في كتابه «الاستشراق» قدم المفكر إدوارد سعيد نقدا موضوعيا مهما للصورة التي يرسمها الغرب عن الشرق وخصوصا الشرق الأوسط، وبدت تلك الصورة مشوهة ومنزوعة من سياقها التاريخي. واليوم، بعد سنوات طويلة من صدور ذلك الكتاب المهم، لو طبقنا تلك المعادلة على القضية الفلسطينية فإننا نستطيع أن نكتشف بسهولة حجم التشويه الذي يقوم به الكثير من الغرب، بما في ذلك المفكرون والصحفيون والأكاديميون، لصورة النضال الفلسطيني من أجل استعادة الوطن المحتل، ووصم ذلك النضال «بالإرهاب» دون خجل من مستوى المعالجة والنتيجة التي يصل إليها الغرب في سردياتهم.

ورغم أن هذا الغرب ما زال في ذروة دعمه للقضية الأوكرانية والدفاع عن حق الأوكرانيين في استعادة أرضهم باستخدام كل الطرق العسكرية الممكنة إلا أن الأمر عندما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو قضايا المسلمين عموما، فإن المقاييس تختلف تماما والمقدمات، مهما تطابقت، لا تقود أبدا إلى النتائج نفسها! لذلك ليس غريبا أن نجد الخطابات الغربية السياسية والأكاديمية وأصوات الكثير من المفكرين تنظر إلى ما قامت به كتائب القسام، خلال الأيام الماضية، باعتباره عملا إرهابيا لا يمت إلى الإنسانية بأي صلة، ولا مُسوغ له على الإطلاق.. وشاهدنا كيف ركزت التغطية الصحفية الغربية المصورة والمكتوبة على إظهار المحتل الإسرائيلي ضحيةً «لإرهاب» حماس، وأنه مشرد في «أرضه»، فيما يتم تجاوز المعنى الحقيقي لتلك الأحداث التي لا يمكن أن تفصل عن سياق النضال الفلسطيني من أجل الكرامة الفلسطينية التي انتهكت عبر الممارسات القمعية التي قامت بها إسرائيل عبر العقود الماضية، ومن أجل استعادة الأرض المحتلة، وتكوين الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا حق مدعوم بالقرارات الدولية، ومسنود بشكل مطلق من كل الأديان والأعراف الإنسانية.

لكن الصورة الحقيقية لما حدث كما في السردية الفلسطينية والسردية العربية والإسلامية هو امتداد لنضال تاريخي طويل عمره أكثر من 75 عاما، وهو أكبر، حتى، من سياقه الوطني، فهو يحمل أبعادا قومية ودينية ولا يمكن تجاهل أيّ من تلك الأبعاد إذا ما أراد الغرب، على وجه الخصوص، قراءة المشهد من الزاوية الحقيقية للحدث.. وعندما يحمل النضال من أجل قضية كل هذه الأبعاد: الوطنية والقومية والدينية، فلا يمكن التفكير في الوصول إلى حل دائم في معزل عن أي منها.. وتجاهل أي بُعد من هذه الأبعاد من شأنه أن يزيد القضية تعقيدا، ويحوّل الصراع إلى مساحات أكبر في محيط فلسطين وربما الوطن العربي كما كان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

أما الجديد فيما حدث في محيط غزة فهو التطور الكبير الذي شهدته المقاومة الفلسطينية على يد أجيال من الفلسطينيين لم تفتر عزيمتهم، ولم ينسوا قضيتهم بكل أبعادها الكبرى، الأمر الذي جعل إسرائيل تفقد توازنها، وتعيش أسوأ أيامها على الإطلاق بشهادة مفكرين ومؤرخين غرب وبشهادة الإسرائيليين أنفسهم الذين قالوا: إنهم عاشوا «أسود» يوم في تاريخهم المليء بالسواد. على أن الصدمة تجاوزت الإسرائيليين وحدهم إلى الغرب الذي تفاجأ بما حدث، تفاجأ مما وصلت له حركات المقاومة الفلسطينية من تطور وقدرات عسكرية، وقدرة على المباغتة، وتفاجأ من هشاشة «الدولة» الإسرائيلية وضعف أجهزتها الاستخبارية عن رصد مثل هذا الحدث العظيم، رغم التضخيم الذي عاش عليه هذا الكيان الغاصب.

وإذا كان الجميع يتفق أن ما حدث كان كبيرا بكل المقاييس، وهو كذلك دون شك، فإن الأحداث الكبرى عبر التاريخ تفرز حلولا كبرى أيضا، ولذلك فهذه فرصة إسرائيل الذهبية للدخول في سلام مع العرب عبر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الخامس من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.. كما أنها الفرصة الذهبية للغرب عموما لإحلال الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم، حيث لا يمكن التفكير بشكل جدي في الاستقرار والسلام دون حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية.

ونستعيد هنا ما جاء في بيان وزارة الخارجية في سلطنة عمان التي اعتبرت أن التصعيد الذي حدث صباح السبت الماضي هو نتيجة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي اللامشروع للأراضي الفلسطينية، ودعت إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وهذه الرؤية العمانية قائمة على فهم مفاده أن السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ومناطق كثيرة في العالم مرهون بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية بما لها من بعد قومي وديني لدى جميع المسلمين.

ولذلك أعود إلى الفكرة الأولى التي طرحتها في بداية هذا المقال، وهي حق الفلسطينيين في النضال من أجل قضيتهم، ومن أجل كرامتهم واستعادة هُويتهم التي غمرتها عقود من الاستعمار والسلب والتضليل بصور ذهنية بعيدة كل البعد عن الحقيقة.

وعلى العالم المستلب والمضلل من الصهيونية العالمية أن يحاول فهم حقيقة النضال الفلسطيني بعيدا عن الصورة الذهنية المنحرفة التي عاش الكثير من الغرب في وهمها لعقود طويلة، وعلينا في العالم العربي، وفي فلسطين بالتحديد أن نكون أقدر على تقديم القضية الفلسطينية في سياقها الحقيقي للعالم.. ويمكن هنا استعارة إدوارد سعيد مرة أخرى وهو يقول: «لا يمكننا أن نناضل من أجل حقوقنا وتاريخنا ومستقبلنا حتى نتسلح بأسلحة النقد والوعي المخلص».

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا یمکن من أجل ما حدث

إقرأ أيضاً:

لافروف: شعب أوكرانيا يظل شقيقا للروسي

قال سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، أن شعب أوكرانيا يظل شقيقا للشعب الروسي، على الرغم من الانقلاب غير الدستوري وأوامر الغرب بتحويل أوكرانيا إلى تهديد نازي لروسيا،  وفقا لوكالة "روسيا اليوم". 

روسيا: ارتفاع حصيلة خسائر القوات الأوكرانية على محور كورسك لـ 510 عساكر زاخاروفا: رد روسيا بخصوص العقوبات المفروضة على الصحفيين سيكون حاسمًا

وقال لافروف في مقابلة مع الصحفي بافيل زاروبين "الشعب الأوكراني أشقاء لنا، نحن نعرف ذلك، وهؤلاء الأشخاص الذين جلبهم الغرب إلى السلطة من خلال انقلاب غير دستوري ينفذون أوامر الغرب بتحويل البلاد إلى تهديد نازي لروسيا. 

وأضاف: "هذا المخطط لن ينجح، هذا واضح للجميع، لكنه تسبب ببعض التشنجات والألم نشهدها الآن، بما في ذلك ما يسمى بـ "هجوم كورسك"، قضيتنا عادلة. 

يذكر أن،  شمل مجموع الخسائر التي تكبدتها القوات الأوكرانية على محور كورسك منذ بداية القتال أكثر من 11220 عسكريا و87 دبابة و42 مركبة مشاة قتالية، و74 ناقلة جند مدرعة، إضافة إلى أسلحة ومعدات عسكرية أخرى.

مقالات مشابهة

  • الحقيقة عارية
  • «أونروا»: الفلسطينيون في غزة يعانون كارثة إنسانية بكل المقاييس
  • رشان اوشي: بِذرة الكرامة .. حصاد الحُرية ..(٢)
  • الفلسطينيون يؤبنون ناشطة أمريكية قتلها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية
  • شهود عيان يروون تفاصيل انهيار عقار الزيتون.. فيديو
  • عضو البرلمان الفرنسي: يجب إجبار الغرب على وقف دعمه لإسرائيل
  • حساني: أنا مرتاح.. أديت واجبي من أجل الوطن
  • لافتات سبتمبرية (2) هيئة النضال
  • ركن الغباء في التاريخ
  • لافروف: شعب أوكرانيا يظل شقيقا للروسي