الإسلام.. جاء لإصلاح المعتقدات الدينية والسلوك الإنساني، مقررا أن سعادة الإنسان الدنيوية ونجاته الأخروية في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح؛ أي في حقيقة الإيمان لا في اسم المعتقد: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:62].

وهذا منعطف نوعي في الإصلاح الديني، إذ كان أهل كل ملة يعتبرون غيرهم ليسوا على شيء: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [البقرة:113] فجاء الإسلام بهذا المنهج الإيماني الأخلاقي، ثورةً على عالم المعتقدات القديمة.

هذا مبدأ كلي.. وهناك تفاصيل تستتبعه، تتداخل معها المؤثرات الاجتماعية، فكان القرآن يتنزل بالقصص والعِبر والتوجيهات والأحكام التي تخدم ذلك المبدأ. ولما أن الأوضاع الاجتماعية تتغير بتغيّر الزمان والمكان؛ فقد احتاج المجتمع المسلم إلى «حركة اجتهادية»، ابتدأت منذ العهد الراشدي، ثم تطورت حتى نهاية القرن الرابع الهجري، وتتوجت بنظرية معرفية للتفكير الإسلامي ذات ثلاث شعب: الرواية، وأصول الفقه، وعلم الكلام، وهذه هي «مرحلة التوهج المعرفي» لدى المسلمين، وفيها نشأت المذاهب الإسلامية، ولا غروَ في هذا التوهج إذ كان قبضة من أثر الرسول.

ثم دخل الفكر الإسلامي «مرحلة الجمود»، التي لم يشعر بها المسلمون، ولبثوا في كهف سباتهم حوالي تسعمائة سنة، لم تتطور هيكلة دولهم وبُنية مجتمعاتهم كثيرًا، فاستطاعت تلك النظرية المعرفية -بما لها وعليها- أن تمد المسلمين بالأجوبة الوجودية والفكرية والفقهية والأخلاقية. ولكن ما إن نهض الغرب نهضته الكبرى، وبسط نفوذه في العالم بآلته الاستعمارية المتدرعة بالنار والمتذرعة بالعلم، حتى تفاجأ المسلمون بأن هناك تغيرات كبيرة في العالم، امتد تأثيرها إليهم، وأنه لا بد لهم من إعادة النظر في مناهجهم القديمة، فانطلقت مرحلة مراجعة الموروث وتحرير الفكر؛ عرفت بـ«الانبعاث الإسلامي»، ابتدأت منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وكان من رادتها محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغاني(ت:1897م). المقال.. يتحدث عن عقلنة عبده النص الديني، وأثره على المسلمين.

محمد عبده حسن خيرالله.. فقيه وقاضٍ ومفكر مصري، ولد عام 1849م، وتوفي 1905م، عاش عمرًا قصيرًا، لكنه مثرٍ بأعماله ومديدٌ بأثره، فالتفكير الإسلامي.. بعده ليس كقبله، فقد أصبح مصبوغا بمداد عقله وممهورا ببصمة تفكيره. جاء عبده وسُدَف الاستعمار تخيّم على ديار المسلمين، ومصر ترزح تحت وطأة الاستعمار الإنجليزي الذي أعقب الاستعمار الفرنسي. كما أن الدولة العثمانية قد شاخت وشرعت في تفسخ مفاصلها، حتى نعتت بـ«الرجل المريض». ومحمد عبده.. قبل أن يقدم رؤيته للمسلمين هو ذاته كان يبحث عن رؤية لنفسه، حيث بدأ متعلمًا بالطريقة التقليدية وفقا للدروس الأزهرية، في جامع الأحمدي بطنطا، لكنه نفر منها، فانصرف عن نهر العلم وغاص في بحر الحياة، لولا أن خال والده المتصوف درويش خضر تداركه، فأعاده إلى الدراسة، وكان يتخوله بالمتابعة والتربية، حتى نفث في روعه روحًا من تصوفه، ثم ما لبث أن انضم إلى الأزهر.

وجد محمد عبده المسلمين على ثلاثة توجهات متنافسة: توجهين آفل نجمهما.. فقه جامد وتصوف مخدِّر، جمّدا العقول، حتى لم تعد مدركة لزمنها. وتوجه مفتون بالحضارة الغربية؛ منساق وراءها، لا يرى في الدين إلا ماضيًا أثقل كاهل الحياة عن تقدمها. وبينما عبده يرقب هذا التنافس البعيد عن ساحة الواقع والمجدب من مقتضيات العقل؛ إذ طلع عليه جمال الدين الأفغاني فيلسوف الشرق والثائر على الأنظمة القديمة، فاتخذه أستاذا له، فأخرجه من أوهام الماضي، وحرّر عقله بمفاتيح الفلسفة والعقل، ونبهه على قضايا السياسة وحبائلها. فعملا معًا، واشتغلا بالسياسة، وكان عبده ممن أسس «الحزب الوطني» وكتب دستوره؛ الذي جاء في مواد تعريفه بأنه (حزب غير ديني)؛ أي غير منحاز لدين بعينه، ولمّا فشلت الثورة العرابية عام 1882م نفي من مصر، فاتجه إلى لبنان، وألقى هناك دروسه، ثم تبع أستاذه الأفغاني إلى باريس، فأسسا «جمعية العروة الوثقى» عام 1885م، وأصدرا مجلة «العروة الوثقى».

لم يلبث محمد عبده طويلا حتى تبيّن له بأنه لم يُخلق ليردد أقوال الفقهاء، أو يتواجد مع همهمات المتصوفة، أو يخوض مغامرات الساسة، بل وجد نفسه في ميدان إصلاح التفكير الديني. غير أنه لم يتجاوز في إصلاحه النظرية المعرفية القديمة، فقدّم رؤيته على ضوئها، وانتقدها، وأعاد صياغة كثير من مقولات الفقه وعلم الكلام. وإن كان عبده لم يتجاوز هذه النظرية؛ فإنه كذلك لم يأتِ بأداة جديدة في عملية الإصلاح، بل عمد إلى أداة عقلية مستعملة لدى المسلمين؛ منذ الصدر الأول للإسلام فتبناها، وهي التأويل، وبما أن التأويل منساح بين المدارس الإسلامية؛ فإنه مال به إلى مدرسة الرأي الاعتزالية، ولذلك؛ قام التأويل لديه على ثلاثة عناصر؛ كانت معتبرة عند المعتزلة:

- القرآن.. التنزيل الإلهي المبين، وهو مجمع عليه بين المسلمين، وقد تعامل معه على أساس «الوحدة الموضوعية» من غير تعضية الآيات، أي بالرجوع إلى ما يدل عليه مجموع الآيات، وليس بإنزال الحكم أو الاستنباط من آيات مقتطعة من سياقها.

- البيان العربي.. لسان التنزيل، فتقيّد في تأويله القرآن بالدلالة البيانية للعربية، ولم يتجاوز ما ترسّم في معاجم اللغة ودواوين الشعر وأسفار النثر.

- العقل.. أداة الفهم، وقد دعا القرآن نفسه إلى تعقله وتفقه آياته. بيد أن المسلمين هجروا مقتضيات العقل دهرًا، حتى هيمنت عليهم الخرافات وأحاطت بهم الأوهام، فعمل عبده على ردهم إلى تدبر القرآن. ومع ذلك؛ لم يكن في تدبره منفلتًا من دون قيد، بل جعل العنصرَين السابقَين ضابطيه في تأويل النص الديني والاستنباط منه.

محمد عبده.. قدّم الكثير من الآراء الإصلاحية، وقد انصبّ إصلاحه على التوفيق بين النص القرآني وحركة الواقع ومقتضى العقل، فالتأويل لديه.. لم يكن صوفيًّا شاطحًا، ولا باطنيًّا مُغْرِبًا، ولا فلسفيًّا محضًا، بل أعاد قراءة النص وفق تفكير العقل في الواقع؛ بما تسمح به اللغة.

والسؤال: هل نجح محمد عبده في مشروعه الإصلاحي؟

النجاح.. لا يعني تمثّل المشروع ذاته، أو تبني آراءه. بل فيما يقدم من رؤية جديدة للحياة، تنتقل بالأمة إلى مرحلة أفضل من التفكير والعمل. ورغم أن رحيل عبده منذ 118 سنة؛ فإننا لا نستطيع أن نحكم بنجاح مشروعه أو فشله، وذلك؛ أن شجرة الإصلاح قد تأخذ قرونًا حتى تؤتي ثمارها؛ كما حصل في الإصلاح الكنسي بالغرب، لكننا حتى الآن نلاحظ نتيجتين حاسمتين:

- تشظي التفكير المسلم.. فقد ظهرت بعد محمد عبده عشرات التوجهات الفكرية في التعامل مع النص الديني؛ سواءً القرآن أم الرواية النبوية، وما زال العقل المسلم يعيش هذا المخاض، دون أن يتمخض عن مدرسة فكرية متماسكة، يمكن أن تقدم للمسلمين نظرية معرفية جديدة تتجاوز النظرية التقليدية التي انتهى زمانها.

- النكوص السلفي.. الذي قذف بالمسلمين خارج فلك عصرهم، بل أدى إلى موجة عنف ما زالت تعصف بالمسلمين، ومن المفارقة؛ أن تلميذ عبده وناقل علمه محمد رشيد رضا(ت:1935م) أول الداعين إلى الرجوع للمنهج السلفي.

وهذا يعني؛ أن عقلنة النص الديني عبر آلة التأويل ليست هي الدواء الناجع لداء الأمة المزمن، ومع ذلك؛ فإن حركة الإصلاح أيقظت المسلمين من نومهم العميق، وأدركوا حقيقة موقعهم في خريطة العالم، وزرعت فيهم الرغبة لمعالجة أوضاعهم: الفكرية والسياسية والاجتماعية والعلمية.

خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: محمد عبده

إقرأ أيضاً:

شرب الماء وأثره على الصحة ..الكمية المطلوبة

وراجع باحثون من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو (UCSF) 18 دراسة سابقة، شملت 48 مشاركا في المتوسط، وأظهرت النتائج أن شرب الماء بكثرة له تأثيرات إيجابية على الصحة.

وعلى الرغم من أن الأبحاث المتعلقة باستهلاك كميات كبيرة من الماء، مثل شرب أكثر من 8 أكواب يوميا، لم تتوصل إلى استنتاجات ثابتة بسبب اختلاف النتائج بناء على عوامل مثل الجنس والعمر والبيئة، إلا أن هذه المراجعة أظهرت أن شرب الكثير من الماء لا يقتصر فقط على الشعور بالانتعاش. وأفاد الدكتور بنيامين بريير، طبيب المسالك البولية في جامعة كاليفورنيا، أن الأبحاث الدقيقة حول هذا الموضوع كانت محدودة، لكن في بعض المجالات كانت هناك فوائد واضحة وذات دلالة إحصائية.

وحدد فريق البحث عددا من الفوائد الصحية الأكثر أهمية المرتبطة بشرب المزيد من الماء، وهي تقليل خطر الإصابة بحصوات الكلى والمساعدة في إنقاص الوزن. كما أظهرت بعض الدراسات الفردية أن شرب المزيد من الماء يمكن أن يساعد في الوقاية من الصداع النصفي وتقليل التهابات المسالك البولية والتحكم في مرض السكري وخفض ضغط الدم.

ومع ذلك، لم تكن الدراسات التي تمت مراجعتها صارمة بما يكفي لإثبات علاقة سببية بين شرب الماء والفوائد الصحية.

من جهة أخرى، يظل الجفاف موضوعا مثيرا للاهتمام في الأبحاث الصحية، حيث ارتبط نقص الماء في الجسم بقصر العمر وزيادة خطر الإصابة بالعديد من الأمراض المزمنة. ويستخدم الماء للحفاظ على برودة الجسم والتخلص من السموم، وبالتالي من الضروري تعويض فقدانه باستمرار.

ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يُنصح الرجال بشرب حوالي 3.2 لتر من الماء يوميا (ما يعادل 14 كوبا)، والنساء بحوالي 2.7 لتر يوميا (أي 11 كوبا)، خصوصا في المناخات المعتدلة. ولكن الكمية المطلوبة قد تختلف بناء على الجسم والبيئة.

وأخيرا، أكد بريير على ضرورة استشارة الطبيب أو الاعتماد على مصادر موثوقة للحصول على معلومات دقيقة حول تأثيرات شرب الماء على الصحة، كما أشار إلى أنه لا يوجد نهج واحد يناسب الجميع في استهلاك الماء. فبينما قد يكون شرب المزيد من الماء مفيدا للبعض، قد يستفيد آخرون من شرب كميات أقل.

 

مقالات مشابهة

  • 27.000.000 يتابعون محمد بن راشد .. صوت العقل
  • دعت إلى التفكير في سبل جديدة.. “الصحة العالمية” تحذر من مخاطر أدوية إنقاص الوزن
  • شرب الماء وأثره على الصحة
  • شرب الماء وأثره على الصحة ..الكمية المطلوبة
  • أوقاف أسوان تنفذ البرنامج التثقيفي للطفل وجلسات العلم والذكر بالمساجد
  • تسجيل الأذان بصوته.. إيهاب توفيق يحكي أسرارا عن ألبومه الديني
  • في ذكرى رحيل الشيخ علي محمود.. عبقري التلاوة وسيد الإنشاد ومكتشف الشيخ محمد رفعت
  • أوقاف أسوان تواصل سلسلة مقارئ الجمهور بمساجد المديرية
  • حكم قراءة القرآن الكريم وكتابته بغير العربية.. الإفتاء توضح
  • خمس أمسيات دينية بأوقاف قنا بعنوان "الإدمان وأثره في تدمير الإنسان"