مضى نصف قرن منذ معركة الكرامة العربية ضد الاحتلال الصهيوني عام 1973، ويبدو أن توقيت المعركة ناسب قادة المقاومة الفلسطينية، فأعادوا مباغتة الاحتلال في أكبر عملية عسكرية في الداخل المحتل منذ هزيمة الجيوش العربية عام 1948.
تثير عملية طوفان الأقصى إعجابا وانبهارا كبيريْن للمؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، وأول أسباب الإعجاب، السرية المطبقة لعملية استغرق إعدادها سنوات طويلة، وسط رقابة صهيونية على الأرض ومن السماء، وجهاز استخباراتي شديد التقدم، لكن اتضح أنه متقدم في أدوات التكنولوجيا لا في كفاءة استخدامها، فحركة حماس محدودة القدرات والنطاق الجغرافي، استطاعت التخطيط والتدرب على عملية عسكرية شديدة القوة والاتساع، تحت سمع وبصر العدو، وربما بعض أصدقائه الدوليين والإقليميين.
ثاني الأسباب هو كفاءة التنفيذ العالية التي صاحبت انطلاق المعركة، كالاستيلاء على القواعد العسكرية، وتحييد أفرادها، وإخراج آلياتها من الخدمة، وأسر ضباط وجنود بأعداد كبيرة لإخلاء السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين، والضغط على حكومة المتطرف ومجرم الحرب نتنياهو، من أجل كبح جماح ردة فعله على المدى القصير أو المتوسط في عدوانه المتوقع، بغية حفظ ماء الوجه.
كانت قوة وكفاءة العملية تشبه ما حققه العرب في معركة 1973، مع فارق أن الانتصار الذي تحقق منذ نصف قرن كان يدور على الأراضي المحتلة لمصر وسوريا، بينما الطوفان يدك الداخل المحتل، كذلك هبَّت الولايات المتحدة لنجدة الدولة الضعيفة والهشة والمهزومة أمام أي اختبار عسكري حقيقي.. فعلت ذلك في حرب 1973، وتُكرر حركتها اليوم مع انطلاق الطوفان الفلسطيني، لتتأكد أمام الدنيا حقيقة أن جيش الاحتلال ضعيف
يلفت النظر أيضا شكل الهجوم الذي لم يكن من الأنفاق كما كان يتصور الصهاينة، فقد اعتمدت مناوراتهم وتدريباتهم على قتال الأنفاق، لكن المقاومين خرجوا لهم من البر والبحر والجو. وقد أثار الهجوم الجوي المفاجأة لدى كثيرين رغم بساطة إمكانياته، كما فاجأنا المقاومون بالدفاعات الجوية الجديدة، فضلا عن قوات النخبة التي هزمت قوات نخبة الاحتلال.
كانت قوة وكفاءة العملية تشبه ما حققه العرب في معركة 1973، مع فارق أن الانتصار الذي تحقق منذ نصف قرن كان يدور على الأراضي المحتلة لمصر وسوريا، بينما الطوفان يدك الداخل المحتل، كذلك هبَّت الولايات المتحدة لنجدة الدولة الضعيفة والهشة والمهزومة أمام أي اختبار عسكري حقيقي.. فعلت ذلك في حرب 1973، وتُكرر حركتها اليوم مع انطلاق الطوفان الفلسطيني، لتتأكد أمام الدنيا حقيقة أن جيش الاحتلال ضعيف، واستخباراته فاقدة للكفاءة العملية، وأنه لا يجيد سوى الصراخ والاستنجاد بالقوى التي لفظته من أرضها وزرعته في أرضنا، ولا يجيد سوى قلب الحقائق وادعاء المظلومية بصورة ممجوجة، وترويج دولي لتلك الوقاحة، ولا يجيد سوى قتل المدنيين بالقصف الجوي دون مواجهة على الأرض.
استطاع المقاومون دفع نتنياهو المتغطرس ووزير الحرب في جيشه، إلى التفكير بجدية في اجتياح برَّي لغزة، وهي اللحظة التي يأملها المقاومون ليذيقوه خسائر فوق الخسائر، وليضبطوا ميزان المعارك مرة أخرى، وليعلم القاصي والداني حجم وقوة وكفاءة جيش الاحتلال أمام حركات بسيطة لا تملك مدفعية ثقيلة أو منظومة دفاع جوي متطورة أو طائرات قتالية ولو قديمة الطراز.
مع هذا الوهن الكبير في قوة وكفاءة "أقوى جيش في المنطقة"، أصبح فتح جبهة شمالية مسألة مرعبة ومؤرقة لقادة "بيت العنكبوت"، كما يحلو القول للسيد حسن نصر الله، ولا يزال جيش الاحتلال يتعامل بحذر في ردود أفعاله على المناوشات الشمالية لئلا يفتح الجبهة؛ خوفا من كشف ضعفه بصورة أوضح، وخوفا من أن يؤدي ذلك إلى حرب إقليمية واسعة النطاق.
لم تخل مكاسب "طوفان الأقصى" من البعد الثقافي كذلك، فبعدما كان المطبعون والمنبطحون العرب يسخرون من القوة التدميرية للصواريخ محلية الصنع في بداياتها، ويلقون اللوم على المقاومة لأنها تجلب عدوانا قاتلا بسبب صواريخ عبثية، وبعد انتقادات عديدة لسنوات طويلة، ألجمت المقاومة ألسنتهم، وأطلقت ألسنتنا، وهزمت أفكارهم وأيدت أفكارنا، وأثبتوا للدنيا معنى "أول الغيث النَّدى".
رغم سير المعارك، فإن المقاومين فتحوا الباب للمسار السياسي مرة أخرى، فربما يصعب في هذه المرحلة تصور زوال الاحتلال بشكل كامل عن أرض فلسطين كاملة، لكن المعركة الجارية ستفتح الباب على مصراعيه من أجل العودة إلى حدود ما قبل عام 1967، والتاريخ أثبت أن كل تنازلات الاحتلال بدأت عقب المقاومة، فاسترداد سيناء بدأ بنصر أكتوبر 1973، والانتفاضة الأولى عام 1987 أدت إلى قبول التحدث مع الفلسطينيين وجها لوجه
الآن، ورغم سير المعارك، فإن المقاومين فتحوا الباب للمسار السياسي مرة أخرى، فربما يصعب في هذه المرحلة تصور زوال الاحتلال بشكل كامل عن أرض فلسطين كاملة، لكن المعركة الجارية ستفتح الباب على مصراعيه من أجل العودة إلى حدود ما قبل عام 1967، والتاريخ أثبت أن كل تنازلات الاحتلال بدأت عقب المقاومة، فاسترداد سيناء بدأ بنصر أكتوبر 1973، والانتفاضة الأولى عام 1987 أدت إلى قبول التحدث مع الفلسطينيين وجها لوجه (أيًّا كانت نتيجة المسار وقبوله أو رفضه)، وتحرير جنوب لبنان جاء بعد مواجهات حزب الله، وتحرير الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين كان بعد أَسْرٍ مقابل، فالاحتلال لا يعرف سوى لغة القوة والضغط، ولا قوة يمكن وصفها بعد اقتحام مستوطنات وقواعد عسكرية والسيطرة عليها، خاصة أن بعضها يبعد مسافة 40 كم خارج قطاع غزة.
ما صنعته "طوفان الأقصى" أنها تعيد تشكيل المنطقة بصورة حقيقية لا بمجرد التهديد، وتصوغ معادلة الردع بطريقة عملية، وتعيد إلى القضية الفلسطينية حيويتها، وتُسمع الدنيا نداءات وحقوق الشعب الفلسطيني، وتدمر أفكار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتدفع بمراجعة حسابات الذين يفكرون فيه باعتبار أن الفلسطينيين أصبحوا أمواتا، وتفع معنويات الفلسطينيين في كل مكان بعدما أيقنوا أن لهم درعا وسيفا، وتُلجم عربدة الاحتلال في الضفة والقدس، وتحطم صورة الجيش القوي واستخباراته اليقظة، ومع كل ذلك يمسح الطوفان عن جبيننا عار المهانة أمام الاحتلال والقوى الكبرى، ويرفع رؤوسنا بين العالمِين بعدما قهرها الاستبداد وعربدة الاحتلال، وأصبحنا نقول بأريحية كاملة: لقد هُزم الاحتلال.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال المقاومة الفلسطينية الإسرائيلية غزة إسرائيل فلسطين غزة الاحتلال المقاومة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة طوفان الأقصى جیش الاحتلال
إقرأ أيضاً:
أبو عبيدة: معركة "طوفان الأقصى" التاريخية دقت المسمار الأخير في نعش الاحتلال الزائل لا محالة
أعلنت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، مساء الأحد، أن معركة "طوفان الأقصى" ضد إسرائيل غيّرت المعادلات، مؤكدة التزامها باتفاق وقف إطلاق النار شريطة أن تلتزم به إسرائيل.
وتحدث أبو عبيدة، متحدث "القسام"، في كلمة مصورة دامت نحو 24 دقيقة، وهي الأولى له منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والخطاب الثلاثين منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية بقطاع غزة في 7 أكتوبر 2023.
وتتزامن هذه الكلمة مع أول أيام وقف لإطلاق النار وتبادل أسرى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية بغزة بدأ صباح الأحد، بوساطة قطر ومصر والولايات المتحدة.
وقال أبو عبيدة: "نعلن نحن وفصائل المقاومة، التزامنا باتفاق وقف إطلاق النار واستعدادنا لتنفيذ بنوده والالتزام بشروطه".
وأكد الالتزام بـ"وقف القتال وبالجدول الزمني لعملية التبادل، وتأمين أسرى العدو، وصولا لتسليمهم مقابل أسرى شعبنا في كافة مراحل الصفقة".
لكنه استدرك مشددا على أن "كل ذلك مرهون بالتزام العدو".
وفي وقت سابق الأحد، تسلمت تل أبيب 3 أسيرات "مدنيات" إسرائيليات أطلقت حماس سراحهن، على أن تفرج إسرائيل في المقابل الأحد عن 90 أسيرا فلسطينيا، بينهم 69 أسيرة.
وتابع أبو عبيدة: "نضع الجميع أمام مسؤولياتهم بشأن انتهاكات قد يرتكبها الاحتلال للاتفاق".
وحذر من أنها "قد تعرض العملية للمخاطر من حيث التزاماتنا وقدرتنا على تنفيذ التبادل و(تمثل) تأثير مباشر على سلامة وحياة أسرى العدو في مراحل الصفقة وتفاصيلها وتوقيتاتها".
أبو عبيدة، قال إن "471 يوما مرت على معركة طوفان الأقصى التاريخية (...) التي دقت المسمار الأخير في نعش الاحتلال الصهيوني الزائل لا محالة".
وفي 7 أكتوبر 2023، هاجمت حماس 22 مستوطنة و11 قاعدة عسكرية بمحاذاة غزة، فقتلت وأسرت إسرائيليين، ردا على "جرائم الاحتلال اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولاسيما المسجد الأقصى"، وفق الحركة.
وأضاف أبو عبيدة، أن "معركة طوفان الأقصى بدأت من تخوم غزة، لكنها غيرت وجه المنطقة بل أبعد من ذلك، وأرست معادلات جديدة في الصراع مع هذا الكيان المحتل".
وتوجه إلى أهل غزة قائلا: "تحية لكم يا أهلنا في غزة.. لقد صنعتم ملحمة تاريخية (...) وأذهل صمودكم وثباتكم العالم بأصدقائه وأعدائه".
وتحدث عن "الهزة التي تعرض لها الكيان المحتل في هذه المعركة".
ودلل عليها بـ"سقوط نظرية ردعه، ومقتل وإصابة الآلاف من جنوده، وتدمير وإخراج نحو ألفي آلية من آلياته عن الخدمة، وإصابة أساسات ما يُسمى بأمنه القومي".
وكذلك "توجيه ضربة كبيرة جدا لاقتصاده، وفرض التهجير والنزوح على مناطق واسعة من الأراضي المحتلة (أراضي عام 1948)، وفتح جبهات قتال متعددة عليه، وحصاره بحرا، واضطراراه للاستنجاد بقوى دولية للدفاع عنه".
وتابع أبو عبيدة: "مرورا بإظهاره ككيان وحشي مجرم، وفضح مَن يقف خلفه من طغاة العالم ومنظماته الشكلية، وصولا إلى نبذه وملاحقة قادته وجنوده كمجرمي حرب مطلوبين للعدالة".
وأردف أن "كل هذا وغيره الكثير أوصل السواد الأعظم من شعوب العالم إلى قناعة بأن الاحتلال هو أكبر خطيئة في هذا الزمان، وأنا استمرار احتلاله لأرضنا سيؤثر على كل المنطقة والعالم".
وزاد بأن "سكوت وتواطؤ قوى الظلم في ما يُسمى بالمجتمع الدولي على جرائم العدو في غزة ستكون له آثار بعيدة كل البعد عن غزة، وستكون وبالا على الاحتلال وكل داعميه وعلى المتواطئين معه والمتخاذلين والطغاة، فضلا عن العدو الصهيوني نفسه".
وقال أبو عبيدة: "قاتلنا مع إخواننا في كافة فصائل المقاومة صفا واحد لأكثر من 15 شهرا، واستمر (مقاتلونا) في توجيه ضربات للعدو حتى آخر يوم من القتال في كل بقعة من القطاع (...) وكبدوا الاحتلال خسائر فادحة".
وتابع: "نقاتل منذ بداية هذه المعركة في ظروف تبدو مستحيلة في الحسابات العسكرية، وفي ظل اختلال هائل في موازين المعركة، وأمام جيش عصابات قاتلة ومجرمة لا تعترف بأخلاقيات ولا قوانين للحرب، ولا تأبه لحقوق الإنسان".
واستطرد: "بينما واجهنا عدونا مع القليل من السلاح المبارك، استعان عدونا المجرم بأقوى دول العالم المتجبرة الظالمة، التي أمدته بجسور جوية من القنابل وفتحت له مخازن الذخيرة".
"وبينما نوجه ضرباتنا منذ السابع من أكتوبر (2023) للجيش الصهيوني، إلا أن العدو واجهنا بقتل عوائلنا وأطفالنا وتدمير البيوت والأحياء والمرافق المدنية عشوائيا"، كما زاد أبو عبيدة.
وأردف: "وبينما بذلنا كل الجهود للحفاظ على أسرى العدو، عملا بأبجدياتنا وحفاظا على أهدافنا النبيلة، استمات العدو في محاولة قتلهم على مدار الساعة، وقتل الكثير منهم".
وشدد أبو عبيدة، على أنه "أمام هذه المعادلات المختلة تتضح عظمة هذه المعركة، وكيف أنها ستصبح ملحمة تاريخية ملهمة للأجيال والأحرار".