تحديات القبول الأعمى للبرمجة وأثرها على تجربة الحوار
تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT
abudafair@hotmail.com
نشأتُ متمرداً، ولا ادري من اين جاء التمرد الذي شكل وعياً مبكراً في حياتي، عندما كنا نذهب للمزرعة (الزرع) كان الناس دوما يسلكون الطريق المألوف الا ذاك المتمرد على الجماعة، فكنت اسلك (شرول) اي طريق لوحدي وكانت تجربة صعبة، لابد من تحمل لسعات النحل والعقارب ولدغات العناكب والثعابين وكل التحديات.
ثورة ديسمبر من اعظم الثورات, شهدت مطالب قوية، حرية سلام وعدالة ويا العنصري المغرور كل البلد دارفور، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل، وكانت شعارات صادقة لتطلعات سامية. ولكن مع بداية التفاوض وعملية الدخول في تكوين الحكومة تحولت معظم الشعارات الى سراب يحسبه الظمآن ماءاً تحت مظلة برمجة الانانية والعنصرية والاحادية وغيرها، وانت الاصيل في الثورة وغيرك مجرد تأثيرات جانبية، وهذا الذي جلب الاختلاف والهدم أصبح بديلا للبناء, فالثورة لم تحدث وعياً في البرمجة العقلية (mindset)، اللغة التي كنا نستخدمها قبل الثورة لم تتغير، ولا تغيّرت مبادئ الأخلاق أو الوعي بمكونات الثورة. إنما ما قمنا به فقط ترميم الأساليب القديمة وأنتاجه بشكل جديد، وللأسف دفعنا ثمناً باهظاً من خسارة الثورة وتدمير وطن. لاننا دوماً نفكر بما يرضي رغباتنا بدلاً من كيفية التفكير، فاذا تعلمنا كيفية التفكير سنتحرر من قيود الماضي، الذي ضيع ثورتين والثالث في الطريق وقد يضيع الوطن بأكمله، كل ذلك من البرمجة التي تلقيناها وقبلناها على أنها حقيقة ولم تجدي نفعاً، فلابد من تفكيكها، لان التغيير يتطلب طريق جديد.
سؤالاً ظللت لسنوات اطرحها على نفسي، اخيراً اتضح الإجابة تكمن في عالم البرمجة. لنعيش حياة سعيدة يجب أن تكون أفكاراً وسلوكاً معينة في مكانها ممنوع الاقتراب والتصوير. الله سبحانه وتعالى عندما ناد سيدنا موسى من جانب الطور الايمن وطلب منه فاخلع نعليك أنك بالواد المقدس طوى، هل فكرنا في المعني اما ذهبنا مذهب البرمجة، السؤال هل كان سيدنا موسى وقتها لابس مركوب، ولا قمر بوبا، ولا اصلاً كان حفيان، فالمسألة برمتها متعلقة بالبرمجة اخلع نعليك، يعني تخلى عن كل ثقافة ومعتقدات أهل القرية. فتم فرمتت المخزون الثقافي لدى سيدنا موسى عليه السلام بلغة الكمبيوتر. وتم مناداته من الجانب الايمن من الدماغ، الذي من مهامه الايقاع والادراك Harmony، والابعاد والخيال وكل ما يتعلق بالايحاء والتفكير لكي يحولها الجانب الايسر إلى برنامج عملي قابل للتنفيذ في حياة الناس، أذن لابد للمناداة من جانب الطور الايمن دون الايسر. وكما حصل لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في شرح الصدر الم نشرح لك صدرك وضعنا عنك وزرك، يعني تم توجيه الطبق (الدش) نحو علم الهدى وفرمتت الظهر من أي وزر، اي من ثقافة اهل القرية (مكة)، الجاهليه والاحادية. لذلك كان لابد ان يهاجر الي يثرب ويغير اسمها للمدينة، فالمدينة مجتمع تعددي، والقرية مجتمع آحادي لذا تم هلاك كل القرى في القرآن، إلا مكة وسميت ام القرى وطلب من الرسول صلي الله عليه وسلم ان يحدد حدودها والله اعلم .
التعددية أن تكون بينك والاخر حوار وارضية مشتركة مما يجعل الأفكار نسيجاً واحداً، فكل واحد يعاون الاخر فتنشأ علاقة حوارية تبادلية في منتهى الروعة والجمال، يرفدك بأفكاره وانت تغذيه بافكارك فكل واحد يمتلك أفكاراً لم يمتلكه الاخر فتزداد الثراء وتتدفق العطا, بدون الحوار يكون البديل الإقصاء هو العامل الذي يحول الإنسان من كائن وديع إلى حيوان مفترس مستعد أن يلحق بالاخر اشد صنوف الأذى والعذاب الذي يخشاه. البشرية لا تتطور إلا بقبول التعددية ونبذ الآحادية وافراد مساحة للاخر ليكون ضمن المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فالحوار أقوى آلية لبناء المجتمع وتعزيز التعاون والتفاهم ويساعد في زيادة ووعيهم على تقبل التفكير النقدي واستجواب الافكار والمعتقدات.
فهم اخلاق المخالف ضرورة حتمية، وهذا يتطلب النزاهة والتسامح وتفنيد الحجج بدلاً من الإقصاء واعلان الحرب، المنتقم قد لا يفكر إلا في الشر لانه عاجز عن فهمك، مرات كتيرة نسجن الرأي في زاوية التمرد دون اعطاءه حق الحوار، وهذا الذي يكسبنا خاصية عدم الاعتراف بالخطأ والانحراف وقبول الايديولوجيا دون تمحيص الغاية تبرر الوسيلة، ونعطي أنفسنا الحق في هدم حقوق الآخرين، دون النظر إلى جذور المشكلة، فهم الاخر يتطلب السمو وتجنب الادانة القطعية الغير قابلة لاعادة النظر، فاخلاق الفهم يتطلب فهم الفهم ذاته، مما يسمح لنا بدراسة كل الظروف والابعاد، وفهم الشروط الذاتية والموضوعية للسلوك مما يجنبنا خداع الذات، ويحررنا نسبياً من التمركز حوله، وان لا نكون قضاة نحكم على غيرنا بمعلومات مضللة. فهم نقاط ضعفنا هو السبيل نحو فهم ضعف الاخر، وعندها نكتشف اننا جميعاً بشر معرضون للخطأ على مستوى الفرد والجماعة، و اننا في حاجة متبادلة لفهم بعضنا بتغيير البرمجة. لا يوجد طريقة تسلكه بالخطأ وإلا تدفع الثمن. مثل الذي يرن على رقم هاتف خاطيء ويريد معلوماتك، أول سؤال مين معاى، لو قلت ممكن اسمك ورقم ميلادك يقول انت مين انت. لتجنب دفع الثمن دماءاً ودموع، وصراعات قد يؤدي إلى خسائر في الاراوح والأموال، آن الأوان أن نتعاون لنحقق مجتمعاً اكثر سلاماً وعدالة، وذلك لا يتم إلا باعتبار الماضي نقطة عبور نتعلم من اخطاءنا فيه، لانه يستحيل تغييره، ونعمل من اجل رفاهية المواطن التي تحتاج إلى بذل جهداً مشتركاً لمنع تصاعد الصراعات، وتحقيق التقدم نحو مجتمع يسوده السلام والاستقرار وذلك لا يتم إلا بمعرفة الأرقام الصحيحة لجهة الإتصال الذي نريد.
abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
"ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".. موضوع خطبة الجمعة القادمة
حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة القادمة بعنوان: "وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ"، وقالت وزارة الأوقاف: إن الهدف من الخطبة توعية جمهور المسجد بأهمية التعايش السلمي باعتباره من أهم أسباب استقرار المجتمع.
وزارة الأوقاف تحدد خطبة الجمعة القادمة رئيس هيئة الأوقاف: حماية الوقف وحسن استثماره أولى اهتماماتناوقالت وزارة الأوقاف: إن موضوع الخطبة الأولى موحد على مستوى الجمهورية، وإن موضوع خطبة الجمعة الثانية يستهدف معالجة مفهوم المواطنة، بباقي المحافظات.
"وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ"
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، بَدِيعِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ، وَنُورِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهَادِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أَقَامَ الكَوْنَ بِعَظَمَةِ تَجَلِّيه، وَأَنْزَلَ الهُدَى عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَمُرْسَلِيه، وأَشهدُ أنْ لَا إلَهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبِيبُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ علَيهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّينِ، وَبَعْدُ:
فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ نُورَانِيَّةٌ خَرَجَتْ مِنْ لِسَانِ الجَنَابِ المُعَظَّمِ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، لِتُعَبِّرَ عَنْ دَعْوَتِهِ الشَّرِيفَةِ إِلَى التَّحَلِّي بِأَسْمَى آيَاتِ الإِحْسَانِ وَالبِشْرِ وَالبِرِّ وَالإِكْرَامِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى: «إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ»، وَهَا هُوَ خَيْرُ الخَلْقِ وَحَبِيبُ الحَقِّ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَدْ وَسِعَتْ ابْتِسَامَتُهُ الصَّادِقَةُ وَأَخْلَاقُهُ السَّامِيَةُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، فِي مَزِيجٍ مُحَمَّدِيٍّ مُدْهِشٍ يَجْعَلُ القُلُوبَ تَأْرِزُ حُبًّا إِلَى حَضْرَتِهِ وَتَسْتَبْشِرُ بِدَعْوَتِه.
فَيَا أَيُّهَا المُحَمَّدِيُّونَ، إِنَّ هَذَا السِّرَّ النَّبَوِيَّ الشَّرِيفَ هُوَ الَّذِي جَذَبَ القُلُوبَ وَالأَرْوَاحَ وَالعُقُولَ، لِيُؤَسِّسَ فَلْسَفَةَ الحُبِّ بَيْنَ البَشَرِ جَمِيعًا، فَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّكُمْ لَنْ تَصِلُوا إِلَى القُلُوبِ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَا بِعَوَارِضِ دُنْيَاكُمْ، وإِنَّمَا تَسَعُونَ قُلُوبَ البَشَرِ بِالأَخْلَاقِ الَّتِي أَتَمَّ الجَنَابُ الأَنْوَرُ بِنَاءَهَا، وَرَفَعَ قَدْرَهَا، حِينَ قَالَ عَنْ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ».
فَقِفْ أَيُّهَا العَقْلُ عِنْدَ مُنْتَهَاكَ، وَأَنْتَ تَرَى الأَخْلَاقَ المُحَمَّدِيَّةَ تَسْمُو فَوْقَ السَّمَاءِ بِرًّا وَبِشْرًا وَوَفَاءً وَلُطْفًا، حِينَ تَبْدُو نَوَاجِذُهُ الشَّرِيفَةُ، كَأَنَّ النُّورَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ، لِتَفْتَحَ ابْتِسَامَتُهُ الصَّافِيَةُ وَكَلِمَاتُهُ الطَّيِّبَةُ قُلُوبَ النَّاسِ إِجْلَالًا وَاحْتِرَامًا وَإِقْبَالًا علَىَ هَذَا الدِّينِ القَوِيمِ وَلِهَذا النَّبِيِّ المُصْطَفَى الأَمِينِ الَّذِي كَرَّمَهُ رَبُّهُ بِهَذَا الوَصْفِ المُقَدَّسِ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
أَيُّهَا المُحَمَّدِيُّ، أَلَمْ يَحْكِ التَّارِيخُ لَكَ عَنِ الرَّسَائِلِ وَالخِطَابَاتِ النَّبَوِيَّةِ لِلْأُمَرَاءِ وَالقَيَاصِرَةِ وَالأَكَاسِرَةِ وَقَدْ جَمَعَتْهَا لُغَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ لُغَةُ الاحْتِرَامِ والتَّفْخِيمِ والبَهَاءِ وَبَذْلِ السَّلَامِ؟! أَلَمْ تَكْتُب الصَّفَحَاتُ عَنْ رُقِيِّ التَّعَامُلِ النَّبَوِيِّ مَعَ وَفْدِ نَجْرَانَ الَّذِي أَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يُصَلُّوا صَلَاتَهُمْ بِمَسْجِدِه الشَّرِيفِ فِي مَشْهَدٍ يُبْهِرُ الدُّنْيَا وَيَأْسِرُ القُلُوب؟!
أَيُّهَا النَّبِيلُ، اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الحَالَ الشَّرِيفَ هُوَ بَابُ هِدَايَةِ الخَلْقِ، وَمِفْتَاحُ الإِقْبَالِ عَلَى الحَقَّ، فَحَبِيبُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ هُوَ مَنْ أَبْهَرَ الدُّنْيَا بِأُصُولِ التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ، وَهَذَا تِلْمِيذُهُ النَّجِيبُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُعَدِّدُ مَحَاسِنَ الإِسْلَامِ وَمَفاخِرَهُ وَمَنَاقِبَهُ لِلنَّجَاشِيِّ فِي مَشْهَدٍ عَجِيبٍ، وَحِوَارٍ مَهِيبٍ دَرَسَ جَعْفَرُ أَدَواتِهِ، وَعَرَفَ كَيْفَ يُخَاطِبُ الأَدَبُ النَّبَوِيُّ قُلُوبَ المُلُوكِ لِيَسَعَهَا بِبَسْطِ الوَجْهِ وَحُسْنِ الخُلُقِ، حِينَ قَالَ لِلنَّجَاشِيِّ: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ المَيْتَةَ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيئُ الجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَحْنُ نَعْبُدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ اليَتِيمِ، وَقَذْفِ المُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ»، فَمَا كَانَ مِنَ النَّجَاشِيِّ إِلَّا أَنِ انْفَتَحَ قَلْبُهُ، وَاسْتَبْشَرَ وَجْهُهُ وَوِجْدَانُهُ بِهَذَا الدِّينِ العَظِيمِ، فَبَكَى حِينَ تَذَكَّرَ أَخْلَاقَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى بَابَ بِرٍّ وَوَفَاءٍ وَحَنَانٍ وَرَحْمَةٍ وَعِلْمٍ، وَجَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى آيَةً فِي العَطَاءِ وَالتَّسَامُحِ وَالسَّلَامِ؛ لِيَنْطَلِقَ لِسَانُهُ قَائِلًا: «إنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشكَاةٍ وَاحِدَة».
أَيُّهَا السَّادَةُ، لَقَدِ اسْتَقَى الشَّعْبُ المِصْرِيُّ هَذِهِ الأَنْوَارَ المُحَمَّدِيَّةَ وَتِلْكَ العَظَمَةَ المُصْطَفَوِيَّةَ، فَكَانَتِ اللُّحْمَةُ الوَطَنِيَّةُ حَاضِرَةً بِكُلِّ رُبُوعِ المَحْرُوسَةِ، وَكَانَ احْتِرَامُ شُرَكَاءِ الوَطَنِ مَنْهَجًا مَرْسُومًا، فَأَصْبَحَ الشَّعْبُ المَصْرِيُّ نَسِيجَ وَحْدِهِ بِجَمِيعِ طَوَائِفِهِ تَعَايُشًا وَتَكَامُلًا، تَغْمُرُهُ السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، مَجْبُورًا مَسْتُورًا مَنْصُورًا.
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَبَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ شَرِيعَتَنَا الغَرَّاءَ تُفِيضُ الخَيْرَ عَلَى الجَمِيعِ، شِعَارُهَا إِكْرَامُ الخَلْقِ وَإِيصَالُ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ وَمَشَارِبِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَانْظُرُوا إِلَى المُعَامَلَاتِ، بَيْعًا وَشِرَاءً، عَدْلًا وَقِسْطًا، وَزَوَاجًا مُبَارَكًا وَحُسْنَ جِوَارٍ، فِي إِطَارٍ مَتِينٍ مِنَ الإِرْشَادِ الإِلَهِيِّ الَّذيِ يَجْمَعُ النَّاسَ جَمِيعًا تَحْتَ مِظَلَّةِ المُوَاطَنَةِ الَّتِي تَجْمَعُ وَلَا تُفَرِّقُ، يَقُولُ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}.
أَيُّهَا النَّبِيلُ، انْتَبِهْ إِلَى وَصْفِ رَبِّ العَالَمِينَ لِمَقَامِ النَّبِيِّ الأَمِينِ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وَلِقَوْلِ الجَنَابِ المُعَظَّمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ لِلنَّاسِ كَافَّةً»، فَالآيَةُ الكَرِيمَةُ وَالحَدِيثُ الشَّرِيفُ يُرَسِّخَانِ لِمُوَاطَنَةٍ حَقِيقِيَّةٍ قِوَامُهَا التَّوَاصُلُ بِالْخَيْرِ وَالتَّعَاوُنُ وَالتَّكَافُلُ بَيْنَ أَبْنَاءِ الوَطَنِ جَمِيعًا، عَلَى مِيثَاقِ الحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ الَّذِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُوَاطِنٍ وَآخَرَ، فِي ظِلِّ وَطَنٍ وَاحِدٍ لَا تُعَكِّرُ صَفْوَهُ شُبْهَةٌ، وَلَا تُؤَرِّقُهُ فِتْنَةٌ.
أَلَا تَعْلَمُ أَيُّهَا النَّبِيلُ أَنَّ المُوَاطَنَةَ أَسَاسُ البِنْيَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ المُتَمَاسِكَةِ وَالتَّرَابُطِ المُجْتَمَعِيِّ فِي ظِلِّ وَطَنٍ وَاحِدٍ تَجْمَعُنَا شَوَارِعُهُ وَحَارَاتُهُ، وَتَحُوطُنَا أَحْلَامُهُ وَطُمُوحَاتُهُ؟! إِنَّهَا إِيمَانٌ حَقِيقِيٌّ بِالتَّعَدُّدِيَّةِ وَالتَّنَوُّعِ الإِنْسَانِيِّ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي الكَوْنِ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}.
فَلْنَنْشُرْ ثَقَافَةَ المُوَاطَنَةِ وَالتَّعَايُشِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الوَطَنِ جَمِيعًا؛ حَتَّى نَنْعَمَ بِالسَّلَامِ وَالأَمَانِ، وَيَفِيضَ الخَيْرُ عَلَى وَطَنِنَا المُبَارَكِ.
اللَّهُمَّ انْشُر السَّلَامَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي رُبُوع مِصْرِنَا الحَبِيبَةِ
وَأَفِضْ عَلَيْنَا مِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ