الإنسان في هذا المجال.. ونستكشف جوانب فن الترجمة ومواجهة التحديات التي تقابل المترجمين في عصرنا الراهن.

في أعماق فن الترجمة الثقافية، يواجه المترجمون تحديا معقدا، حيث يتعين عليهم التلاعب ببراعة بين الإلمام اللغوي المطلق واحترام السياق والخلفية الثقافية للنص. بصفتك مترجمة، بأي طريقة تمزجين بين هذين الجانبين الحيويين في عمليات الترجمة التي تقومين بها؟ وعندما تصطدم بالتحديات المتعلقة بذلك، ما القضايا التي تظهر أمامك وكيف توجهين جهودك لتجاوزها بكفاءة؟

الفكرة هي أن تنقل النَصّ، بكلّ مضامينه، التي تعكس ثقافة أخرى، مختلفة تمام الاختلاف عن ثقافة القارئ، في الأغلب، بأسلوب سلِس ولغة رشيقة، تجذب القارئ وتدفعه لمواصلة القراءة دون ضجر. لستُ من أنصار الترجمة الحرفية، وخاصّة عندما يستخدم المؤلف عبارات اصطلاحية تخصّ لغته. ترجمتُها كما هي تجعل النصّ العربي غريبًا وغير مفهوم، في معظم الأحيان، ويمكن حلّ ذلك بكتابة المعنى، دون الالتزام بترجمة كل كلمة في العبارة. نقل المعنى للقارئ، هو الأهمّ في رأيي، وخاصّة في الأعمال الأدبية.

كذلك، لستُ من أنصار الهوامش الكثيرة في القصص القصيرة والروايات، لشرح ما يقصده المؤلف. يمكن تجنّب ذلك عن طريق كتابة المعنى، والابتعاد عن ترجمة النَصّ حرفيًا. يحافظ ذلك على متعة القراءة.

الترجمة الأدبية هي إعادة صياغة للنَصّ الأصلي، بصورةٍ مقبولة وبعبارات مفهومة. لكي تنجح في ذلك عليك أن تمتلك لغة عربية سليمة، وأن تعرف اللغة التي تترجم عنها معرفة جيّدة، وأن تكون مُلِمًّا بثقافة المجتمع الذي يكتب عنه المؤلّف. يمكن تحقيق كل ذلك عن طريق القراءة باللغتين، إذ لا كتابة ولا ترجمة دون قراءة. الأخيرة هي الأساس لأعمالٍ أدبية حقيقية. على المترجم ألّا يكتفي بقراءة الكتب وحدها، وأن يسعى لزيادة حصيلة لغته ومفرداته ومعلوماته عبر مصادر الثقافة المختلفة، المتاحة له.

عادةً، لا تواجهني مشكلات من هذا النوع، إلّا إذا تناول العمل الأصلي موضوعات أنا غير مُلمّة بجوانبها على نحوٍ تامّ، كالحركات السياسية والأحزاب، على سبيل المثال. حدث ذلك عند ترجمتي لرواية «اسمي نور»، للكاتبة «إلسا أوسوريو»، وتكرّر ثانيةً عند ترجمة رواية «سِفر دانيال» للكاتب «إي إل دوكتورو». في المرّتين، اعتمدت على البحث والقراءة لاستكمال ما ينقصني من معلومات.

هناك مجالات لا أفهمها بتاتًا، مثل الاقتصاد. قبل سنوات قليلة، عُرضت عليّ ترجمة كتاب عن الاقتصاد، فاعتذرت عن عدم قدرتي على ذلك، حتى قبل الاطّلاع عليه؛ لإدراكي أن غيري سيخرجه بشكلٍ أفضل منّي بمراحل، وإنني لو ترجمته فسوف أسيء لنفسي وللمؤلّف والقارئ معًا.

بالنظر إلى التقدم التكنولوجي وتطور أدوات الترجمة الآلية، هل تعتقدين أن هناك تهديدًا لمستقبل مهنة الترجمة البشرية؟ وكيف يمكن للمترجمين البشريين البقاء ضروريين وملائمين في هذا السياق المتغير؟

الواقع أنني كنتُ أستبعد أن يهدّد التقدّم التكنولوجي مهنة الترجمة، لكنني لم أعد متأكّدة من ذلك الآن، حيث باتت كلّ المهن والوظائف والحِرَف مهدَّدة، كما أعتقد، لكنني، مع ذلك، أظن أن لا شيء يضاهي الحِسّ البشري في الأعمال الإبداعية، مهما تطوّرت الأدوات المستخدمة، قد يسهل الاعتماد على الترجمة الآلية في مجالات مثل الترجمة الطبّية والقانونية والاقتصادية، على سبيل المثال، لاعتمادها على قوالب وعبارات وصِيَغ محدّدة، ومتكررة؛ بينما تحتمل عبارات النصوص الإبداعية صياغتها بطرقٍ مختلفة عند ترجمتها.

.. لكن مع تزايد التواصل العالمي والتحولات السريعة في العالم الرقمي، هل تعتقدين أن الترجمة اللغوية تؤدي دورًا مهمًّا في تعزيز التفاهم الثقافي ومقارنة الثقافات وأن يؤدي الأدب العالمي دورًا مؤثرًا في تعريف هويات الثقافات المختلفة؟ وهل يمكن أن تسهم الترجمة في تجاوز الصعوبات والتحديات التي يمكن أن تنشأ من التفاعل الثقافي بين مختلف الثقافات في هذا الزمن الحديث؟

هذا بالضبط ما تفعله الترجمة، في رأيي، إنها تُخرج الإنسان من عزلته، واكتفائه بما يعرف، لعوالم أكثر اتساعًا ورحابة. تنقل القارئ إلى مجتمعات أخرى، وتعرّفه إلى بشر آخرين، وشخصيات وحكايات، وهو ما يُسهم في تقليص المساحات التي تفصله عن أفكار غيره من المجتمعات، وتجعله أكثر فهمًا وتقبّلًا لها. أقول دائمًا: إننا بحاجةٍ ماسّةٍ لفهم غيرنا من المجتمعات، وتقبّل عادات الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم، دون رفضها أو الاستهانة بها. تؤدي الترجمة هذا الدور بنجاح، وتقدّم لنا ثقافات الشعوب المختلفة، في هيئة كتب تمتعنا وتحثّنا على التفكير.

في عالم الترجمة، يُلاحظ أن هناك تركيزًا كبيرًا على ترجمة الأعمال من الإنجليزية إلى لغات أخرى، بينما تكون نسبة ترجمة الأعمال من لغات أصولها أقل بشكل ملحوظ. ما الأسباب التي ترتبط بهذا التركيز؟ وما الآثار المحتملة لهذا الاتجاه على التنوع الثقافي والأدبي؟ وكيف يمكن ضمان أن الترجمة من لغات أصول النصوص تظل ممثلة دقيقة للأصل ولا تفقد من جودتها أو تعبيرها في الترجمة النهائية؟.. ما دور المترجمين في نقل التفكير الفلسفي والأدبي بدقة وإبداع؟

يعكس الأدب العالمي، الكلاسيكي والمعاصر، طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه المؤلّف، ولسنوات طوال، انحصر اهتمام دور النشر في ترجمة الأعمال المكتوبة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، إلى جانب بعض الأعمال الروسية المهمّة. قليلًا ما كنّا نجد أعمالًا مترجمة عن لغات أخرى. يعجبني حرص دور النشر المختلفة اليوم على ترجمة أعمال من شتى أنحاء العالم، حيث ساهم ذلك في تعريفنا بثقافات أوروبية وآسيوية وإفريقية.. صرنا نقرأ مؤلَّفات من فنلندا والنرويج ونيجيريا والمكسيك والبرازيل والهند والصين وكوريا والبرتغال وغيرها.. بعض هذه الأعمال مترجم من لغة الكتابة الأصلية، وبعضها الآخر مترجم من لغة وسيطة، هي الإنجليزية في معظم الأحيان. لدينا اليوم مترجمون متميزون، يجيدون الصينية والألمانية والإسبانية، ويترجمون منها مباشرةً أعمالًا رائعة، لكن لغة كالفنلندية -على سبيل المثال- تعاني من نقصٍ في المترجمين. من يجيدونها، تحدّثًا وكتابةً، لا يعملون في مجال الترجمة، أو يفتقرون إلى موهبة الترجمة، ونتيجةً لذلك تضطر دُور النشر للجوء إلى ترجمة النسخة الإنجليزية من الأعمال المكتوبة بالفنلندية، هذا ما حدث معي عندما ترجمتُ روايتيّ «التطهير» و«حديقة الكلاب» للكاتبة «صوفي أوكسانين».

لا أعتقد أن الترجمة عبر لغة وسيطة تقلّل من قيمة النَصّ الأصلي، فعادةً ما تهتمّ دور النشر الأجنبية بمراجعة وتصحيح الترجمات، قبل إصدارها؛ وعادةً كذلك ما تكون النسخ الإنجليزية مكتوبة بلغةٍ رفيعة. في حالة الشكّ في صحّة المعنى المقصود، بوسعي دومًا كمترجمة مراسلة دار النشر الأجنبية، أو من يمثّل المؤلّف، أو حتّى المؤّلف شخصيًّا -في بعض الأحيان- للتأكّد من المعنى.

تمتلئ الأعمال المعاصرة بمشاهد ومواقف تعكس التحرّر الديني والاجتماعي في المجتمعات غير العربية، فكيف تتعامل بعض دور النشر مع ذلك؟ تسارع بالتدخّل وحذف المقاطع التي تزعجها بالكامل، أو تحاول اختيار كلمات ومفردات بعينها. يزعجني ذلك -بصفةٍ شخصيةٍ- كمترجمة وكقارئة في آن. ما معنى وما جدوى الحذف، وتخفيف الكلمات والعبارات ونحن نعيش في زمنٍ صار بوسعك فيه الاطّلاع على كل ما تريد معرفته وقراءته ورؤيته وسماعه، بضغطةٍ خفيفةٍ على أزرار هاتفك؟!

تشكّل الرقابة التي يفرضها بعض الناشرين، بالإضافة إلى جهات أخرى، جانبًا من التحدّيات المستمرة التي يواجهها المترجم، وعلينا أن نتحلّى بأمانة النقل، كي يتسنّى لنا كقرّاء فهم الهويات الثقافية المتنوعة، وفهم دوافع أحداث العالم، التي تمسّنا وتؤثّر على حيواتنا بطريقةٍ أو بأخرى.

عند عملية تحرير الترجمات، هناك توجهان مختلفان: هناك من يرون التحرير ضروريًّا لتحسين جودة الترجمة وضمان تناسق الأسلوب، بينما يعتبر البعض الآخر أن تحرير الترجمة يمكن أن يشوش على صوت وأسلوب المترجم. في ضوء هذا التحدي الثنائي، كيف يمكن تحقيق التوازن المثالي بين دور المترجم ودور المحرر؟ وما المبادئ التوجيهية التي يمكن أن تساعد في تحديد نقاط البداية والانتهاء لكلٍ منهما؟

أحترم المحرّرين وأقدّر دورهم، وأقوم بتحرير عدد من كتابات أصدقائي، عندما يطلبون منّي ذلك، وأنا مع إخضاع النصوص لعملية تحرير، لتخرج بشكلٍ لائقٍ، في صورتها النهائية. شريطة أن يكون تدخّل المحرّر محدودًا، وأن يتمّ عقب مراجعة المترجم، وبالتنسيق معه، وأن يستمع كل طرف لوجهة نظر الآخر، قبل التعديل. قرأتُ كتبًا لمترجمين كبار، بها أخطاء في فهم المعنى الفعلي، وخاصّة عند ترجمة كلمة أو مصطلح تحتمل أكثر من معنى، وبها عيوب في الصياغة كذلك، وهي أمور كان يمكن تلافيها لو أن النصّ مرّ على محرّر يفهم طبيعة عمله؛ لكن بعض دور النشر تكتفي بشهرة المترجم، ولا تهتم بمراجعة الكتب قبل إصدارها.

جانب كبير من عملية الترجمة يعتمد على الموهبة؛ فالمترجم في حقيقته كاتب. إذا انتفت لديه هذه الصفة، خرجت ترجمته ركيكة، وآلية، لا روح فيها. المحرّر يضبط كتابة المترجم، لكنه سيفشل في هذه المهمّة لو كانت كتابة المترجم رديئة من الأساس.

يظل البعض من المترجمين غير الظاهرين أو المجهولين في مواقعهم بينما ينجح آخرون في إضفاء بصمة شخصية فريدة على ترجماتهم. ما العوامل التي تمكن بعض المترجمين من تحقيق هذه الهوية الفردية المميزة في ترجماتهم؟ وهل يمكن تقديم أمثلة على مترجمين نجحوا في بناء هذه البصمة الشخصية؟ وكيف أثر ذلك على تقدير القراء والمستفيدين من ترجماتهم؟

هناك أسماء أخلصت للترجمة، وقدّمت أعمالًا تشعر وأنت تقرأها بأنها النَصّ الأصلي الذي لم يخضع لإعادة كتابة أو إعادة صياغة. بوسعي ذِكر أسماء كثيرين، لكنني سأكتفي بذكر اسم الدكتور أبو بكر يوسف، أستاذ الأدب الروسي، الذي قرأتُ بفضله أعمال كبار المؤلفين الروس، باستمتاع شديد، وخاصّة أعمال أنطون تشيخوف. ولكن هل أضاف لجمالها جمالًا؟ لا أدري، حقيقةً؛ لأنني لم أقرأها بالروسية، لجهلي باللغة، بطبيعة الحال، لكنني قرأتُ لاحقًا نصوصًا منها بالإنجليزية، فلم تجذبني بالدرجة التي جذبتني بها النسخة العربية التي قام أبو بكر يوسف -رحمه الله- بترجمتها، في السلسلة القديمة الصادرة عن دار نشر «رادوغا».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: دور النشر أعمال ا یمکن أن فی هذا وخاص ة

إقرأ أيضاً:

لماذا يجب علينا اليوم الاهتمام بالسياسات العامة؟

تواجه الحكومات في مختلف دول العالم اليوم تحديات متماثلة، إضافة للتحديات النابعة من السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكل دولة؛ تنشأ هذه التحديات المتماثلة من طبيعة السياق العالمي المحيط بعمل الحكومات، والذي يكتنفه الغموض فيما يتعلق بالمستقبل متوسط - طويل الأجل، والهشاشة فيما يتعلق بقدرة منظومات التخطيط على استدراك المتغيرات، بالإضافة إلى تجزؤ المجتمعات من الداخل، وتشعب احتياجاتها، والضغوط على منظومات تحقيق العدالة الاجتماعية. وفي هذا الصدد تعيد الكثير من الدول اليوم التفكير في منظوماتها التخطيطية، إما عبر تفصيل مستويات التخطيط وتجزئتها من الرؤى الكبرى إلى الخطط التشغيلية والإجرائية السنوية والربع سنوية، وإما عبر اتخاذ نهج لامركزية التخطيط، وإما عبر تقصير مدد الخطط متوسطة - طويلة المدى، وإما عبر إيجاد أدوات ووثائق تخطيط أكثر مرونة للتعاطي مع المستقبل. وفي وسط ذلك كله بدأت الحكومات تهتم بتعزيز صناعة السياسات العامة في مركز الحكومة، وتقويتها بما يضمن تحقيق الرؤى الوطنية من ناحية، والتركيز على أولويات القضايا والتحديات الوطنية لمعالجتها من ناحية ثانية، وانتهاج مسارات أكثر مرونة للإدارة الحكومية من أنماط التخطيط التقليدية التي أصبحت أمام مآزق التحول وضعف الرهانات.

لن نعود إلى دائرة دقة المصطلح والتعريف ونكرر عبارة أن هناك تعريفات متعددة للسياسات الحكومية؛ لذلك سأذهب إلى القول أن السياسة العامة غالبًا ما تكون موجهة للتعامل مع قضية وطنية محددة ولنضرب مثالًا: الاستدامة البيئية، أو منظومة التمكين الرقمي الوطنية، أو تمكين الفئات الأكثر احتياجًا في المجتمع... كأمثلة على نوعية القضايا، وهي مسؤولة في المقام الأول عن تنسيق الجهود التقاطعية، لمؤسسات الحكومة، والقطاع الخاص، ومؤسسات المجتمع المدني، والأفراد وسواها من الأطراف الفاعلة في العملية التنموية، لضمان أن يؤدي الجميع دوره المنوط والدقيق في التعامل مع هذه القضية من ناحية، وضمان أن تكون الموارد المطلوبة لمعالجتها متوفرة وملائمة، وضمان أن تكون البيئة العامة التي يتم فيها التعامل مع القضية سليمًا من الناحية الإجرائية والسياسية والتشريعية. ففي الوقت الذي تركز فيه الخطط التنفيذية باختلاف مستوياتها على حوكمة برامج عمل المؤسسات - غالبًا الحكومية - ومتابعتها؛ فإن الهاجس الأول للسياسات العامة هو الكيفية التي تتحلى فيها الأطراف بالمسؤولية تجاه معالجة أو التعامل مع قضية معينة. على المستوى العملي تخبرنا السياسات العامة (من؟ يجب أن يعمل ماذا؟) لكي نحقق أهدافنا الوطنية. ولذلك تتجه الحكومات في السنوات الأخيرة إلى تعزيز بيئة صنع السياسات العامة؛ ويتضح ذلك من خلال عدة مقاربات نوعية؛ منها إنشاء وحدات متخصصة داخل مركز الحكومة لصنع ومراجعة السياسات العامة، وتعزيز هياكل صنع السياسات العامة داخل المؤسسات الحكومية القائمة، وتعزيز الشراكة مع المستوى الأكاديمي في سبيل إثراء السياسات العامة القائمة بالمزيد من الأدلة العلمية والأبحاث، وتشجيع تكوين مراكز الفكر المختصة في السياسات العامة لتعزيز الحوار والبحث والتأمل الفكري الجاد حول تلك السياسات وتطويرها ومراجعتها. والدافع وراء هذا الاهتمام ينطلق في أساس من تحدٍّ قائم في بعض الحكومات وهو أن عمل مؤسسات الحكومة كـ (جزر منفصلة) لا يمكن أن يحقق الأهداف الوطنية، مهما كانت الخطط والموارد المعدة لها، ولذلك كانت السياسات العامة وسيلة أفضل لتنسيق خارطة الجهود والتوافق على مسارات العمل، وهي وسيلة أفضل كذلك كمدخل للمتابعة وتبيان الفجوات وتنسيق الموارد والمساءلة والمحاسبة في وقت لاحق.

على المستوى الوطني؛ تعطينا الرؤية الوطنية (عُمان 2040) وعاء جيدًا للنظر في اتجاهاتنا الوطنية على المدى البعيد، إلا أن الرؤى الوطنية عمومًا اليوم تتعرض بشكل مستمر لمستجدات ناشئة؛ بعضها في شكل فرص يجب تطويع البيئات الداخلية لاستثمارها بشكل سريع، وتطويع النظم للتنافس عليها واغتنام فوائدها، وبعضها في شكل تحديات يجب الاستجابة لها أيضًا بذات السرعة وتجنيب منظومة العمل الوطني تداعياتها. ومن هنا فإن الوسيلة الأمثل هو في تعزيز بيئة صنع السياسات العامة، انطلاقًا لإرساء فكرها وثقافتها لدى مختلف قيادات المؤسسات الحكومية والتنفيذيين فيها، ووصولًا لتمكينها إجرائيًا وهيكليًا ومؤسسيًا. إن التوجهات الوطنية المحددة اليوم تشتغل في عالم تكتنفه أربع خصائص أساسية وهي: شدة التنافسية، عدم اليقين إزاء الموارد، تعدد صناع الاتجاهات العالمية، تغير المجتمع من الداخل، وهذا ينطبق على كافة دول المنطقة تقريبًا، الأمر الذي يستدعي النظر إلى السياسات العامة لتمكننا في كل القطاعات من الآتي:

1- كيف نطور القدرة التنافسية للدولة بشكل عام (منتجات، قدرات بشرية، أنظمة..)؟

2- كيف يمكن أن نضمن استدامة الموارد لتأمين تمويل التنمية ونحد من الاعتماد على الموارد التي يشوبها عدم اليقين؟

3- كيف نتعامل مع الاتجاهات العالمية الناشئة، وكيف نتوجه لأن نكون من صناع هذه الاتجاهات عبر المؤسسات والشراكات الدولية؟

4- كيف نفهم تغيرات المجتمع وتوقعاته، وكيف يمكن أن تكون سياساتنا أكثر تقبلا من المجتمع؟

هذه أسئلة أساسية قد تساعدنا السياسات العامة في الإجابة عليها لقطاعات وقضايا مختلفة، ففكرة السياسات العامة هي زرع الهاجس العام تجاه القضية. نحتاج اليوم إلى النظر في سياسات عامة مختلفة إما عبر تطويرها أو تأطيرها وأولها - كما ننادي دائمًا في هذه المساحة - ضرورة وجود سياسة سكانية توافقية ومؤطرة للتنمية من منظور الديموغرافيا (السكان) ، نعتقد كذلك بضرورة وجود سياسة عامة للتمكين المجتمعي؛ بحيث تحدد هذه السياسة الطرائق التي يمكن من خلالها تمكين الفئات الأكثر احتياجًا عبر المساعدات غير العينية؛ وتعظيم العائد من منافع شبكات الحماية الاجتماعية ومواردها. وقد نحتاج كذلك إلى التفكير في وجود سياسة عامة لحماية وتنمية الأسرة؛ تحدد لنا مسؤولية كافة الأطراف في دعم البناء والتماسك والنمو الأسري في عالم مكتنف بمفاهيم التربية العالمية ومدخلاتها. عوضًا عن ذلك قد نحتاج إلى سياسة عامة لرعاية وتنمية المواهب الوطنية، ولا تكون محصورة على الأطر المدرسية ولكن تحدد الأدوات والمسارات منذ النشأة الأولى للموهبة، وتتبع مسارات تنميتها والمسؤوليات حيال ذلك حتى العمر المتقدم. وتحفل كافة القطاعات سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية بفرص واسعة لتشكيل سياسات عامة. والأهم ليس هنا مجرد صناعات سياسات عامة، بقدر ما تتجسد الأهمية في تحديد الفرص والتحديات التي يجب أن نراها بمنظور أوسع للخلوص إلى سياسات عامة كفؤة وفاعلة.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

مقالات مشابهة

  • تعاون بين «التنمية الصناعية» و«استئناف القاهرة» لتقديم ترجمة معتمدة للمستندات
  • بروتوكول تعاون بين"التنمية الصناعية ومحكمة استئناف القاهرة"
  • 110 لغة جديدة تنضم إلى خدمة ترجمة “غوغل”
  • وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني بأمانة العاصمة
  • عضو «التحرير الفلسطينية»: أحداث غزة مقدمة لحرب عالمية ثالثة
  • لماذا يجب علينا اليوم الاهتمام بالسياسات العامة؟
  • "إندرايف" تلجأ لـ سحر الشاشة الذهبية لإيصال رسالتها وفلسفتها
  • ألسنة وتكنولوجيا.. غوغل تضيف الأمازيغية لخدمة الترجمة
  • صحيفة سعودية تكشف دوافع فتح الطرقات مؤخرا في اليمن
  • برفقة أصدقائها.. شاهد أحدث ظهور لعلا رشدي