يون فوسه...ما بين الجنة والنار
تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT
لم يكن يون فوسه -الذي راكم الأوسمة والتشريفات والنجاحات لأكثر من عقدين من الزمن، (وآخرها جائزة نوبل للآداب، الأسبوع الماضي)- كاتبا مسرحيا فقط (سبب شهرته العالمية). فلو نظرنا إلى مساراته المتعددة، لوجدنا أنه، في وقت مبكر، كتب الأغاني، والشعر وكتب الأطفال، مثلما كان عازفا موسيقيا، قبل أن يتبنى حمل القلم نهائيا.
في أي حال، ليس فوسه غريبا عن المكتبة العربية، إذ تُرجمت له روايتان، وصدرتا عن «دار الكرمة» في القاهرة هما «صباح ومساء» (2018)، و«ثلاثية» (2023)، نقلتهما إلى العربية، من النرويجية، كل من شيرين عبدالوهاب وأمل رواش.
***
كانت «صباح ومساء» قد صدرت في النرويج عام 2000. هي رواية قصيرة (أو نوفيلا) تتألف من قسمين، وتروي نهارين أو «لحظتين» من حياة شخص يدعى يوهانس. في اللحظة الأولى، نشهد ولادة يوهانس (ابن عائلة من الصيادين)، كما رآها وخبرها، بل كما تخيلها أولاي، والده، الذي، بين ذهاب وعودة القابلة وصرخات زوجته مارتا التي تصل إليه، يتخيل ولادة ابنه. يخدم أسلوب فوسه، الذي يتميز بالتكرار، وعلامات الترقيم التي لا يمكن التنبؤ بها، والتناوب البارع للمنظورات السردية، يخدم بشكل ملحوظ، هذا التساؤل حول اللحظات الأساسية في الوجود. إذ يجمع الكاتب هاتين اللحظتين الأساسيتين في الوجود الإنساني بأكمله بينما يتجنب كل ما يمكن أن يشكل جسد هذا الوجود. هذه هي المفارقة الأولى في هذه الرواية، لذا نسأل أنفسنا لماذا اختار هذا الشكل بدلا من الشكل المسرحي. السؤال الآخر؟ يرسم الكاتب بدقة الخطوط العريضة للحياة التي تتلاشى. لذا هل هي حقًا رسم تخطيطي لحياة بأكملها بينما ليس لدينا هنا سوى آثار قليلة جدًا: بعض الذكريات الطفيفة، كما لو كانت حياة يوهانس، هي «الشخصية» الرئيسية، الفريدة من نوعها إذا جاز التعبير، تُختصر بالعمل، بينما التطور الأساسي في زمان ومكان آخرين؟
يبدأ الجزء الثاني من الرواية (اللحظة الثانية التي تأتي بعد ثمانين عاما)، بيوم عادي في حياة يوهانس الذي أصبح عجوزا. إنه يوم آخر، انشغل فيه يوهانس، بأشيائه اليومية التي اعتاد القيام بها بعد أن تقاعد عن العمل. كل شيء يبدو طبيعيا، ولكن بطريقة مختلفة. إذ يرى على الشاطئ صديقه بيتر الذي توفي قبل سنوات، ليركب معه القارب، وعندها يبدأ بإعادة النظر في نوع من التلخيص، لما كانت عليه حياته. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف حدث أن التقى بصديقه بيتر الذي مات منذ سنوات؟ هل «أن الضباب الذهبي هو الذي يغطي الأشياء»؟ هل يظهر له الموتى والأحياء في جولة لا نهائية مليئة باللفتات اليومية؟ الجواب الوحيد: لقد بدأت الرحلة النهائية، كان بيتر، في العمق، يستعد لترك هذا العالم. مشهد يذكرنا برواية الكاتب النيذرلاندي سيس نوتبوم، «القصة التالية»، وإن كانت تأتي بنغمة أخرى، وفي بيئة مغايرة، لكن «هذا السحر» في الروايتين هو نفسه. بيد أن المشاعر المتناقضة في رواية فوسه تنبثق بنوع من الامتلاء الصبور، والخضوع شبه الممتن والودي لنظام الأشياء، الذي يتدفق بنفس الإيقاع البطيء مثل إيقاع الكتابة، أو حركة البحر الرتيبة أو التكرار غير المفاجئ. إنه مسار حياة يوهانس. ويمكن أن نضيف إن جمال هذه القصة الكئيب يعود أيضًا إلى قدرتها الغريبة على خلق علاقة حميمة مع القارئ وجعل القراءة إطارًا لتجربة فريدة للآخر.
يمكن أن تبدو قصة يوهانس وكأنها «ممرات» وانتقالات في هذه الحياة؛ إذ إننا أمام نص عن اللحظات الرئيسية للولادة والموت. بالأحرى هي رواية عن هذه المنطقة الوسطى التي تبرز بين شواطئ الحياة وشواطئ الموت. كل شيء عبارة عن حركة سلسة بين الواقع والحلم، ذهابًا وإيابًا بين الأرض وأعالي البحار في قارب القدر.
يوهانس، مثل كل واحد منا في ساعة الحياة الأخيرة، لا ينتقل من الحياة إلى الموت. بينما لم يتغير شيء ولكن كل شيء يبدو مختلفًا، مع حركة جسد بطيئة شاذة شاعرية، فهي تعبر فقط الزمان والمكان والكائنات التي تمر أيضًا والتي قد مرت في حياته. إذا رست سفينة الصياد للحظة على الضفة الأخرى بصحبة صديقه بيتر، أثناء التجميع الأخير لسِلال السرطانات البحرية، فهذا ليس عبورا للنزول إلى الجحيم. بل للعودة إلى ضفاف حياته الأولى، إلى الأصل، إلى فجر الحياة، لكي يطمس صورة التمزق الذي يمكن أن يرمز إليه الموت.
***
في عبارة غنيّة بالتفاصيل تشبه خيطًا طويلًا هشًا ينكشف بدقة على الصفحة، وتنشر، عبر كلمات يومية، أفكارًا تتطور بطريقة بيضاوية لتشكل في النهاية تيارًا من الوعي غير قابل للكسر، يأخذنا نثر يون فوسه، الذي يتسم بالبساطة والأناقة المرحة، على طريق يصعب الانفصال عنه.
من خلال بضع كلمات، ينجح المؤلف في خلق جو ومناخ، وتصوير سياق وبيئة، ونقل أساسيات الحياة، في حين تسلط القصة الضوء على أهمية وجودنا الإنساني المتواضعة. هي قصة بسيطة، وبشدة، من حيث الجوهر، إلا أنها بين أصالة الأسلوب وقوة الكتابة المثيرة للذكريات، نجدها تُظهر إتقانًا كبيرًا للفن الكتابي.
***
قلت في بداية كلامي: إن علامات الترقيم، في نص فوسيه لا يمكن التنبؤ بها، كما أن هناك تناوبا بارعا للمنظورات السردية. فبدلا من النقاط (وخاصة علامات الاستفهام، التي يتجنبها بشكل خاص)، يقوم المؤلف بمضاعفة التكرارات، من دون التخلي عن الفواصل (حتى لو كانت نادرة). كتاباته، التي يقال: إنها قطعية، تعطي الحوارات طابعًا مألوفًا والكلمات اليومية طابع الغرابة. من هنا، لو جاز القول، إن غياب علامات الترقيم يؤدي إلى تعثر التصريفات والتنغيمات المتوقعة. بمعنى آخر، نحن نتعامل مع كتابة مفرغة من محتواها الإعلامي لدرجة أنها تصبح مجردة تقريبا، والتي بدلا من تحديد الشخصيات أو المعنى، تفتحها إلى أقصى الحدود، وتبقيها في حالة من الانفتاح أو الحد الأقصى من التوفر. لذا نحن أمام كتابة تعليقية، لكنها كتابة لا نهاية لها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: یمکن أن
إقرأ أيضاً:
درة: هذه كانت اللحظة الأصعب في فيلم "وين صرنا"
كشف الفنانة درة عن دوافعها في إخراج فيلم " وين صرنا" قائلة:"أنا عملت الفيلم عشان كل أهل غزة، وخليتهم يتكلموا عن نفسهم عشان يكون بالطريقة اللي هم حاسين بيها، وأكتر لحظة كانت صعبة عليا، هي اللحظة الحقيقية، لما كنا مستنين زوج نادين يجي من غزة، وكنا كلنا مستنينه يجي، كنت كأني أشعر بكل تفاعلات نادين.
وعلقت درة على إمكانية خسارتها لأعمال فنية كممثلة بسبب دخولها للإخراج في ندوتها اليوم ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي قائلة:' لو في خسارة هخسرها فالمكسب الإنساني ليا أكبر بكتير من الخسارة المادية والفنية".
كشفت هذه الندوة قوة السرد في تحفيز قدرات الأفراد على المقاومة والتحمل في أصعب اللحظات والمواقف، وحكى الحضور عبر خبراتهم ووعيهم الثقافي الفريد عن تجاربهم في تشكيل السرد السينمائي وروايات الهوية الشخصية والجماعية، ومحاولات البقاء والخلافات والنبرات الانهزامية.
ناقش الضيوف تحديات صنع الأفلام في مناطق الصراع والنزوح وتلك المحاصرة بالقيود السياسية، وعن خبرة كل منهم في استخدام الإبداع للدفاع عن رؤيتهم والنجاة من الأسى والمآسي.
سلطت الحلقة النقاشية الضوء على التقنيات السردية التي يمكنها تحوّل قصص الصراع الشخصي إلى سرديات مهمة إعجازية تلهم الجماهير وتحفّز المجتمعات على الاستمرار والمقاومة.