في المقابلة التالية يحث الأكاديمي والسفير السوداني السابق في الولايات المتحدة الأمريكية الخضر هارون، على عدم السماح للأجانب بالتدخل في الشأن السياسي السوداني الذي أفضى لإشعال الحرب، ويدعو لمعالجة الأسباب، وجعلها الأخيرة في تاريخ السودان، بالاتفاق على نظام سياسي يحقق التوازن المطلوب بين أجزاء السودان المختلفة بحيث يشعر كل سوداني بالانتماء لوطن يدفعه الحرص للقتال في سبيل الإبقاء عليه.



 والخضر هارون شغل منصب عميد كلية الإعلام بجامعة إفريقيا العالمية، وله العديد من الكتابات في مجالات أدبية وثقافية وسياسية أبرزها كتابه الصادر أخيرا بعنوان "صناعة وتفكيك السودان الموحد".

ويتحدث الخضر لـ"عربي21"، عن دور التراث في نهضة الأمم حتى وإن تعرضت لمحنة مثلما يحدث للسودان، معتبرا أن نخبة  المؤسسين في بلاده لم يتعاملوا مع الحداثة في السياسة بمعنى قطع الصلة بالكلية، موضحا أن العولمة والحداثة وما بعد الحداثة تظل شعارات في عالم ينكفئ الآن على نفسه عبر العرقيات والمناطقية والديانات.

وتاليا نص المقابلة:

س ـ هل يسعنا القول، إن حرب الخرطوم هي إعلان لنهاية الفكر السياسي السائد لدى النخب السودانية؟

 ـ حتى لا نغرق في بحر التجريدات النظرية فنغيب حقائق الواقع الماثل، أقول إن حروب الخرطوم القديمة قد كتبت بالفعل نهاية للواقع السياسي الذي ساد قبلها، فانتصار محمد أحمد (المهدي) على سلطة الحكم التركي المصري في 26 يناير 1885م قد حرر شهادة الوفاة لذلك الحكم لكن مع ملاحظة أن الخرطوم عاصمة ذلك الحكم ورمز سيادته لم تكن وحدها التي سقطت، فمراكز قوة ذلك الحكم بحامياته ومواقعه العسكرية الحصينة كانت قد سبقته بالسقوط.

تكرر ذات المشهد في أغسطس عام 1898م عندما انتصر اللورد البريطاني هيربرت كتشنر في معركة كرري في أمدرمان معيدا نسخة أخرى من الاستعمار هي الاستعمار الإنجليزي ـ المصري. مرة أخرى كانت الخرطوم وحدها التي تنتظر السقوط بعد فشل إنقاذ الحاكم العام شارلز غردون ولا أهمية أو قوة تذكر لمدن آخرى غيرها بقيت صامدة آنذاك، لذلك سجلت حرب الخرطوم نهاية لحكم المهدية وابتدرت حقبة جديدة في تاريخ السودان.

الأمر مختلف هذه المرة فالجيش السوداني رغم أنه قد خسر أجزاء هامة من العاصمة الخرطوم ولكنه موجود على امتداد مدن السودان الأخرى ووحداته العسكرية وحامياته موجودة وفاعلة لذلك لم يؤدي سقوط أجزاء حيوية من مؤسسات الدولة من سقوط السودان كدولة مما يحتم خلق واقع سياسي جديد.

لكن ينبغي أن يكون ما حدث دافعاً للنخب للعمل على عدم السماح للأجانب بالتدخل في الشأن السياسي السوداني الذي أفضى لإشعال هذه الحرب والعمل على معالجة الأسباب التي أفضت لحرب الخرطوم وجعلها الأخيرة في تاريخ السودان بالاتفاق على نظام سياسي يحقق التوازن المطلوب بين أجزاء السودان المختلفة بحيث يشعر كل سوداني بالانتماء لوطن يدفعه الحرص للقتال في سبيل الإبقاء عليه.

س ـ يسود فكر الحداثة بين نخب السودانيين منذ جيل المؤسسين، وحتى الآن، فيما تعيش النخبة العالمية مرحلة انتقالية، تسودها مفاهيم تطوير الحداثة، أو ما بعد الحداثة، وهدم المركزية، والتفكيك، وسطوة العولمة، وغيرها من الأطروحات، هل اندلعت حرب الخرطوم في التوقيت الخاطئ؟ أم هي ضرورة تاريخية محلية متأثرة بحالة الانتقال العام؟

 ـ إن كان المقصود بالحداثة على الجملة بمعنى العيش في العصر، والاستمتاع بالتقدم البشري في ميادين الطب والنقل، والاتصال وكل ما يجعل العيش سهلا وميسوراً فلا يوجد من يأبى ذلك ولا يسعى لتحقيقه. أما إن كان المقصود بالحداثة في السياسة بمعنى قطع الصلة بالكلية مع الماضي بقيمه وتقاليده فهذا المعنى لم يكن هو ما رمي لتحقيقه مؤسسو النخب السودانية.

يقول الأستاذ أحمد خير صاحب فكرة أن يكون لمؤتمر الخريجين دوراً سياسياً (المؤتمر تأسس عام 1918 كتجمع اجتماعي) في كتابه (كفاح جيل) إن رافدي مؤتمر الخريجين (جماعة أبو روف المؤيدة لشعارات الوحدة والاتحاد مع مصر وجماعة الهاشماب المؤيدة لشعار السودان للسودانيين) لم يكونوا يستبطنون المعنى الأوروبي في معنى الفصل بين الدين والحياة في معارضتهما للقيادات الطائفية. فهم نتاج فهم صحيح للدين خال من الشعوذة وتعليم أوروبي معاصر.(ص14)

الحياة في قلب العصر لا تقتضي إدارة الظهر لمكارم الموروث من حضارتنا بل اتخاذه مصباحا هاديا للعيش فيه. جرب ذلك أتاتورك فأبطل كل ما قدر على طمسه من قيم ومرتكزات الحضارة التركية ولخص نجاحه في ذلك في أقل من عقدين خليفته عصمت أينونو بما يؤكد فشل ذلك المسعى عندما قال: زرعنا العالمية فحصدنا الإسلام) مشيرا للفوز الساحق لعدنان مندريس وجرب الحبيب بورقيبة نسخة متطرفة معادية للتراث في تونس فبقي إرث جامع الزيتونة باقيا عصياً على المحو.

توقيت الحرب في اعتقادي اختارته قوى اقليمية ودولية وليس نتيجة عملية تراكمية منطقية بلغت حد الانفجار يعبر عنها تنام قوة وتمدد قوات الدعم السريع خلال فترة وجيزة بل هو إعداد تلك القوى الدولية والإقليمية مع أقلية من السودانيين لهذه الحرب في هذا التوقيت لفرض نظام حكم عبر ما أسمته بالاتفاق الإطاري الذي كتب بأيدي غير سودانية، وهددت في حال عدم قبوله قبل أيام قليلة من الحرب، رأت أن الوقت قد حان لفرضه بالقوة بسلاح الدعم السريع بسند مادي وسياسي مكثف من الإقليم لفرض حكومة تأتمر من الخارج ودون تفويض شعبي لخلق وضع سياسي ضعيف تتم السيطرة عليه من الخارج لاستباحة موارد السودان الضخمة لغير أهله.

عليه، فالإلحاح لتغيير سياسي إيجابي، كان ولم يزل مطلوباً منذ سنوات، فالتدهور السياسي والاقتصادي، ظل سيد الموقف لسنوات والحرب الأخيرة هي بعض نتائجه والدرس الأبلغ الذي ينبغي أن يتعلمه السودانيون هو الاتفاق على الحفاظ على الدولة السودانية بعيدا عن الإملاءات الخارجية كشرط أساس لأي تدابير سياسية للحكم ومن ثم التفاوض غير المشروط بين السودانيين، ثم العمل علي إرساء نظام سياسي ديمقراطي اتحادي مكوناته أقاليم يتيح لكل أقليم التنمية في اطار اتحاد فيدرالي حقيقي بنظام برلماني تكون فيه رئاسة الدولة الاتحادية مراسمية يتناوب عليها حكام الاقاليم المختلفة حتي تنقطع الشكوى من استئثار منطق معينة بالسيطرة وحدها دون غيرها.

س ـ  ماذا عن التراث، أهو عائق أمام مشروع سياسي حديث، أم يتطلب التطوير، مع العلم أن التراث نفسه متعدد ومتباين، بل له خصوم جدد؟

 ـ أما عن التراث فالحضارات كافة ازدهرت استناداً على تراث تتميز به فهو الدافع للتضحية والثبات والتصميم علي النهضة والتقدم في إطار العصر والإفادة من حصاد ما أنتجه العقل البشري من تقدم علي كافة الصعد. الصين والهند واليابان بلغت شأواً عظيما من التقدم في المجالات كافة استناداً على تراثها وسياقاتها الحضارية.

العولمة والحداثة وما بعد الحداثة تظل شعارات في عالم ينكفئ الآن على نفسه عبر العرقيات والمناطقية والديانات في كل العالم تماما كما تنبأ الأمريكي صمويل هانتنغتون. وأمريكا رائدة العصر يعاني مجتمعها حالة استقطاب بين تيار متمرد على الثوابت يسعى لجعل الثوابت قيما نسبية متحركة تطال مفاهيم الزواج والأسرة وينزع دور الأسرة في تنشئة الأبناء، ويعطي الحق لطفل قاصر في أن يختار أن يعتبر نفسه ولدا أو بنتا والحق في الحصول على الهرمونات التي تحقق رغبته وبين مجتمع محافظ يريد تثبيت أهمية الدين كمستودع للقيم يؤكد على قداسة الأسرة وتعريفها بالزواج بين رجل وامرأة والنضال من أجل ذلك حتى لو أدى ذلك لحرب أهلية جديدة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير السوداني السياسة دور السودان سياسة حوار مثقفون دور سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حرب الخرطوم

إقرأ أيضاً:

قرقاش: إعمار غزة لا يكتمل دون استقرار سياسي وحل الدولتين

قال المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، إنّ: "خطة إعادة إعمار غزة لا يمكن أن تتم حقًا دون مسار واضح لحل الدولتين"، وذلك خلال مؤتمر انعقد في أبوظبي، وسط عمل القادة العرب على خطة ما بعد الحرب في قطاع غزة.

وأوضح قرقاش، في حديثه لشبكة "سي إن إن" أنّ: "هناك 3 أمور واضحة للغاية تمثّل الموقف الأساسي لدولة الإمارات العربية المتحدة. الأول هو الموقف المرن ضد أي خطة لنقل سكان غزة إلى أجزاء أخرى من العالم".

"أعتقد أن مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وكل الدول العربية تقف معنا في هذا الموقف" تابع المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، مردفا: "الموقف الثاني هو أن غزة تحتاج إلى خطة إعادة إعمار، خطة ضخمة، ولكن خطة إعادة الإعمار هذه لا يمكن أن تتحقق حقًا دون مسار واضح لحل الدولتين". 

وأضاف المتحدّث نفسه: "لذا فمن الواضح أنك بحاجة إلى الاستقرار السياسي وخارطة طريق حتى تتحق هذه الاستثمارات الضخمة"، مشيرا إلى أن "الجزء الثالث أكثر إقليمية، وهو في نفس البيان أيضا".

وأكّد أنّ: "الجزء الإقليمي هو أنه يتعين علينا جميعا العمل معا لخفض التصعيد"، مبرزا: "أعني، مرّت المنطقة في العام الماضي وأكثر بما يشبه زلزالا جيوسياسيا. سوف نحتاج إلى الوقت لاستيعاب ما يعنيه ذلك بالنسبة لنا".

وفي السياق نفسه، استرسل قرقاش بالقول: "الدمار الذي نراه في غزة، والدمار الذي نراه في جنوب لبنان، بالإضافة إلى الوضع السوري بعد 13 أو 14 عاما من الحرب الأهلية والأزمة، كل هذا يتطلب منا أن نأخذ في الاعتبار ونفهم بوضوح أن الطريق إلى الأمام هو خفض التصعيد، ولكن الطريق إلى الأمام هو إعادة الإعمار بشكل واضح ولكن مع وضوح سياسي".

إلى ذلك، شدد قرقاش على أنه "لا يمكنك الذهاب واستثمار المليارات دون هذا الوضوح السياسي والعودة لرؤية صراع آخر. أعتقد أن هذا الموقف واضح للغاية".


تجدر الإشارة إلى أن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والتي امتدت 42 يوما، سوف تنتهي في الساعة الـ11:15 من صباح اليوم السبت؛ فيما   تزداد المخاوف من عودة الحرب بقرار رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في خضمّ عقد مباحثات مكثفة في القاهرة للتوصل إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار.

وكان نتنياهو وقادة حكومة الاحتلال، قد لوّحوا مرارا بإمكانية عودة الحرب، في الوقت الذي يتواجد فيه وفدان من دولة الاحتلال الإسرائيلي وقطر في القاهرة إضافة إلى ممثلين عن الجانب الأمريكي.

ويتعنت الاحتلال في مسألة مستقبل إدارة قطاع غزة، ومصير سلاح المقاومة، وهو ما تؤكد حركة حماس على أنه خيار فلسطيني داخلي لا يمكن البتة التفاوض عليه.

مقالات مشابهة

  • الهجرة الدولية: نزوح أكثر من 3450 أسرة في شمال دارفور غربي السودان خلال يومي الجمعة والسبت في منطقة دار السلام وكلمندو بولاية شمال دارفور
  • مكاسب الجيش في العاصمة… هل تُنهي حرب السودان؟ توقعات بأن تنتقل المعارك منها إلى غرب البلاد
  • السودان: هل تنهي مكاسب الجيش في العاصمة الحرب؟
  • السودان: مواقف كينيا معزولة ووضعتها في خانة “الدولة المارقة” حسب بيان لوزارة الخارجية أشادت فيه بمواقف دول أخرى
  • خبير سياسي: أطراف دولية وإقليمية تسعى لتعزيز نفوذها في السودان
  • السودان .. الفوج الأول من نازحي ولايتي الجزيرة و سنار يغادر أم درمان
  • المجاعة تُهدد أكثر من «8» آلاف لاجئ جنوب سوداني في ولاية سودانية
  • المجاعة تُهدد أكثر من «8» ألف لاجئ جنوب سوداني في ولاية سودانية
  • موسم التشرذم السياسي في السودان
  • قرقاش: إعمار غزة لا يكتمل دون استقرار سياسي وحل الدولتين