تعدّدت قراءات قصة «الموتى لا يكذبون - Les morts ne mentent pas» للروائيّ والقاصّ الفرنسيّ غي. دو. موباسان، كما تنوّعت تحليلات هذا العمل الجميل مرهف المشاعر، باختلاف ترجماته من اللغتين الأصليّة الفرنسيّة أو الإنجليزيّة. وفي هذا السياق أخذ إعداد القصة وتحويلها إلى عمل مسرحيّ يغري المؤلّفين أو المخرجين أو المشتغلين بالدراماتورجيا على حدّ سواء.
أمامي على سطح المكتب كتابان، يعودان إلى الكاتب البحرينيّ حمد الشهابي. الكتّاب الأوّل مسرحيّة (الحبّ الأوّل في حياة نابليون بونابرت) وصدرت الطبعة الأولى عام 2017م. صورة غلاف هذا الكتاب للفنّانين الإنجليزيّين (بنجامين هايدون 1786-1846)، و(جورج رومني 1734- 1802) أمّا تصميمه فللفنّان المسرحيّ خالد الرويعي.
أمّا الكتاب الثاني، فمسرحيّتان أيضًا: الأولى (الموتى لا يكذبون)، والثانية (رقصة الباليه الأخيرة)، وصدرت طبعته الأولى عام 2018م، وراجع الكتاب أ. محمّد الجبّالي، أمّا التصميم والإخراج الفنّيّ فللفنّان زياد عيسى الشايجي.
بعد قراءتي للكتابين على فترتين ليستا متباعدتين، تساءلت عن فكرة الإعداد المسرحيّ وغياب بنات أفكار المؤلّف الأصليّة؟ إذ يبدو أنّ ظاهرة اهتمام الشهابيّ بتنوّع ينابيع التأليف هي ما دفعه إلى ظاهرة الإعداد. فالمؤلّف كما جاء في آخر صفحات الكتابين له (22) مسرحيّة، وكتب (4) أفلام سينمائيّة، كما أن له العديد من المسلسلات التلفزيونيّة (6) في البحرين، و(7) في الكويت، و(1) في قطر، و(3) في الإمارات العربيّة المتّحدة، و(3) في عمّان. كما تنوّعت إصداراته، فصدرت له أربع مجموعات قصصيّة قصيرة، وله رواية بعنوان (فان جوخ) سأتجاوز المقدّمة النقديّة الّتي كتبها الناقد والباحث الأدبيّ الدكتور محمّد الخزاعي، وكذلك كلمة المخرج والناقد والباحث المسرحيّ عبداللّه السعداوي، للولوج إلى المسرحيّة المكوّنة شخصيّاتها مما يزيد على (18) شخصيّة. تصوّر مسرحيّة (الحبّ الأوّل في حياة بونابرت) حدثًا صغيرًا ومركزيّا، يدور حول علاقة العاطفة المتناقضة الحاصلة ما بين الحبّ والكبرياء. أهدى المؤلّف كتابه إلى زوجه وبناته، وأتبع بعد صفحة الإهداء كلمة المؤلّف الّتي يضيء لنا فيها سبب اختياره للكتابة عن «نابليون القائد العسكريّ الفرنسيّ العظيم، هو الّذي ترك في داخلي ذلك الإشعاع...»، وتدور أحداث المسرحيّة في «مدينة مرسيليا الفرنسيّة، ... وتمثّل جزءًا محدودًا بسيطًا من مدّة حياته لا يتعدّى الشهر فقط، وهو في سنّ 21 سنة... ولأنّ نابليون خلق ليكون قائدًا عسكريًّا... فقد كان اختياريّ لهذه المادّة المسرحيّة...» وفي صفحة أخرى يوضّح لنا أنّ أحداث المسرحيّة تقع بين عامي 1789- 1790م، وتسلّط الضوء على هروب عائلة بونابرت من جزيرة كورسيكا مولّد نابليون، وقد هربت عائلته خوفًا من بطش النظام القائم فيها حينذاك، ويجري تركيز المكان أو الحدث الدراميّ ليجري بين بهو بناية المسيو كلاري أحد تجّار مرسيليا، وصالة شقّة عائلة نابليون الّتي انتقلوا إليها. أمّا عن عناصر الهيكل العامّ للمسرحيّة فتتكوّن من أربعة فصول، يضمّ الفصل الأوّل مشهدين، والفصل الثاني أربعة مشاهد، والفصل الثالث ثلاثة مشاهد، أمّا الفصل الرابع والأخير فيتضمّن مشهدًا فقط.
يمكن القول -باطمئنان-: إن حمد الشهابيّ في هذين العملين ينتصر انتصارًا واضحًا للحكاية في المسرح، وهذا ما يعزّز القول إنّ المؤلّف يحسب حسابًا لمناطق بدء الحدث وتطوّره ونموّه عبر الحفاظ على تسلسله الدراميّ. ففي الفصل الأوّل بمشهديه يجري تحديد مكان الحدث بدقّة واضحة: «المسرح ظلام.. نسمع صوت عربة منطلقة بأحد شوارع مرسيليا...»، ثمّ نتعرّف على الشخصيّات الرئيسة عائلة نابليون؛ أمّه، وأخوه (ماريا وجوزيف ونابليون) يتحدّثون عن استئجارهم لشقّة كبيرة وظروفهم الماليّة لا تساعدهم، ليكشف لنا المؤلّف عن جزء من أبعاد شخصيّة نابليون ونظرته إلى المشكلة الملقاة على عاتق هروب أسرته: «إنّ السكن في شقّة لمدّة ستّين يومًا دون أن نحصد خلالها مبلغًا من المال عن طريق وظيفة أو عمل نقوم به بمقابل، فهذا يعني أنّنا بلهاء...».
إنّ ظهور شخصيّة المرأة الغجريّة المدعوّة (ناتاشا) وهي كما يعرفها المؤلّف: «المشعوذة، والساحرة، والخادمة» سيبنى عليه حدوث تبدّل مهمّ في زمن الأحداث وتحوّل الشخصيّات. فالغجريّة تنتمي إلى عالم الشعوذة الّتي ورثتها كمهنة عن أمّها وجدّتها. من شأن وجود هذا العنصر أن يضفي على الحدث حيويّة يصعب التكهّن بها؛ فالغجريّة في لقائها مع نابليون للمرّة الأولى تنظر في عينيه قائلة: «إنّي أرى في وجه هذا الشابّ شيئًا لا تراه أنت... أيّها الشابّ أنت مختلف.. أنت شابّ مشعّ لك في الحياة دور ما ليس لغيرك.. سوف أقول لك عن نفسك أشياء كثيرة وجميلة.. هل تريد أن...».
ومن أجل ائتلاف عناصر الحكاية في بنائها التقليديّ، على شخصيّة البطل، أن تكون ذات مسارين؛ الأوّل أن نراها مهتمّة بعالم الشعوذة مرحّبة بالساحرات والغرق في مسارات طقسهنّ كما فعل شكسبير مع ماكبث، أو نرى الشخصيّة رافضة وغير مؤمنة بعالم ما وراء الوجود.
يختار حمد الشهابي المسار الثاني لشخصيّة نابليون، فنراه بعدما استطاعت الغجريّة الدخول للعمل كخادمة في شقّتهم بلا مقابل بل نظير «وجبة مكوّنة من قطعة خبز وشاي فقط»، يعزّز المؤلّف من طاقات الغجريّة التنبّؤيّة بالغيب؛ فتخبره في لقائها الثاني: «شكلك يوحي بمستقبل باهر.. عظيم.. سوف تنال شهرة كبيرة في جميع أصقاع الأرض..»، فيخبرها نابليون في المشهد الثالث للفصل الثاني بازدراء أنّ أشياء مهنتها الّتي ورثتها: «شعر الأسد الإفريقيّ، وجلد الذئب الروسيّ، وعظام الهرّ الإسبانيّ الصغير، وعين الثعبان السحريّة» هي أشياء تافهة وموجودة في كلّ بقعة على الأرض، ثمّ في موضع ثان يكشف المؤلّف عن اعتقاد القوى الراسخة فيما يؤمن به، ويفعل ذلك في غير تراخ أو نفور أو حزم بل يفسح مكانة للشخصيّة أن تختار ما تؤمن به من مزايا، فيقول نابليون للغجريّة: «لك حقّ الإدلاء بما تفكّرين به، ولي حقّ التصديق أو عدم التصديق.. ولست راهبًا لأحكم عليك بالحياة أو الموت أو بالصدق والكذب».
في المقابل، هناك شخصيّة «ديزديه» حبيبة نابليون وابنة المسيو كلاري الصغرى. أجاد المؤلّف تكوين بناء شخصيّتها، وما يعتمل في داخلها من قوّة وصلابة واعتداد بالذات، فهي تظهر لتقدم على الفعل ثمّ ما تلبث أن تتراجع، تساوم تارة دون ضعف ولا تقبل أنصاف الحلول. حتّى في لحظات فشل علاقتها فإنّ القارئ يستطيع بسهولة كشف مآلها. لقد قدّم ذلك المؤلّف بسهولة ويسر على يد الغجريّة ومن داخل كبريائها الّذي لا حدود له. وإذ ينتصر نابليون للثورة والنضال من أجل الوطن، دون مراجعة لعواطفه الّتي يكنّها لمحبوبته، ما يشير إلى أنّ المؤلّف قد وضع الشخصيّتين في محور واحد بحيث لا تستطيع إحداهما التخلّي لأجل الأخرى أو التنازل، نراها تقول لنابليون: «هكذا أنا ولدت أحمل طبعي هذا ورضعت من ثدي مرّ لو شرب منه غيري لمات وتربّيت في كنف والد غلفني بديمقراطيّة الرأي ترك لي حرّيّة التصرّف ولم يعلّمني كيف أرضخ أو أوافق على كلّ شيء...».
تتّسم حوارات شخصيّات المسرحيّة بالإطالة، واستوقفني حوار جاء على لسان الغجريّة عندما قالت لنابليون ما جعلها في الواقع تبدو شخصيّة مثقّفة من طراز عال، وكأنّها تتكلّم بلسان المؤلّف حمد الشهابي، حيث تستخدم بعض مفردات علم النفس أو تحليل علم الجريمة فتقول: «لقد قلت لك إنّ الشيطان يقع بين البصر والدماغ، والّذي دفع هذا المجرم إلى الفعل السيئ ليست الرغبة ولا المرض ولا الجنون، حتّى لو كانت هذه الصفات موجودة لديه في السابق فالشيطان يحثّه بقوّة على فعل الشرّ لأنّه دخل مع المشهد الذي رآه وحوّله إلى دماغه وتمّ الأمر من خلال غرفة العمليّات بالدماغ بالهجوم الإجراميّ».
ما الدافع إلى جعل غجريّة فقيرة الحال أن تقول ذلك؟ ما المؤهّلات الّتي تملكها؟ ألا ينطبق حال المثل القائل «باب النجّار مخلع» على حال ناتاشا الّتي لم تقدر بسحرها أن تصلح من شأنها، فإذا بها تتنبّأ بحال قائد عسكريّ حلم يومًا باحتلال العالم؟!
وللحديث بقيّة..
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة نابلیون المسرحی ة المؤل ف مسرحی ة الأو ل شخصی ة
إقرأ أيضاً:
«الموتى يدقون بابي».. أحدث إصدارات الثقافة بهيئة الكتاب لـ محمد بركة
أصدرت وزارة الثقافة، من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، رواية «الموتى يدقون بابي» للكاتب محمد بركة.
وجاء على غلاف الرواية:
«أحيانًا يحلو لي أن أرقب أشعة الغروب من شرفتي التي تطل على تلك الإنشاءات ألمح هدهدًا يقف على حافة السور.. تاجه المزركش يضفي عليه سمتا ملكيا، فكرت بأنه من المنطقي للغاية أن يتخذ الأنبياء من هذا الطائر النبيل رسولا. ولأول مرة منذ فترة بعيدة، يخطر ببالي أن أصور شيئًا أسرعت إلى الداخل وجئت بهاتفي المحمول ضبطت الكاميرا على وضع التصوير، غير أن الهدهد كان قد طار. وأشرق قلبي بالابتسامة: فقد كان جزء مني يتمنى ألا يجرح السمت الجليل لطائر الأساطير القديمة، ألا أثبته في كادر بعيدًا عن الزمان والمكان.
تجعل رياح الخماسين من الأتربة البنية الناعمة ضيفا غير مرغوب فيه يفرض نفسه علينا بقوة الجغرافيا. زوجتي التي بدأت تظهر عليها بوادر هوس بالنظافة تلاحقه في الفراش وأسفل الستائر حتى بت أخشى أن تفتح علب مساحيقها فتجده بداخلها».
محمد بركة، كاتب وروائى وقاص، ولد بقرية كفر سعد بمحافظة دمياط عام 1972، وتخرج من قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة المنصورة عام 1994، وبدأ عمله الصحفي عام 1996 من خلال سلسلة مقالات ودراسات نشرت بصحيفة الحياة اللندنية حملت عنوان «المحروسة بعيون أوروبية»، ثم التحق بالعمل في مؤسسة الأهرام الصحفية بالقاهرة عام 1997.
كتب محمد بركة العديد من المؤلفات التي تنوعت بين القصص القصيرة، والرواية الطويلة، والنصوص المسرحية، ومنها: الفضيحة الإيطالية (رواية): صدرت عام 2005 عن دار نفرو بالقاهرة، وعشيقة جدى (مجموعة قصصية): صدرت عام 2017 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، وأشباح بروكسل (رواية): صدرت عام 2019 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، وحانة الست «رواية» صدرت 2021 عن دار المثقف بالقاهرة في طبعتين ثم صدرت الطبعة الثالثة عن دار أقلام عربية، وكوميديا الإنسجام (مجموعة قصصية): صدرت عام 1999 عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة، وثلاث مخبرين وعاشق (مجموعة قصصية): صدرت عام 2001 عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة.
اختيرت رواياته «الفضيحة الإيطالية» و«عشيقات الطفولة» و«الزائر» كعينة تطبيقية في أطروحه دكتوراه قدمها وائل فؤاد الباحث بكلية اللغة العربية في جامعة الأزهر فرع أسيوط، وحملت عنوان «رؤية الواقع في الرواية المصرية ما بين عامى 2000 و2018».
يتناول الكاتب محمد بركة في مشروعه الإبداعى تيمة صراع الهويات بين الشرق والغرب كما في روايتية الهامّتين «الفضيحة الإيطالية»، و«أشباح بروكسل»، فضلًا عن المفارقات الإجتماعية والمسكوت عنه دينيًا، وجنسيًا في الريف المصرى كما في مجموعتيه القصصيتين «كوميديا الإنسجام» و«3 مخبرين وعاشق».
وتحتل المرأة بطقوسها وتجلياتها وانكساراتها ملمحًا بارزًا في أعماله الإبداعية، ويشيد النقاد والباحثون بلغته الأدبية التي تتسم بالخيال الجامح، والعمق، والتشويق فضلاً عن تقنية السرد السينمائية البصرية.