ذاكرة الطفولة" زاوية نضئ فيها على طفولة أديب، نصغي لأولى تجاربه ورؤاه، أولى أفراحه وأحزانه، نمخر عباب مرحلة، بصماتها خالدة في أعماق الذات، وتتسرب لأطراف الأصابع، عبر النتاج الأدبي بين لحظة وأخرى.

في رواية "عشق مزمن" كتبت عن صديق لي توفي في الصغر

أمي عصب رواياتي خاصة في المَشاهد الأكثر إيلاماً وصدقاً

أبي تنبأ بأن أكون شخصية مميزة

يقول الأديب الفلسطيني أنور الخطيب: "لم أر جدّتي لأمي إلا في صورة واحدة يتيمة بالأبيض والأسود، مرّ عليها الزمن فترك خطوطه السوداء والبيضاء، ذكرياتي معها كانت حواراً متقطعاً من طرف واحد مع صورتها المعلقة على جدار إلى جانب صِوَرْ الغائبين، وذكرياتي الحقيقية كانت مع جدتي لأبي، فتحت عينيّ على الدنيا فوجدتها تسكن وحدها في غرفة من صفيح بقرار صارم منها، وعلاقتي بها كانت علاقة الضيف الزائر المرحّب به بحرارة، كانت تعاني من ضعف في بصرها، والقصة؛ أجرِيت لها عملية في عينيها في بيروت وطلب منها الطبيب عدم إزالة العصابة التي كانت تغطي عينيها لمدة 3 أيام، لكن جدتي علمت أنها في بيروت، وكانت لديها رغبة شديدة لرؤيتها، فنزعت العصابة في اليوم التالي وفقدت ما تبقى من بصرها، كنت أقول لها: بيروت أفقدتك بصرك يا ستّي، وكانت ترد: كله بأمر الله، جدتي لأبي لبنانية، كانت مؤمنة كالأولياء، تحولت من المسيحية إلى الإسلام بعد زواجها بجدي، فأصبحت شديدة التعصّب لإسلامها، كانت زياراتي لها ليلا، زودتني خلالها بقصص كثيرة عن حياتها في قرية شَعَبْ في فلسطين قبل التحاقها بأبي في لبنان".

عصب رواياتي

وفي حوار خاص لـ24 يضيف الخطيب: "أما أمي، فهي رواية الروايات، نثرت علاقتي بها في جميع رواياتي تقريباً، كانت توزع رعايتها وحنانها على 7 أولاد و3 بنات، إضافة إلى الزوج، أبي، لهذا لم أكن أطلب حقي من الحنان، فشببت وبين حاجبيّ عقدة(الكشرة)، وبقيت حتى غادرت للدراسة الجامعية في الجزائر، هناك ومنذ الليلة الأولى، شعرت بشوق كبير لأمي، واكتشفت فجأة أنه كانت لديّ أم، فسالت دموعي، وصرت أقلق عليها وأخشى على وجودها، حتى إذا توفاها الله أحسست باليتم والفقد الحقيقيين، وكتبت نصاً أبكاني كثيراً، نحن النازحون أو اللاجئون أو المهاجرون، أو أنا شخصياً، لم أتنعّم بحياة طبيعية إلى جانب الأم، كانت علاقة رسائل وبرقيات واتصالات هاتفية وزيارات مؤقتة، أولها نحيب وأخرها نحيب، حتى كانت الزيارة الأخيرة والنحيب الأكبر، أمي في جلّ كتاباتي الشعرية، وإن لم ترد باسمها وصفتها، لكنني أناجيها دائما، أما في الروايات فهي عصب رواياتي، وهي في المَشاهد الأكثر إيلاماً، والأكثر صدقاً، فهي موجودة في وردة عيسى، ومندل، ورائحة النار، وفتنة كارنليان، لكنها موجودة بكثافة في رواية عشق مزمن، أمي ملأت جزءًا من ذاكرتي الوطنية بقصص عن فلسطين والأرض والأقارب، والحديث عن أمي يحتاج مجلدات".

نبوءة أبي

ويتابع: "لا أعرف جدّي لأبي، لم أره في صورة، أما أبي، يرحمه الله، أصبح صديقي بعد أن أكملت سن ال 14، ولهذا قصة؛ هربت مع صديقي إلى دمشق للالتحاق بالفدائيين، وبعد إتمامنا لدورة الأشبال (الوحوش) كما كان ينادينا المدرب، عدت إلى المخيم، وفي صباح اليوم التالي أردت الذهاب إلى الصيد مع صديقي، حملت (النقّيفة)، وقبل خروجنا ناداني أبي وقال: انتظر، أنت الآن مقاتل ولا يجب أن تحمل (النقيفة) وأعطاني بندقية الصيد، ومنذ ذلك اليوم، عاملني أبي كصديق عمره 34 عاما وليس 14 عاماً، فأفرغ في ذاكرتي تاريخه العاطفي والوطني والنضالي والاقتصادي والأدبي والاجتماعي، كما أفرغ نقمته وغضبه، وكان يناديني حين يود الاستماع لنشرة أخبار تحت شجرة التين، وغالباً ما كان يمسك بالمذياع بعد انتهاء نشرة الأخبار بعصبية ويلقي به بعيداً مصحوباً باللعنات والشتائم، وكان يهرب من تفسير ذلك باستثناء مرة واحدة، استفسرت عن سبب عصبيته ورميه المذياع بعيداً، فنظر في وجهي طويلا والدموع تتحرك في مآقيه وقال بصوت متقطع: أما من خبر واحد عن عودتنا؟! فأتركه لأحزان المنفى واللجوء احتراماً لخصوصية بكاء الرجال، كان أبي شخصية رئيسة، باشكال متعددة، في رواياتي،" مندل، شوق مزمن، المدّثر، ورحلة الجذور،" أبي كان متقدّماً عن جيله، منفتحاً متحرراً داعما للمرأة، كان منحازاً لبناته أكثر من الأولاد، وكان يحثنا على الدراسة والتعلّم والتآزر، ويقول: المال يفنى والرجال تبقى، وتنبّأ لي: ستكون شخصية مميزة يا أنور؟".

أصدقاء بالفطرة

وعن أصدقاء طفولته يوضح: "فُجعت منذ الصغر بوفاة صديق عزيز، وأكمل الموت مهمته فيما بعد فسرق صديقيّ الطفولة، أحدهم توفي في أبوظبي، والثاني توفي بعد عودتي إلى لبنان بسبب الكورونا، وما بين الزمنين، لم أحظ بصديق حقيقي، أما في الطفولة، كان أبناء المخيم أصدقاء بالفطرة، كلنا أصدقاء، وتفرّقنا بعدها إلى عالم لا توجد فيه صداقات، بل مصالح، كتبت عن صديقي الذي توفي في الصغر في رواية عشق مزمن، وفي ما عدا ذلك، احتل الأب والأم وأخي الأكبر عدداً من رواياتي".
ويضيف: "كانت هواياتنا صيد العصافير باستخدام (النقيفة وقضبان الدبق)، ولعب كرة القدم، كنا نصنع كرة من قماش ونلعب، إضافة إلى اختراع ألعاب ضمن البيئة الفقيرة"
ويقول: "هناك 3 معلمين أثّروا في خياراتي وأخلاقي ودراستي وتعاملي مع الناس ومع ذاتي: الأول مدرس اللغة الإنجليزية في الأول ثانوي، وكان اسمه (حنّا)، كان يحضر كل يوم صباحاً، ويبادر بالاعتذار من أحد التلاميذ لأنه عامله بقسوة في اليوم السابق، ويطالب آخرين بالاعتذار لأنهم أخطأوا في التعامل معه، وحين سألناه قال: قبل النوم، أراجع يومي كله، وأحدد من أخطأت في حقه ومن أخطأ في حقي، وأنام نظيفاً مرتاحاً، الأستاذ (حنّا) هو الذي نصحني بدراسة الأدب الإنجليزي وقال لي: ستكون أديباً، أما المدرّس الآخر فكان أستاذ اللغة العربية في المرحلة الثانوية (لا أذكر اسمه)، لاحظ مع أول موضوع تعبير كتبته، موهبة ما لدي، فرعاني واقترح كتباً لأقرأها، وتنبّأ أيضا: (يا إبني أنت راح تصير أديب...). أما من أثّر في ثقافتي، فهو الدكتور عبد الرحمن الكيالي، يرحمه الله، عرضت عليه قصة قصيرة حين كنت في السنة الجامعية الأولى، فقال لي: كتبي لم تخرج من مكتبتي لأحد، سأسلفك كتاباً وحين تنتهي منه تعيده وأقدم لك الكتاب الثاني، وهكذا تعرفت عن طريقه على أمهات الكتب الثقافية العربية".

آفاق

وعن علاقته بالقراءة يبين الخطيب: "بدأت بقراءة ما هو متاح في البيت، لم يكن بمقدوري شراء كتاب خاص لي، كنت أقرا في كتب أخي قاسم الذي كان يدرس القانون، وحصل على الدكتوراه لاحقاً، وله شغف بالأدب ومعارف أخرى، فحاولت قراءة كتبه ووجدتها صعبة لكنها ممتعة، ثم وجدت أمامي روايات لنجيب محفوظ وكتاباً للعقاد وأشعاراً متفرقة، وعثرت بعدها على كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، فقرأته بنهم، وفتح أمامي آفاق تفكير مغاير، وكنت أيضا أستمتع بقصص المنهاج المدرسي، الكتاب الذي كنت أطمح إليه لم يكن متوفّراً وعوضت هذا الحرمان القرائي في ما بعد".
وعن بداية رحلته مع الكتابة يوضح: "لم أكتب خواطر إلا من خلال موضوعات التعبير المدرسية، كنت أميل أكثر للتفكير والتأمل أكثر من الكتابة، لكن الغريب أنني كتبت شعراً موزوناً في مرحلة مبكرة، والأغرب أنني كتبت شعراً باللغة الإنجليزية، لم أعر أياً منها الاهتمام، ففقدتها، وفي الجامعة بدأت كتابة القصة القصيرة ونشرت أولى قصصي في صحيفة النصر التي كانت تصدر في مدينة قسطنطينة في الجزائر في العام 1977".
وفي إجابته عن أول مدينة سافر إليها يضيف: "السفر هواية الأثرياء، كانت أول مدينة زرتها هي دمشق، وصلتها عبر الجبال للالتحاق بالفدائيين في العام 1968، لهذا لم تكن للترفيه، والمدينة الثانية التي زرتها هي مدينة قسنطينة في الجزائر، وكانت للدراسة الجامعية".
وبالنسبة لأثر تجربة الحب الأول في نتاجه الأدبي يختم الخطيب: "لم أكتب كثيراً عن الحب الأول روائياً، باستثناء حديثي في رواية "عشق مزمن" عن ذلك الحب، ولكنني كتبت في المرحلة الجامعية شعراً، ومن الطبيعي أن تكون فتاة الحب الأول هي النموذج".

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: غزة وإسرائيل زلزال المغرب انتخابات المجلس الوطني الاتحادي التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة فی روایة

إقرأ أيضاً:

صور | مسير ووقفات طلابية في حجة نصرة للشعب الفلسطيني

صور | مسير ووقفات طلابية في حجة نصرة للشعب الفلسطيني

مقالات مشابهة

  • صور | مسير ووقفات طلابية في حجة نصرة للشعب الفلسطيني
  • بكلفة 40 مليار دينار.. قضاء عراقي على موعد مع مشروع غير مسبوق في تاريخه
  • رواية إسرائيل عن اغتيال هنية.. أول تعليق من حماس
  • أليسون بيكر يحث ليفربول على صناعة تاريخه الخاص
  • محامي الجزيري: أزمته في الزمالك كانت مع جوميز
  • "حماس" تطالب بإرسال مراقبين أمميين إلى مستشفيات غزة "لتفنيد رواية الاحتلال"
  • اليمن يحقق أول انتصار في تاريخه بكأس الخليج على حساب البحرين
  • صفقة جديدة ورحيل كهربا.. ماذا يحدث داخل الأهلي بأمر الخطيب؟
  • الشيخ كمال الخطيب .. الشام الحنونة لا تخافوا عليها
  • نصائح ذهبية لـ "ست البيت".. داليا الخطيب في حلقة خاصة على الراديو 9090 السبت المقبل