سنغير الشرق الأوسط.. كيف سيفعل نتانياهو ذلك؟
تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT
شبّه مسؤول إسرائيلي هجوم حركة حماس على المناطق الإسرائيلية في حزام غزة، بهجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو إن الرد على هجمات حماس "سيغير الشرق الأوسط".
وكانت مسلحون لحركة حماس المدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية، قد اقتحموا السبت الجدار الحدودي إلى التجمعات السكانية في مستوطنات غلاف غزة في أسوأ هجوم تتعرض له إسرائيل منذ عقود، ما خلف أكثر من 900 قتيل في إسرائيل.
ورد الجيش الإسرائيلي بقصف مكثف على قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس وتحاصره إسرائيل منذ العام 2007، ما أدى إلى مقتل 765 شخصا في غزة، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع.
ومعظم القتلى من الجانبين مدنيون.
وذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، الثلاثاء، إنّ الحرب أدت أيضا إلى نزوح أكثر من 187500 شخص داخل قطاع غزة منذ السبت.
ماذا يقصد نتانياهو؟يرى الخبير الأمني والاستراتيجي الإسرائيلي، آفي ميلاميد أن نتانياهو يشير إلى أنه ستكون هناك عملية إسرائيلية واسعة النطاق ضد حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ما قد يؤدي ذلك إلى تصفية الأنظمة العسكرية للحركتين.
وأضاف أن "هذا يعني أن نظام الملالي الإيراني سيخسر قاعدته العسكرية التي أسسها في قطاع غزة، وهذا سيكون له تأثيرات وتداعيات إيجابية على إسرائيل والمنطقة ككل، لأنه طالما كان يستغل نظام الملالي القضية الإسرائيلية الفلسطينية كذريعة للمقاومة لكي يوسع نفوذه، ولكن إذا تم تدمير هذه القاعدة العسكرية فسيخسر نظام الملالي استغلال الحركتين".
ويقول المحلل الفلسطيني، جلال البنا، في حديثه مع موقع "الحرة"، إن "كل التخطيطات والتجهيزات والمحاولات الآن تسير في اتجاه محاولة القضاء التام على حركة حماس من ناحية التنظيم الميداني في غزة وأيضا كحركة سياسية مقاومة ضد الاحتلال".
مخاوف من اتساع رقعة الصراعوأضاف: "بالنسبة لحكومة نتانياهو، فإنها تستغل هجوم حركة حماس المباغت كفرصة وأخذ الشرعية لفعل هذا الأمر من خلال فعل ما تريده في قطاع غزة".
ورفضت نائبة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إيلا واوية، التعليق على ما وصفته بتصريحات سياسية، لكنها قالت لموقع "الحرة"، "هذه فرصة وعلينا نشر حقيقة حماس، المنظمة الإجرامية، في الشرق الأوسط والعالم أجمعه".
وقال البنا: "بعد هجوم حركة حماس على جنوب إسرائيل، هناك من يرى أن هناك فرصة مواتية جدا للتخلص من حركة حماس إن كان في الضفة الغربية أو في غزة، بتنسيق تام مع الدول العربية، حيث أنه في الغالبية العظمى من دول الخليج لا يمكن استيعاب حركة حماس، كما أن مصر واضح موقفها من جماعة الإخوان المسلمين".
وقال وزير الدفاع الإسرائيلي، السبت، إنه عندما كان رئيسا للجبهة الجنوبية للجيش الإسرائيلي في عام 2019، أراد "كسر رقبة" حماس، إلا أن القيادة السياسية أوقفته.
ولكنه يقول إنه لم تعد هناك قيود. وأكد الاثنين أنه أمر بفرض "حصار كامل على قطاع غزة: لا كهرباء لا طعام ولا ماء ولا غاز... كل شي مغلق".
تنسيق مشتركوأشار ميلاميد في حديثه مع موقع "الحرة" إلى أن هناك نية إسرائيلية في إحداث تغيير جذري واضح في قطاع غزة وإقلاع الجذور الإيرانية في قطاع غزة".
وخلال زيارته لبنان بداية سبتمبر، التقى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان مسؤولين في حزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، مكررا أن إيران تدعم "المقاومة بقوة".
ويرى البنا أن هناك مثلثا مشتركا بدا واضحا بعد هجمات حماس يتمثل في تنسيق مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة وعدد من الدول العربية، بدليل أن جزءا من المساعدات الأميركية لإسرائيل هبطت في قواعد أميركية بالأردن حيث طلب الجيش الأميركي استخدامها".
وقال البنا إن "تانياهو يتحدث عن شرق أوسط جديد بمعنى القضاء على حماس ومحاولة حصار حركة حزب الله من خلال تهديد أميركي مباشر للبنان وإيران من خلال إرسال حاملة الطائرات جيرالد فورد بالقرب من إسرائيل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حكومة لبنان تحتاج إلى دعم مالي أوروبي وأميركي. هذه العوامل قد تساعد في حصر إيران وخلق شرق أوسط جديد".
وأعلن حزب الله مقتل ثلاثة من عناصره في قصف إسرائيلي استهدف جنوب لبنان، الاثنين، إثر عملية تسلل عبر الحدود تبنتها حركة الجهاد الإسلامي التي تقول إنها تشارك مع حركة حماس في الهجوم على إسرائيل.
ولاحقا، أعلن الحزب أنه قصف ثكنتين إسرائيليتين ردا على مقتل عناصره.
وحذّر مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية حزب الله من مغبة اتّخاذ "قرار خاطئ" بفتح جبهة ثانية مع إسرائيل في خضم تصدّيها لهجمات حركة حماس في قطاع غزة.
لماذا الربط بأحداث 11 سبتمبر؟وربط مسؤولون إسرائيليون هجوم حماس واقتحام الجدار الإلكتروني وبلدات إسرائيلية، بأنها مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي
وقال ناطق باسم الجيش الإسرائيلي "هذا أسوأ يوم في تاريخ إسرائيل. لم يُقتل هذا العدد من الإسرائيليين مرة واحدة" من قبل، مضيفا أن ذلك قد يكون "مماثلا لهجمات 11 سبتمبر".
والأحد، شبه السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، ما حدث بأنها "11 سبتمبر جديدة بالنسبة لإسرائيل"، مشبها حركة حماس بتنظمي القاعدة وداعش.
واعتبر البنا في حديثه مع موقع "الحرة" أن "هذه محاولة لربط حماس بالإرهاب العالمي والقاعدة، ومحاولة لاستعطاف الرأي العام العالمي وتذكير العالم بأكبر عملية إرهابية في العالم، بالإضافة إلى محاولة لتوحيد العالم حول هدف القضاء على حماس وملاحقتها كما تم ملاحقة القاعدة ومنح الشرعية الدولية للمس بالقاعدة بكل زمان ومكان وخاصة بقيادتها".
وأضاف أن "من مصلحة قادة إسرائيل مواجهة حجة حماس بالإرهاب وعدم ربط القضية بالاحتلال أو في حصار غزة منذ سنوات طويلة".
وجاء إعلان الولايات المتّحدة قرارها بشأن نشر مجموعة حاملة الطائرات الهجومية التي تضمّ سفناً حربية عدّة الأحد، غداة هجمات حركة حماس غير المسبوقة على جنوب إسرائيل انطلاقاً من قطاع غزة المحاصر.
وشبّه المسؤول في وزارة الدفاع الأميركية الهجمات التي شنّتها حماس في نهاية الأسبوع وطالت مدنيين في جنوب إسرائيل بهجمات تنظيم داعش.
وقال إنّ "ما شهدناه يُرتكب ضدّ مدنيين إسرائيليين هو مستوى وحشية تنظيم الدولة الإسلامية"، مشيراً إلى إحراق منازل وارتكاب مجازر بحقّ شبّان كانوا في حفلة موسيقية.
ويعيش حوالى 2,4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، وهي منطقة ذات كثافة سكانية عالية وتعاني من الفقر، فيما تخضع للحصار الإسرائيلي منذ العام 2007.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: فی قطاع غزة حرکة حماس
إقرأ أيضاً:
هكذا سيفاجئهم الشرق الأوسط دائماً
شهد سبتمبر/ أيلول، 2021، حدثين هامين على صعيد السياسة العربية، إذ أقدم الرئيس التونسي قيس سعيّد على إلغاء الدستور وحل البرلمان، مسدلًا الستار على أنضج تجربة ديمقراطية عربية أسهم الإسلام السياسي/ الإسلاموية الجديدة (Neo-Islamismـ) في تأسيسها.
غير بعيد عن تونس، في العام نفسه، حصد حزب العدالة والتنمية المغربي – إسلام سياسي- هزيمة تاريخية مع إعلان نتيجة الانتخابات، إذ هبطت حصّته البرلمانية من 125 مقعدًا تحصّل عليها في انتخابات 2016 إلى 13 مقعدًا وحسب.
أعاد الحدثان إلى الواجهة ذلك النقاش القديم حول زوال الإسلام السياسي من المنطقة العربية، النبوءة التي تجترها منصات النقاش منذ خمسينيات القرن الماضي، كما يلاحظ محمد الدعداوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوكلاهوما.
تتمتع التيارات الإسلامية بمتانة بنيوية تجعلها مقاومة للفناء، قادرة على إعادة إنتاج نفسها حتى قبل أن تنضج الظروف. كتب الكثير عن التيارات الإسلامية، وغالبًا ما كانت الكتابة تخدم دوافع الانتقام، أو لصالح أنظمة الحكم، لا البحث العلمي. في نهاية المطاف بقيت التيارات الإسلامية، من الجهادية إلى السياسية، خارج حقل الدراسة الأكاديمية، وتركت المسألة المركّبة للمكايدة الإعلامية والدعائية المؤدلجة.
إعلانفي الشرق الأوسط الغامض والمعقد لا يستقرّ شيء على حاله، لا السلام ولا السياسة ولا النبوءات. كما لو أن ديناميكا الاجتماع والسياسة فيه تدفع الأمور لتمضي في شكل دائرة لا على هيئة شلّال.
ولعلّ أصدق لوحة كتبت عن انتصار الثورة السورية، هي تلك الجملة القائلة: "سقط الأبد". لا مكان للأبدية في الشرق الأوسط، حتى إن أشهر جملة يرددها الساسة الغربيون حول المنطقة هي "حق إسرائيل في الوجود". الطبيعة الهيولية للشرق الأوسط تجعل كل شيء غير مستقر، بما فيها المدينة العبرية المحمية بكل آلات الموت والنجاة.
ما من شيء مستقرّ في الشرق الأوسط. فكل محاولة لإعادة هندسته ليبدو جديدًا ومقبولًا تصطدم بحقيقة أنه لا بد من إصلاح ماضيه أولًا. تقع مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي في أعلى كشف الحساب، ثم تليها مسألة الوحدة العربية، ومن خلفهما شبكة من القضايا الاجتماعية والسياسية بالغة التعقيد، وكل ذلك من الماضي المفتوح.
المشاريع الأيديولوجية التي ظهرت في الشرق الأوسط خلال القرن الماضي كانت كلها، من أقصى اليمين إلى اليسار، عابرة للحدود، وحدوية، ترفض مشروع الدولة القُطرية التي جاءت على حساب "وحدة الأمة". ماضي الشرق الأوسط ثقيل ومركّب، وهي حقيقة تجعل من "الاستقرار" حدثًا غير مستقر.
يترابط الشرق الأوسط على نحو مثير، ويحدث أن يثير بردٌ في القاهرة حمّى في صنعاء. الأمة الواسعة ذات اللغة الواحدة، والدين الواحد، والتاريخ المشترك، تعرضت لتقسيم انتحاري قبل قرن من الزمن.
ترك ذلك التشظي جرحًا كبيرًا في نرجسية المجتمع العربي المعتد بتاريخه الحضاري وبنظامه الأخلاقي. ما إن لاحت بوادر انهيار الإمبراطورية العثمانية حتى نهضت القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك لتتدبر سؤالًا خطرًا: كيف سيبدو شكل السلم والسياسة في العالم إن نجح العرب، ذوو اللغة الواحدة، في تشكيل دولة مركزية تمتد من لبنان على طول البحر المتوسط حتى المغرب المشرف على المحيط الأطلسي؟
إعلانالمراهق المضطرب نفسيًا مارك سايكس، وكان في الثلاثينيات من عمره، وقف أمام القادة البريطانيين، ورسم خطًا من كركوك إلى عكا، قائلًا إنها بلاد شبه فارغة فلنقسمها على هذا النحو.
لم يستقر شيء منذ ذلك الحين، فالحقيقة الشرق أوسطية التي نشأت كنتيجة للحرب العالمية الأولى لا تزال حقيقة فارغة وغير مستقرة.
بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، 2001، تبنى الأميركان الفكرة القائلة إن الدكتاتورية هي المولد الرئيس لظواهر العنف والإرهاب الطالعة من الشرق الأوسط. وكتبت توماس فريدمان مقالة شهيرة جادل فيها قائلًا إنه ما من معتقل هندي واحد داخل غوانتانامو، حيث 35 ألف معتقل، برغم أن الهند تحوي أكبر تجمع للمسلمين في العالم.
في تقديره، وكانت تلك الفكرة قد صارت إلى تيار عام، أن الديمقراطية الهندية أتاحت منصّات مفتوحة للتعبير السياسي والثقافي، فاستغنى الناس عن التنظيمات السرية والأنشطة العنيفة.
فتح الربيع العربي، 2011، فرصة لشرق أوسط قابل للاستقرار وبقي العالم الغربي متوجّسًا. لم يعلق أوباما على الحدث التونسي إلا قبل رحيل بن علي بيوم واحد. استقبلت إسرائيل الربيع العربي على نحو مختلف، إذ نقلت واشنطن بوست (فبراير/ شباط 2102) عن مسؤول إسرائيلي قوله "بعض الناس في الغرب يقارن ما يحدث في مصر بما جرى في أوروبا سنة 1989. أما نحن فنراه مشهدًا شبيهًا بطهران 1979".
ثمة دلائل كثيرة تشير إلى أن الرؤية الإسرائيلية للديمقراطية في الشرق الأوسط، وجدت مكانها داخل الرؤية الغربية، وهي رؤية ستتجلى في مقالة مهمة لتوماس فريدمان (نيويورك تايمز، 27 نوفمبر/ شباط، 2011) حول إسرائيل والربيع العربي، تذهب المقالة إلى اعتبار إسرائيل "أكبر الخاسرين" من تلك الصحوة العربية.
إسرائيليًا اتخذت الاستخبارات العسكرية اسمًا غامضًا للربيع العربي "Taltala"، وهي كلمة عبرية تعني "الهزة"، وأشير إليه على مستويات أخرى مختلفة بـ "الطاعون المصري"، في سياق توراتي غريب بعض الشيء. حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن الخيال الإسرائيلي، السياسي والأمني، يصبح مخيالًا غربيًّا.
إعلانهل الديمقراطية حلٌّ لمعضلة الشرق الأوسط أم هي الدكتاتورية؟ يقدم الكاتب الإسرائيلي لازار بيرمان، في مقال له على تايمز أوف إسرائيل (أبريل/ نيسان،2021) إجابة صادمة: "تقوم إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي على التفاهمات الضمنية والاتفاقات المكتوبة مع المستبدين العرب، وليس مع الجماهير التي لا تقبل بالوجود الإسرائيلي بشكل كامل".
الاستبداد معضلة تخلق الإرهابيين المهددين للغرب، والديمقراطية تصدّر الإسلاميين والقوميين المعادين لإسرائيل. أخذت الخفّة "الإستراتيجية" هذا الشكل المأساوي في مقاربة الشرق الأوسط، بل وردت التناقضات على لسان المفكر نفسه – فريدمان- في مناسبتين مختلفتين.
في مقالة له على هآرتس، ديسمبر/ كانون الأول 2020، يقرر الكاتب الإسرائيلي آشيل فيفر: "بعد عشر سنوات من الربيع العربي لم يعد أحد يرى في الديمقراطية علاجًا شافيًا للشرق الأوسط". أين نذهب بهذا الشرق الأوسط، وكيف نعالجه؟
في عمله المهم "مائة وهمٍ حول الشرق الأوسط"، صدر سنة 2005، عالج الكاتب الأيرلندي فريدي هاليدي أشهر الخرافات، المفاهيم الناجزة، المتعلقة بالشرق الأوسط، سواء تلك الاستيهامات التي تعيش في خيال المنطقة، أو ما يتخيله الآخر الغربي عن حقيقة الشرق الأوسط وطبيعة سكّانه.
مائة عقيدة حول الشرق الأوسط لا تفيد شيئًا، لا في فهم ماضيه ولا من أجل التنبؤ بمستقبله. تشكل الخرافات، أو المفاهيم، التي ناقشها فريدي النواة الأساسية للخيال الغربي حول الشرق الأوسط. وإن كان الكولونيالي القديم يعتقد أن خير مقاربة للشرق الأوسط، هي تلك القائلة "اطعم العرب وجوّع الفرس"، فإن الرؤى الغربية الحديثة، بما فيها "برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية، 2002" لا تزال مقيمة في الحقل الاستيهامي نفسه، حيث القيم التقليدية – أي الثقافة – هي المعضلة، كما يلمح التقرير الأممي المشار إليه.
إعلانتجاهل التقرير الأممي السياق التاريخي والدولي الذي تشكلت في ظله مجتمعات الشرق الأوسط خلال قرنين من الزمن، كما يجادل هاليدي. التبعية للغرب، خلق الدولة السلطوية، والاقتصادات الريعية، كل ذلك قولب مجتمعات الشرق الأوسط داخل كيانات تابعة وغير مستقرة.
من قبيل السخرية يرى هاليدي أن الدولة الوحيدة بين كل دول الشرق الأوسط التي اتخذت لها اسمًا دينيًا هي إسرائيل، وهي التي يشار إليها بحسبانها الكيان الديمقراطي الحداثي الأوحد. رفضت إسرائيل، الحداثية، تصنيف نفسها كجمهورية أو ملكية، محتفظة بحالتها المائعة في شكل "مدينة عبرية"، الميوعة التي يتطلبها ظهور "المسيح اليهودي" في آخر الزمان، بحسب هاليدي. يبدو كل شيء في الشرق الأوسط مائعًا، هيوليًا، مركبًا غير مستقر.
لنلقِ نظرة على صورة الشرق الأوسط قبل أسبوع واحد من السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. جلس جيك سوليفان- مستشار بايدن لشؤون الأمن القومي- على خشبة مسرح في واشنطن يقابله غولدبيرغ، رئيس تحرير مجلة ذي أتلانتيك، وتحدثا عن الشرق الأوسط. قال سوليفان إن "منطقة الشرق الأوسط باتت اليوم أكثر هدوءًا مما كانت عليه منذ عقدين من الزمن".
ولكي يبدو واقعيًا قال سوليفان إنه "لا تزال هناك تحديات، كمثل التوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين". لكن، يستدرك سوليفان "مقدار الوقت الذي يتعين علي أن أقضيه في الأزمات والصراعات في الشرق الأوسط اليوم، مقارنة بأيّ من أسلافي، قد انخفض بشكل كبير". التوترات البسيطة، كما تخيلها العقل الإستراتيجي الأميركي، زعزعت الكوكب بأسره فجأة. ضربت فراشة بجناحيها في اللامكان، في بقعة هي أبعد ما تكون عن التأثير حول ما يجري في العالم.
يفترض المفهوم الفيزيائي "أثر الفراشة" أن حركة طفيفة للغاية بمقدورها أن تحدث تغييرًا هائلًا في النتائج. وإن كان ذلك ممكنًا في سياق من الاستثناء الطبيعي في العالم، ففي الشرق الأوسط يبدو أثر الفراشة قانونًا مركزيًا. ما إن تستريح القوى الكبيرة، المحلية والدولية، لترتيبٍ ما جارٍ في المنطقة حتى ينهار البناء بالكامل؛ بسبب حدث صغير في مكان غير متوقع.
إعلانلم يكن الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، 2001، استثناء، فالتاريخ يخبرنا أن الانتفاضة الأولى حدثت بسبب حادث سير في العام 1987. تضرب فراشة صغيرة بجناحيها، أحيانًا على شكل مزحة عابرة، فتصعد الأمواج وتضرب أبعد الأماكن.
قبل ذلك برزت طالبان من المجهول لتبسط نفوذها على كل البلاد خلال وقت قصير. ومع نهاية السنة الأخيرة من عقد السبعينيات، 1979، حدثت الثورة الإسلامية من خارج حزام التوقّعات، من اللحظة التي اعتقد فيها شاه إيران أن حكمه صار أبديًّا.
كما انطلق الربيع العربي بعد أن أشعل شاب في تونس النارَ في جسده. وعندما اعتقد الأسد أن بقاء نظامه مصلحة حاسمة بالنسبة لعدد كبير من اللاعبين الأقوياء، وأن "سوريا المفيدة" هي سوريا المخلصة والخاضعة في آن، خرجت ثورة على عجل لم تمهله سوى بضعة أيام. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بحركة الرياح في الشرق الأوسط، حتى بالنسبة لأولئك الذين جعلوا منه حقل تجارب وادعوا فهمًا عميقًا بأحواله.
لأن السياسة لم تستقر بعد، والمدينة العربية لا تزال واحة صغيرة محاطة بالبداوة والريف، لأن كل شيء لا يزال جنينيًا، السياسة والثقافة والبحث العلمي، ولأن الظواهر المعقدة كالديمقراطية والإسلاموية والتنوّع الديني والمذهبي لم تجد طريقها إلى الدراسة الأكاديمية الحرّة، بل يجري دفنها كما لو أنه لا وجود لها، فإن الشرق الأوسط سيحافظ على سمته الجوهرية، وهي أنه مركّب غير مستقر، لا يمكن التنبؤ بمآلاته. ومن أبرز ملامح عدم استقراره، هو وقوعه تحت ظاهرة "أثر الفراشة".
لا يمكن الاستخفاف بتعقيدات الشرق الأوسط ولا تسطيحها. فعل ترامب ذلك من خلال مشروع "صفقة القرن". ترامب، الذي لم يكن يعلم أن أوكرانيا مجاورة لروسيا، كما اعترف مساعدوه، عهد بعقدة الشرق الأوسط، المسألة الفلسطينية، إلى مقاول مراهق.
أعد المراهق الشاب، جاريد كوشنر، مشروع الصفقة في حوالي 180 صفحة، تجاهل مفهوم الدولة المستقلة، القدس، اللاجئين، وسلسلة من التعقيدات الديمغرافية. بدلًا عن ذلك قدم عرضًا استثماريًا في مناطق السلطة الفلسطينية مقداره 50 مليار دولار. من نافلة القول الحديث عن مآل ذلك المشروع.
إعلانيُراد من سكّان هذا الشرق غير المستقر الاعتراف بدولة تصرّ على القول إنها بيولوجيًا وثقافيًا كيانٌ أوروبي، وترفض تعيين حدودها الجغرافية. كل الترتيبات الغربية حيال الشرق الإسلامي، منذ وعد بلفور وحتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، كانت فقيرة إلى الخيال والمعرفة في آن واحد.
الاعتقاد بأن وضع الشرق الأوسط في خانة "الاستثناء الأكبر" – ما يعني تعطيل الأعراف والقوانين الدولية حين يتعلق الأمر بوقائعه السياسية كالمعضلة الإسرائيلية – أسهم في جعل الاستثناء قاعدة.
ولا أدري ما إذا كانت الفكرة قد خطرت في ذهن بن لادن، وهو يمنح تنظيمه اسم "القاعدة". ففي رسالته إلى أميركا، نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، تحدث بن لادن عن الأسباب التي دفعته لإعلان الحرب على أميركا، في صلب تلك الأسباب استثناء إسرائيل من نظام العدالة الدولية.
في العام الماضي، 2023، اضطرت صحيفة ذا غارديان إلى حذف رسالة بن لادن من موقعها بعد أن تُدولت على نحو واسع في السوشيال ميديا. فالعقل الغربي لا يقبل القول إن هنالك أسبابًا خارجية لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن "القيم التقليدية" لا تصلح تفسيرًا لكل شيء.
لا يزال الشرق الأوسط في الخيال الغربي – السياسي والثقافي- هو تلك الأرض الموبوءة من داخلها، جينيًّا وثقافيًّا. وهي مكان سيقطع سكّانه رأسك إن لم يعجبهم شكل وجهك، كما قالت أغنية التتر في النسخة الأولى من فيلم علاء الدين – ديزني 1993- قبل الاضطرار لتغييرها.
لم يذهب التقرير الأممي، 2002، بعيدًا عن تلك الأغنية. فإشارته إلى "القيم التقليدية" المعرقلة للحداثة هي إشارة تصف، على نحو غير مباشر، شعوبًا على هامش الحضارة، برابرة أو همجيين، من الممكن أن يقطعوا رأس الرجل حين لا تعجبهم ملامح وجهه.
أما صفقة القرن، الترامبية، فلا يوجد في صفحاتها المائة والثمانين ما يشير إلى أن واضعيها قد أخذوا الشرق الأوسط، بشرًا وتاريخًا وثقافةً، على محمل الجِد.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية