في غياب حزام إسناد ديمقراطي للمقاومة
تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT
نكتب بقلوب خافقة فالعقل والقلب في غزة وأكنافها، لكننا نعود أحيانا إلى الأرض إذ يقتحمنا السؤال عن برود التعاطف العربي مع المقاومة المظفرة. نقرأ تفاعلات الناس البسطاء فنجد حماسا غير قابل للضبط، ونتابع أهل السياسة فنجد الحسابات السياسية إياها، لذلك فهم صامتون ولم نظفر حتى بتلك البيانات الخجولة. الخريطة السياسية العربية مطعون في وعيها بعقل استئصالي يخشى أن يكسب فيها الإسلاميون مجدا، فيقف السياسيون الاستئصاليون ضد المقاومة حتى لا يكسب الإسلاميون شيئا.
كان هذا السبب الرئيسي في تخريب التجربة الديمقراطية، ففي هذه التجربة التي وئدت في المهد بانقلابات عسكرية فتح الحاكم الإسلامي المنتخب بوابات غزة للتضامن العربي فعبرت القوافل التضامنية وعبرت حكومة تونس مثبتة ترابط الشعارين الأقدس في الثورة: الشعب يريد إسقاط النظام والشعب يريد تحرير فلسطين. في حرب غزة 2023 نقف من جديد على نفس الحقيقة ترابط قضية بناء الديمقراطية بإنجاز التحرير بقوى الشعب وإن لم يحمل سلاحا، ونعيد اكتشاف العقل الاستئصالي.
كان هذا السبب الرئيسي في تخريب التجربة الديمقراطية، ففي هذه التجربة التي وئدت في المهد بانقلابات عسكرية فتح الحاكم الإسلامي المنتخب بوابات غزة للتضامن العربي فعبرت القوافل التضامنية وعبرت حكومة تونس مثبتة ترابط الشعارين الأقدس في الثورة: الشعب يريد إسقاط النظام والشعب يريد تحرير فلسطين
تلازم الشعارين حقيقة محسوسة
كلما نهض الناس لمعركة التحرير وقفت ضدهم أنظمة ونخب تزعم الحداثة. وهذا منذ النكبة الأولى حتى صارت الحداثة صنو القبول بالاحتلال، وعلى الأرض لا نجد إلا الرجعية ترفع السلاح المقاوم. الربيع العربي الذي رفع الشعارين قدم الإسلاميين للحكم فلم يفرقوا بين الشعارين، فظهرت خطورة الجمع للعدو ومن عاش من خدمته في الداخل، وأعني الأنظمة أولا، ولاحقا سنكتشف النخب التي تتعامى عن وضع اللا ديمقراطية وتكتفي بنضالات صوتية في الفنادق، وقد شربوا نخب موت الحاكم الإسلامي في سجنه.
وكان أن فصلت النخب الانقلابية بين الشعارين فقطعت الطريق نحو الديمقراطية ونحو التحرير، فردم شعار التحرير بانكسار المسارات الديمقراطية. إنه تحالف خياني بين الأنظمة والنخب الحداثية بكل فصائلها، والنتيجة الآن أن غزة تحارب معزولة عن عمقها العربي وحتى عن رديفتها الضفة التي يحكمها فصيل نراه تجسيدا مطلقا للروح الاستئصالية؛ وتاريخه النضالي المزعوم لن يشفع له عند الجيل الفلسطيني المقاوم ولا الأجيال التي ستولد فلا تجد أثره في المقاومة.
الصورة تتضح وهذا من فضل حرب غزة 2023، وحدها الديمقراطية في الأقطار تفتح طريق الشعوب الثائرة نحو التحرير عبر رفد المقاوم بما يحتاجه على الجبهة وبعض ما يحتاجه التنمية في الأقطار، فالجياع لا يقدرون على المساعدة.
الفرز وزمن الشعوب
الصورة تتضح وهذا من فضل حرب غزة 2023، وحدها الديمقراطية في الأقطار تفتح طريق الشعوب الثائرة نحو التحرير عبر رفد المقاوم بما يحتاجه على الجبهة وبعض ما يحتاجه التنمية في الأقطار، فالجياع لا يقدرون على المساعدة
حرب غزة 2023 أثخنت في العدو، ونحن نكتب في اليوم الرابع منها ونعرف أن لن تكون الحرب الأخيرة وأن الأثمان ما تزال مطلوبة، لكننا عشنا الانتفاضة الأولى والثانية وما تلاهما من حروب؛ كل حرب منها كانت تراكم الانتصارات وفي كل حرب كان الفرز يتضح فيسقط الاستئصاليون من غربال الشعوب. لقد تحرر الفلسطينيون من الزعامات المزيفة وحرروا الجمهور العربي الواسع، كل حرب منها كانت توضح للشعوب طبيعة الغرب وجوهر موقفه من الكيان الصهيوني ومن العرب، وإذا كان الصهيوني يصف العرب بالحيوانات فالغرب مجملا لا مفصلا يتعامل معهم على أنهم كذلك.
لم تتغير المعادلة التي تجعل دولا غربية تحسب حساب الجمهور العربي الثائر المقهور رغم أنها تشاهده وتسمع غليانه حتى في ملاعب كرة القدم.. هذا الجمهور "الحيواني" كما تراه ما يزال تحت سيطرة أنظمة خيانية وضعها الغرب بحيله على رأس كل دولة، قاطعا الطريق على كل محاولة لبناء ديمقراطية تحول هذا الجمهور إلى بشر له وزن وقرار على الساحة المحلية والدولية.
إنهم (الغربيون) لا ينفقون مالا كثيرا في قهر هذه الشعوب، وقد اكتفوا دوما بوضع حاكم يفكر في كرسييه ومتعه ورفاه أولاده من بعده، وقد وجدوا دوما نخبا في الداخل تبرر لهم وتستعين بهم ضد شعوبها، وغالبا ما كان ذلك يتم باسم محاربة الظلامية والرجعية.
إن الغرب هو الأقدر حتى الآن على فهم هذه الشعوب وقياس قدرتها إذا تحررت، لذلك يردمها تحت صراعات غرائزية بواسطة نخب صنعها على هواه في جامعاته غالبا؛ وكلّفها دون جهد كبير منه بجر شعوبها إلى هذه النزاعات البينية لغرق شعوبها في حضيض الغريزة.
الغرب هو الأقدر حتى الآن على فهم هذه الشعوب وقياس قدرتها إذا تحررت، لذلك يردمها تحت صراعات غرائزية بواسطة نخب صنعها على هواه في جامعاته غالبا؛ وكلّفها دون جهد كبير منه بجر شعوبها إلى هذه النزاعات البينية لغرق شعوبها في حضيض الغريزة
ذات يوم كتب مثقف تونسي بفرنسية ممتازة في جريدة فرنسية تُقرأ في تونس؛ أن حركة حماس تمارس البرنوغرافيا السياسية بمحاربة دولة ديمقراطية اسمها إسرائيل. هذا المثقف الحداثي التنويري ليس صوتا منفردا، إنه توجه عام يشق كل النخب العربية من المغرب إلى بلاد الشام. وهذا التوجه/ التيار يقف الآن مع السيسي ومع انقلاب تونس بل حتى مع حفتر، ويرى في حرب غزة برنوغرافيا سياسية.
لماذا يفعلون ذلك؟ إنهم صنيعة استعمارية مهما تحدثوا حديث التقدمية، وهؤلاء هم من يخذلون غزة الآن ويمنعون المواطن المسكين من التبرع بدمه للجرحى. لكن وراء هذا الجدار السميك يتعلم الناس ويفهمون من العدو ومن الصديق، ويتعلمون الصبر من الفرز الطويل الذي يمهد لمعارك أخرى وغزوات مظفرة ستنتهي حتما بالتحرير وبناء الديمقراطية دونهم. متى يكون ذلك؟
نذكر أن عمر القضايا الكبيرة أطول من عمر أفراد وأجيال، القضايا الكبيرة لا تموت، إنها تصنع رجالها كل يوم، وبين الطفل الذي نشأ يرمي حجرا على دبابة والشاب الذي اقتحم مخزن الدبابات ودمره؛ مرّ زمن قليل من عمر جيل بما يبشر بأن المعركة لن تطول كثيرا. والثمن؟ هذا سؤال الخائفين على متعتهم أن تنقص منها الحرب قليلا وإن لم يظهروا على أية جبهة، إنه سؤال المخذلين، وصوت هؤلاء لا يصل إلى غزة وإن كان يعيق أنصار غزة من خارجها من التبرع بدمهم حتى لا ينتصر "الخوانجية" الظلاميون. هو الفرز الذي نحسمه بقانون تاريخي بناء الديمقراطية في الأقطار هو الطريق إلى المعركة الأخيرة والتحرير، فالشعب يريد تحرير فلسطين.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الحداثة غزة العالم العربي الاستبداد الحداثة طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ما یحتاجه
إقرأ أيضاً:
شعوب في انتظار المساعدات الإنسانية
إن مشاهد شاحنات الدعم تتوالى على غزة بعد الهدنة، ومشاهد الجسور الجوية محمّلة بالمساعدة إلى دمشق، وقوافل منتظرة ستصل إلى الخرطوم في مدى منظور؛ توفر شيئا من الطمأنينة لقوم لن يموتوا جوعا، وهي شهادة على تضامن عربي شعبي ورسمي بين مكونات أمة تبدو في الظاهر متضامنة ومتماسكة ضد عدوان غاشم. لكن وراء مظهر التضامن يطرح سؤال نفسه: لماذا لا نسمع أخبار قوافل المساعدة للمنكوبين إلا في المنطقة العربية؟
إن الكوارث تحصل في أماكن كثيرة ولكنها كوارث طبيعية تأتي فجأة وتحدث ضررا عابرا يصلح بسرعة، بينما قوافل المساعدة بين البلدان العربية لا تعود إلى أسباب طبيعية وإن لم تكن المنطقة بمنجاة منها (مثلما ما حصل في درنة الليبية)، بل هي نتيجة فعل سياسي بعضه مسلط من عدو خارجي وكثير منه تسبب فيه أبناء البلدان أنفسهم؛ بما وضع شعوبهم في وضع دوني اضطرهم إلى طوابير توزيع المعونة التي تذكر بطوابير المعونة في برنامج الأغذية العالمي في الخمسينات.
السؤال خلف السؤال: من المسؤول عن هذا الوضع البائس لشعوب يشهد تاريخها بمجد وتشهد جغرافيتها بقدرات ويشهد إنسانها بقدرة على العمل وتحقيق الكفاية؟ يسهل علينا هنا إلقاء الملامة على العدو الخارجي الغربي بالتحديد، ولكننا نرى مسؤولية حكام المنطقة التي انحطت بشعوب راقية وساعدتها في عدوانها نخب مثقفة لها لسان طويل في حديث الديمقراطية.
من المسؤول عن هذا الوضع البائس لشعوب يشهد تاريخها بمجد وتشهد جغرافيتها بقدرات ويشهد إنسانها بقدرة على العمل وتحقيق الكفاية؟ يسهل علينا هنا إلقاء الملامة على العدو الخارجي الغربي بالتحديد، ولكننا نرى مسؤولية حكام المنطقة التي انحطت بشعوب راقية وساعدتها في عدوانها نخب مثقفة لها لسان طويل في حديث الديمقراطية
وضع الضحية المريح
إن مشهد غزة ومشهد دمشق فيه اختلاف لذلك فالمسؤوليات تختلف نسبيا. غزة دمرها عدوان خارجي، بينما دمر دمشق عدوان داخلي مسنود عربيا. لقد خاضت غزة حربا مشروعة لتحرير نفسها وكان الثمن البشري والمادي مكلفا، غير أن ارتفاع الكلفة لم يكن بسبب العدوان بقدر ما كان بسبب الخذلان العربي لمعركة غزة المشروعة، فالدول العربية المحيطة بغزة ساهمت بقوة في رفع هذه الكلفة عبر إطباق الحصار عليها بقوات عربية وبما ثبت يقينا من مساعدة العدو نفسه على تدميرها بالأغذية والسلاح ووقود الطائرات والدعم السياسي.
لقد كان رأس غزة مطلوبا عربيا قبل أن يطلبه العدو، وهي إذ تتلقى المساعدات الآن ممن ساهم في تدميرها لا تنسينا أن هذه المساعدات لن تغطي الخذلان الأصلي ولن تبرّئ ساحة المساعدين من جريمة تاريخية.
جريمة خذلان غزة تلتقي مع جريمة تجويع سوريا وهي البلد الغني وتدميرها حتى إيصالها إلى وضع الحاجة إلى المساعدة (والسودان على الطريق). فالفاعل واحد وإن اختلفت أسماؤه، إنه النظام العربي الرسمي. لذلك فإن التوقف على إلقاء اللوم على عدو غاشم يبدو ضروريا لفهم لحظة الشعوب المجوعة. العدو ظاهر وله قوته وله خطته العدوانية، ولكن كل خططه وكل عدوانه لم يتجسد على الأرض إلا بتواطؤ عربي رسمي ضد الشعوب.
يروج الإعلام الرسمي العربي وتسايره نخب كثيرة ننعتها بلا مواربة بالجهل والجبن؛ لنظرية "المؤامرة على الأمة". هذه الرواية تريح النخب من مواجهة أنظمتها فتغطي عجزها وتبرر للأنظمة فتواصل خيانة شعوبها.
إن وضع الضحية مريح للجميع (نخبا وأنظمة) ولكنه لا يقدم حلا للمستقبل، لذلك وجبت إعادة تحديد المسؤوليات. فالغرب والصهيونية والشيطان الرجيم كلهم أعداء، وقد قالت غزة إن العدو قابل للهزيمة كما قالته دمشق في سياقها المخصوص، لكن العدو الفعال هو من يخرج قدرات الشعوب من المعركة باسم الحفاظ على سلامتها حتى يبلغ مبلغ مساعدة العدو على شعبه.
الأمر الأسوأ من الهزائم العسكرية في معارك شريفة أهون على النفس من مشاهد شعوب جائعة تتدافع على شاحنات المعونة، إنه مشهد بؤس كوني تسببت فيه بالدرجة الأولى أنظمة خائنة ونخب لا تقل عنها خيانة.
وماذا بعد تحديد المسؤوليات؟
إن المواطن العربي الذي يقتطع من قوت عياله ليرسل بسكويتا لأطفال غزة غير ملوم في مشهد الشاحنات، غير أن هذا علاج بالمسكنات، بينما يوجد العلاج الجدري في مكان آخر، إنه في التغيير السياسي القوي لهذه الأنظمة بالوسائل المتاحة وبالأثمان الضرورية.
إن المواطن العربي الذي يقتطع من قوت عياله ليرسل بسكويتا لأطفال غزة غير ملوم في مشهد الشاحنات، غير أن هذا علاج بالمسكنات، بينما يوجد العلاج الجدري في مكان آخر، إنه في التغيير السياسي القوي لهذه الأنظمة بالوسائل المتاحة وبالأثمان الضرورية
الشعوب التي تهرب من مواجهة أنظمتها ستظل ترسل بسكويتا لأية غزة قادمة، لذلك فإن الحلول في الأقطار أولا وتبدأ بإسقاط نظرية المؤامرة أو التذرع بالعدوان الخارجي، وهو شرط ضروري لتحديد عدو الحرية في الداخل قبل الخارج.
لقد وعدت الديمقراطية القصيرة الأمد بحل حقيقي، لكنها فشلت وفشلها في تقديرنا ناتج عن قوى داخلية طالما تحدثت عن الديمقراطية والحرية، فلما تجلت لها نكصت على أعقابها فإذا هي أسوأ من الأنظمة.
يحتاج الأمر لبعض شجاعة لتسمية العدو الداخلي باسمه ثم مواجهته بحقيقته. النخب السياسية التي تتحدث عن الديمقراطية وتهرب من نتيجة الصندوق الانتخابي ولا تصبر على فعله المتأني في التغيير؛ لا يمكن التعويل عليها في معارك حرية. لكن كيف الوصول إلى الشعوب وتثوير رغبتها في الحرية دون المرور بهذه النخب؟ هذا سؤال العجز القاهر يطرحه مواطن عربي مقهور ولا يقدم له إلا إجابة رومانسية عن الثورة المسلحة.
للأسف الشديد إن مشاهد قوافل المساعدة في الرقعة العربية ستظل تتجدد كل يوم وفي كل عدوان؛ لأن ما نسمعه من طعن في شرف غزة وفي شرف الثورة السورية من نفس النخب التي خانت الديمقراطية يكشف لنا أن معركة توليف الناس (الشعوب) حول معركة تحرر داخلي من عدوان الأنظمة على الشعوب لا تزال طويلة، وإنه ما لم يحصل هذا الاتفاق على محورية تحرير الشعوب من أنظمتها لتقوم جبهة قوية ضد احتمالات العدوان الخارجي فإن التجويع والتدمير سيستمر وتستمر القوافل.
هناك حل مريح يلائم رفاه النخب؛ أن ننتظر في مقاهي النخبة ومنتدياتها اندثار الغرب العدواني من تلقاء نفسه لتأتي الحرية مغسولة من عرق المعارك الحاسمة. هذه خاتمة مريحة للكاتب شخصيا؛ لأنه لم يعثر على إجابة على سؤال ممض: من سيقوم للحرية فيفرضها على الأنظمة؟