التراشق السياسي حول فض الاعتصام
تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT
فيصل محمد صالح
يلقي السياسيون الكلمات بلا تحقق منها ولا من عواقبها، شعارهم فيما يبدو هو «كلام والسلام»، ويظنون أن الكلام سيمضي مع الهواء، لا يبقى له أثر ولا يتذكره الناس. وكم من سياسي أو حاكم ورّطه لسانه في حديث قاله، ثم لم يجد طريقة للتملص منه.
وما قاله الفريق البرهان قبل أيام عن أن قوات «الدعم السريع» هي التي قامت بفض الاعتصام لن يمضي بسهولة، ولن يحمله الهواء، فهو حديث عن جريمة بشعة كاملة الأركان، راح ضحيتها ما يزيد على المائة شهيد شاب، ومئات الجرحى، وعدد غير معروف من المفقودين، وكلهم كانوا من المدنيين السلميين، بجانب حوادث اغتصاب وتعذيب وإلقاء للجثث في النيل.
وقعت الجريمة فجر يوم الاثنين، الثالث من يونيو (حزيران) عام 2019، عندما هاجمت قوات عسكرية منطقة الاعتصام السلمي أمام القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم، والتي أقامها المتظاهرون المطالبون بإسقاط نظام الإنقاذ، وإقامة حكم مدني ديمقراطي، واستمر الاعتصام قرابة الشهرين.
تم تكوين لجنة تحقيق برئاسة المحامي المعروف نبيل أديب، ولم تكمل اللجنة مهامها أو ترفع تقريرها خلال العامين الأولين من الحكم الانتقالي، ثم تجمّد عملها بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021. وبالتالي فإن من الصعب إصدار حكم قانوني متكامل في الجريمة، لكن رغم ذلك كانت هناك حقائق واضحة لا جدال حولها.
أولى الحقائق هي الاعتراف الصريح والمُسجّل بالصورة والصوت للفريق شمس الدين كباشي عضو المجلس العسكري، في ذلك الوقت، الذي كشف فيه عن اجتماع عقده المجلس العسكري بحضور النائب العام ورئيس القضاء، وتم في الاجتماع اتخاذ قرار بفض الاعتصام، ثم تبع ذلك فض الاعتصامات المماثلة في عدد من المدن السودانية.
الحقيقة الثانية هي الصور والفيديوهات التي حملت شواهد ودلائل واضحة على الوجود المكثف لقوات «الدعم السريع» في ساحة الاعتصام، ومشاركتها في الاعتداء على المعتصمين، مع وجود مجموعات أخرى بزي الشرطة والقوات الخاصة مع تسليح مكثف.
الحقيقة الثالثة، وربما الأكثر إيلاماً، هي أن أبواب القيادة العامة للقوات المسلحة، الكثيرة والمتعددة، والممتدة بطول مساحة الاعتصام، قد تم إغلاقها في وجه المعتصمين الذين حاولوا الاحتماء بها خلال ساعات الاقتحام، وفي وقت واحد، رغم الصرخات والرجاءات، بما يكشف وجود تنسيق وتعليمات مشددة بذلك.
في صبيحة يوم فض الاعتصام أذاع الفريق البرهان بياناً أوقف فيه التفاوض مع القيادة السياسية للثورة في ذلك الوقت، وهي «قوى الحرية والتغيير»، وأعلن أنه سيُعيّن حكومة انتقالية تجري الانتخابات في ظرف 9 أشهر. هذا البيان حمل إشارات بأن الأمر عبارة عن انقلاب عسكري، لكنه لم يكتمل، فقد أجهضته الحركة الجماهيرية المتصاعدة في الشهر نفسه، وأجبرت المجلس العسكري على سحب قراراته والعودة لطاولة التفاوض.
طوال الأربع سنين الماضية، ظلت القيادة العسكرية للدولة، وعلى رأسها الفريق البرهان، تنكر مسؤولية القوات النظامية عن المجزرة، بما في ذلك قوات «الدعم السريع»، وتقول إنها كانت تخطط لحفظ الأمن في مساحة محددة، وإن هناك متفلتين انحرفوا عن المهمة المحددة، وفي مرات أخرى يحمّلون المعتصمين المدنيين وقوى «الحرية والتغيير» المسؤولية.
الأدهى أن الفريق البرهان ظلّ رئيساً لمجلس السيادة لأربع سنين، منها سنتان من الحكم المطلق، ولم يتخذ أي إجراء تجاه مَن اتهمهم بفض الاعتصام. كما أنه، وبموجب القوانين المحلية والدولية والقانون الدولي الإنساني يعدّ مسؤولاً بشكل مباشر عمّا حدث بوصفه القائد العام للقوات المسلحة، والحاكم الفعلي في ذلك الوقت.
لجنة التحقيق في جريمة فض الاعتصام استمعت لشهادات عدد كبير من المسؤولين والشهود، بمَن فيهم الفريق البرهان والفريق حميدتي، ورغم أنها لم تفصح عن مضمون الشهادات، فإن الرجلين تحدثا أكثر من مرة عن هذه الجريمة وكررا عدم مسؤولية الجيش و«الدعم السريع» عنها. وبالتالي فإن من المنطقي تصور أنهما كررا النفي والإنكار نفسهما أمام اللجنة.
هذه الجريمة لا تزال تؤرق ضمائر السودانيين، وهناك الآلاف من أسر وأقارب وأصدقاء الضحايا لا يزال جرحهم نازفاً، وهم يتوقون لمعرفة الحقيقة ومحاسبة الجناة، ولذلك يبدو من غير اللائق أن يخرج الفريق البرهان بهذا الاتهام بعد 4 سنين، وفي إطار التراشق مع قائد قوات «الدعم السريع»، وينسى أنه كان، ولا يزال، رأس الدولة، وكلمته لها وزنها وقيمتها.
هذه الجريمة لها أبعاد سياسية وجنائية واجتماعية، ولها آثار نفسية قاسية على أسر ورفاق الشهداء، وتستحق أن يتم التعامل معها بالجدية والشفافية اللازمتين، وألّا تصبح مجرد ستار للتراشق السياسي بين القوى المتصارعة، وإن كانت التصريحات المتناقضة حولها غير مقبولة من كل الأطراف، فهي تصبح محرمة على القيادات السياسية ورجال الدولة، فما بالك بأعلى قمة الهرم؟!
الوسومفيصل محمد صالحالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الفریق البرهان الدعم السریع فض الاعتصام فی ذلک
إقرأ أيضاً:
ادانات بالغة للإنتهاكات الجسيمة والعنف الجنسي ضد النساء على يد قوات الدعم السريع بالسودان
أعربت منظمة صحفيات بلا قيود عن إدانتها البالغة وقلقها الشديد إزاء الانتهاكات الجسيمة وجرائم العنف الجنسي التي ترتكبها قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها ضد النساء والفتيات في السودان، والتي وثقتها تقارير حقوقية وإعلامية موثوقة، من بينها تقرير هيومن رايتس ووتش الصادر في 16 ديسمبر 2024.
تشمل هذه الجرائم المروعة جرائم الاغتصاب الجماعي، الاستعباد الجنسي، التعذيب، وحالات اختطاف، ما يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني ويرقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق أحكام الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
أكد التقرير الصادر عن هيومن رايتس ووتش ارتكاب قوات الدعم السريع جرائم حرب في جنوب كردفان، حيث شنت قوات الدعم السريع سلسلة من الهجمات ضد المدنيين بين ديسمبر 2023 ومارس 2024، أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين والاغتصاب الجماعي لعدد من النساء والفتيات. تم توثيق 79 حالة اغتصاب لنساء وفتيات نوباتيات، شملت بعض الحالات العبودية الجنسية. كما وثق التقرير شهادات لضحايا وعائلاتهن خلال الهجمات على حبيلة وفايو، حيث تم اغتصاب النساء تحت تهديد السلاح. إحدى الشهادات تشير إلى قيام المهاجمين بقتل زوج المرأة قبل اغتصابها، وأكدت الضحية أن هذا الحادث وقع في يناير 2024. كما جمع الباحثون في هيومن رايتس ووتش شهادات من 70 نازحًا في مناطق جبال النوبة في جنوب كردفان، وتم فحص صور الأقمار الصناعية التي كشفت عن تدمير ممتلكات مدنية وهجمات ضد المجتمعات النوبية.
وقالت بلا قيود ان مفوضية حقوق الإنسان الأممية نسبت 70 في المئة من حوادث العنف الجنسي المؤكدة لمقاتلين يرتدون زي قوات الدعم السريع، وحادثة من بينها، يتهم بارتكابها مقاتل بلباس قوات الجيش ، في حين وثق تقرير الهيومن رايتس وواتش وقوع انتهاكات ممنهجة طالت عشرات النساء والفتيات، تراوحت أعمارهن بين 7 سنوات و50 عامًا، خاصة في ولاية جنوب كردفان ودارفور. ووفقًا لمنظمة المرأة في منطقة القرن الإفريقي (SIHA)، فإن أكثر من 90% من حالات الاغتصاب كانت ضمن اعتداءات جماعية، حيث ارتُكبت الجرائم أمام عائلات الضحايا، في منازلهن، أو بعد اختطافهن واستعبادهن جنسيًا ، روايات مروعة عن نساء وفتيات تعرضن للعنف الجنسي والتعذيب على يد عناصر قوات الدعم السريع والجماعات المسلحة المتحالفة.
واضاف بين بلا قيود " في ٦ ديسمبر نشر موقع أخبار الأمم المتحدة عن بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان ، التي نشرت تقريرها الأول ، والذي تضمن إن الأطراف استهدفت المدنيّين من خلال الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي، والاحتجاز التعسفي والاعتقال، بالإضافة الى التعذيب وسوء المعاملة، كما اكدت أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها ارتكبت "اعتداءات مُرعبة" ضد المجتمعات غير العربية – وبالتحديد ضد مجتمع المساليت في الجنينة وحولها بغرب دارفور - تضمّنت القتل والتعذيب والاغتصاب وغيرها من أشكال العنف الجنسي وتدمير الممتلكات والنهب. وهي جرائم ترقى جميعها الى جرائم حرب "متمثلة في الاعتداء على الحياة والأشخاص والاعتداء على الكرامة الشخصية".
كما أكدت "صحفيات بلا قيود" إن ما ترتكبه قوات الدعم السريع في السودان يُعد انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان الأساسية، حيث تحظر اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولها الإضافي الثاني جميع أشكال العنف ضد المدنيين، بما فيها العنف الجنسي أثناء النزاعات المسلحة، فيما ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مادتيه السابعة والثامنة على اعتبار الاغتصاب، الاستعباد الجنسي، والتعذيب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إذا ارتُكبت بشكل ممنهج وواسع النطاق. كما يلزم قرار مجلس الأمن رقم 1325 (2000) الأطراف المتنازعة بحماية النساء والفتيات من العنف الجنسي، ويؤكد على مسؤولية المجتمع الدولي في ضمان محاسبة مرتكبي هذه الجرائم. ويُعد استمرار الإفلات من العقاب خرقًا واضحًا لالتزامات السودان الدولية، ولا سيما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) التي صادق عليها السودان، ما يستدعي تحركًا عاجلًا لتحقيق العدالة وإنهاء هذه الانتهاكات.
ودعت صحفيات بلا حدود المجتمع الدولي ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي التحرك لملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم وضمان محاسبتهم أمام المحاكم الدولية المختصة ، والعمل علي اتخاذ خطوات عاجلة لحماية النساء والفتيات في السودان، وتقديم الدعم النفسي والطبي والقانوني للضحايا. ، مؤكده علي ضرورة تنفيذ قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن تعزيز تدابير المساءلة وإنهاء الإفلات من العقاب، بما في ذلك محاسبة المسؤولين الجنائيين وضمان وصول الضحايا إلى العدالة .
وطالبت بلا قيود كافة الأطراف وقف استهداف المدنيين فورًا ، خاصة النساء والأطفال، والعمل على إيجاد حلول عاجلة لوقف الحرب الدامية وتحقيق السلام.
كما طالبت بوجوب تنفيذ قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ، ولا سيما بشأن تدابير المساءلة، و وضع حد للإفلات من العقاب ومعالجة أسبابه الجذرية، وضمان المساءلة، بما في ذلك، حسب الاقتضاء، المسؤولية الجنائية الفردية، ووصول الضحايا إلى العدالة.
وفي أخر بيانها أكدت "صحفيات بلا قيود" إن معاناة النساء في السودان تتطلب استجابة سريعة وفعّالة لضمان حقوقهن وحمايتهن من هذه الجرائم البشعة. سنواصل، في منظمة صحفيات بلا قيود، فضح هذه الانتهاكات والدفاع عن حقوق النساء في كل مكان، والعمل مع الجهات المعنية لتحقيق العدالة والمساءلة.