النخب السودانية و الهروب الى امام تجنبا لرؤية عالمهم المتلاشي
تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT
في هذا المقال سأحاول ملاحقة آخر صور عالم النخب السودانية المتلاشي و الهدف من هذا المقال هو محاولة توضيح فكرة ربما تساعدنا في خلق رؤى جديدة ناتجة من عالم حديث على أقل تقدير تشكلت ملامحه منذ إنكشاف ملامح الثورة الصناعية عام 1776 و ما لحقها من تغيرات كبرى صاحبت التحول في المفاهيم في جميع حقول الفكر.
منذ ذلك الزمن البعيد لعالم يتخلق ليولد من جديد أصبح هناك إبداع فكري هائل إشترك في خلق ألوانه علماء اجتماع و اقتصاديون و مؤرخون غير تقليديين و انثروبولوجيون و من حينها أصبح الصراع الفكري بين الحالمين بالتاريخ و المفكريين بالتاريخ كما يقول ريموند أرون.
و مشكلة النخب السودانيين تقع في حيز الحالميين بالتاريخ و بالتالي قد وضعوا كل قوتهم الفكرية ضد المفكريين بالتاريخ و حتى نكون أكثر وضوح نجد أن الشيوعي السوداني المتحمس جدا في رفع لواء الحالميين بالتاريخ و لأسباب كثيرة يمكننا أن نقول نجح الشيوعي السوداني في محاصرة بؤرة الفكر وسط النخب السودانية و جعلهم جميعا في ساحة الحالميين بالتاريخ. و هذا هو سر كساد النخب السودانية مما جعلهم في أحسن أحوالهم لا يستهويهم غير الفكر الغائي اللاهوتي الدين سواء كانوا في حيز أتباع المرشد و الامام و الختم أو في حيز نسخة شيوعية متكلسة تنسب دوما الى الأستاذ الشيوعي الذي ينسب له الحزب الشيوعي السوداني.
بالتالي أصبح الحزب الشيوعي السوداني مقارنة بأحزاب الشيوعية في الغرب و كذلك الأحزاب الاشتراكية في الغرب يغوص في شيوعية تقليدية لا تعرف الطريق الى نمط الإنتاج الرأسمالي و عليه قد أصبح الشيوعي السوداني لا يمثل المثقف العضوي الذي يحمل هموم الطبقات الصاعدة التي لا تتحقق مراميها بغير نمط الإنتاج الرأسمالي.
الغريب أن الشيوعي السوداني يمكنه أن يلوي عنق الحقيقة و يستخدم نفس مصطلح المثقف العضوي إلا أنه يعادي ما رمى إليه غرامشي في كل أفكاره التي ساعدت الأحزاب الشيوعية في الغرب و بسبب فقر الحزب الشيوعي السوداني للأفكار الجديدة من مفكريين أعادوا محاولة إكتشاف غرامشي نجد الساحة السودانية حبيسة شلل خلقه الشيوعي السوداني في تماديه بأن يكون من بين الحالميين بالتاريخ و ليس من بين المفكريين بالتاريخ.
إلا لماذ تتطورت الاحزاب الشيوعية في الغرب و كذلك الأحزاب الإشتراكية و أستطاع فرانسوا ميتران إدخال فكرة المقطع الرأسي أو فكرة الإستهلاك المستقل عن الدخل و هي روح الديناميكية الكينزية؟ و فكرة الإستهلاك المستقل عن الدخل هي ترجمة لفكرة الضمان الإجتماعي و هي نتاج تحول في المفاهيم أدى الى خلق فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و هي قد ظهرت في دفاتر المفكريين بعد خمسة عقود من بزوغ الثورة الصناعية.
و قد إنتبه لها توكفيل في ديمقراطيته و أقصد فكرة الضمان الإجتماعي في ثلاثينات القرن التاسع عشر و نجدها قد أصبحت في طيات كثير من الكتّاب و الأدباء و خاصة في كتابات تشارلز ديكنز و هذه المجهودات في الأدب يلحظها بكل سهولة و يسر كل من يعرف علاقة الأدب بتاريخ الفكر الإقتصادي. و من هنا تأتي دعوتنا للنخب السودانية الى التمييز بين الحالميين بالتاريخ و المفكريين بالتاريخ و لا يمكننا أن نميز بينهما ما دام هناك سيطرة لأفكار المثقف التقليدي و المفكر التقليدي و المؤرخ التقليدي في ساحتنا السودانية.
المضحك المبكي أن للنخب السودانية عناد عجيب و قدرة على السردبة و المغالطة في ظواهر يراها حتى غير المهتم بالشأن العام و ربما يكون سببها أن المجتمع السوداني التقليدي لم يحظى بأي بداية صحيحة تجسر ما بينه و بين المجتمعات الحديثة و على أقل تقدير مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية التي قد أسست لفكرة الفرد و العقل و الحرية نتاج العقد الاجتماعي المنتصر لفكرة الإنسانية التاريخية و الإنسان التاريخي.
و كثير من النخب السودانية تحلو له المغالطة بأن الذي نتحدث عنه ليس له علاقة بتاريخنا الخاص بنا بل بتاريخ أوروبا الخاص بها و نسوا فكرة أن الظواهر الاجتماعية تعمل بقانون واحد سواء كانت مجتمعات أوروبا أو مجتمعات تقليدية كحال مجتمعنا السوداني. و نجد تأكيد ذلك في نظريات النمو الإقتصادي التي تؤكد بأن حال المجتمعات التقليدية الى تغيّر و ستصل يوما ما الى ما وصلت له حالة الإزدهار المادي و الإرتفاع في مستوى المعيشة في المجتمعات الأوروبية.
و لكن مثل رأي إقتصاديي نظريات النمو الإقتصادي لا يجد أذن صاغية وسط نخب سودانية حمت نفسها بالشللية و روح القطيع و المهم عندهم أن تكون محسوب من بين من يزعمون أنهم قد وصل الى مستوى غوث فيما يتعلق بالشأن العام و كفى و لا يهم إن كان أغلبهم في مصاف المثقف التقليدي أو المفكر التقليدي أو المؤرخ التقليدي و هنا تظهر فكرة الحالميين بالتاريخ في مقاومتها للمفكريين بالتاريخ.
و نضرب مثل على حالة التيه وسط النخب السودانية بحال مفكر كبير هو مارتن هيدجر في زمن صعود النازية تورّط في الإنتماء للنازية و سببت له كثير من المشاكل وسط النخب و كانت في حيرة من أمره و هي تتسأل كيف يقع فيلسوف مثل مارتن هيدجر و يصل به الأمر أن يكون جزء من النازية؟ و ضربنا به المثل لكي ندلل على حالة تيه النخب السودانية التي لم تدرك بعد بأن زمننا قد أصبح تمفصل للأزمنة قديمة آخر أشعتها قد قاربت المغيب و أشعة الأزمنة الآتية لم يلاحظها الحالميين بالتاريخ.
المفكريين بالتاريخ نجدهم دوما يقفون بين مفاصل الزمن زمن قديم آفل و زمن جديد آتي مثل توكفيل في ديمقراطيته و مثل أرنولد توينبي الكبير عم المؤرخ أرنولد توينبي الذي إنتقدت مدرسة الحوليات أفكاره مع ماو و ماركس و أرنولد توينبي الكبير إنتقد الإستعمار منذ عام 1883 قبل أن تأتينا جيوش كتشنر. و هذا يوضح لك الى أي مدى يجهل مؤرخنا التقليدي في نقده لدولة ما بعد الكلونيالية و هو من ضمن الحالميين بالتاريخ؟
و أستمر الحال الى بعد نهاية الحرب العالمية الأولى و ظهور فكر المفكريين بالتاريخ و كانوا ضد فكر الحالميين بالتاريخ و من المفكريين بالتاريخ نذكر كنز في مجابهة الكساد الإقتصادي العظيم و فكرة إنتهاء اليد الخفية و حديثه عن نهاية نظرية ساى أي أن العرض يخلق الطلب و حديثه عن التدخل الحكومي و فكرة خلق الطلب و قد قدم نظريته و هي تفسر لماذا حصل الكساد الاقتصادي العظيم؟ بعد أربعة سنوات من حالة الكساد و فيها يظهر جهده في دمج كتابي أدم اسمث ثروة الامم و كتابه الآخر نظرية المشاعر الأخلاقية و من هنا تاتي عظمة كينز كمفكر بالتاريخ.
و هل يمكننا أن نتجاهل مدرسة الحوليات و اجيالها المختلفة أنهم من ضمن المفكريين بالتاريخ؟ و خاصة بعد إهتماهم بالتاريخ الإقتصدي و التاريخ الإجتماعي؟ و أول من أستجاب لدعوتهم كينز و قد قدم نظريته في تفسير الكساد الإقتصادي العظيم.
و ليس غريب أن نجد في نفس زمن كينز و إهتمامه بتفسير الكساد الإقتصادي العظيم نجد ريموند أرون و قد بدأ إهتمامه و ملاحظته بأن فلسفة التاريخ التقليدية قد وصلت لنهاياتها في الهيغلية و الماركسية و حينها قد أكد بأن المهم أن تعرف الهيغلية جيدا و تدرك كنهها لترفضها و بالتالي أصبح مثقف مكوّن لا يمكن أن ينخدع بماركسية ماركس و حينها أدرك أن فلسفة التاريخ الحديثة قد بدأت مع الليبرالية الحديثة و بدأ زمن المفكريين بالتاريخ و إنتهى زمن الحالميين بالتاريخ مع نهاية الليبرالية التقليدية.
و أصبح ريموند أرون فيما يتعلق بمفهوم فلسفة التاريخ مثل نتيشة في قلبه الى المفهوم في قوة الإرادة الى إرادة القوة و كذلك كان دور ريموند أرون في مسألة تاريخ الفلسفة و قد كان مفهومه عن فلسفة التاريخ.
من هنا نقول للنخب السودانية أننا في مفصل زمن و لا يجوز أن تهرب النخب السودانية من مواجهته و زمننا زمن المفكرين بالتاريخ و ليس زمن الحالميين بالتاريخ.
و نقول للنخب السودانية بكم و بغيركم سوف يصل المجتمع السوداني الى مرحلة التفكير بالتاريخ عاجل أم آجل فمن الأحسن أن يكون بكم و ليس بغيركم و هذا يتطلب منكم مواجهةعالمكم المتلاشي كما واجه توكفيل زمن عالمه المتلاشي و أسس للجديد بفكر جديد.
و كما تنباء أرنولد توينبي الكبير بنهاية الإستعمار و نقده لأنه قد أهمل الطبقات الفقيرة و العمال في أوروبا و خرج للإستثمار في الدول المستعمرة و قد تضررت منه بإستغلاله لموارد الدول الفقيرة بغير حق و لكن أحتاج رأي توينبي الكبير لستة عقود حتى يتحقق بخروج الإستعمار.
و أحتاج تفكير ريموند أرون لستة عقود أيضا الى لحظة إنهيار جدار برلين و إنتهاء الشيوعية لينتصر الفكر الرأسمالي و تنتهي فكرة الهيغلية و الماركسية المتجسدة في فكرة نهاية التاريخ و إنتهاء الصراع الطبقي و ينتهي وهم أمثال الشيوعي السوداني الحالم بالتاريخ و الواقف على دوام ضد فكرة التفكير بالتاريخ.
و من هنا تأتي أهمية التفكير بالتاريخ لتؤسس لفكر سوداني جديد تكون العلاقة مباشرة بين الفرد و الدولة و يكون مفهوم ممارسة السلطة طبقا لممارسة السلطة في المجتمعات الحديثة أي مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و ليس كحال تقاسم السلطة في السودان و مجتمعه التقليدي و هنا أقصد مفهوم الدولة الحديثة و مفهوم ممارسة السلطة و ليس تقاسم السلطة كما يتوهم نخب السودان و من هنا يأتي هروبهم للامام تجنبا لرؤية عالمهم المتلاشي.
taheromer86@yahoo.com
//////////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشیوعی السودانی الثورة الصناعیة النخب السودانیة فی الغرب من هنا
إقرأ أيضاً:
عملية "غريبة".. هروب سجين خلال موعد مع قنصلية مغربية بفرنسا
كشفت وسائل إعلام فرنسية، أن سجين تمكن من الهروب في فرنسا، عندما كان في طريقه إلى القنصلية المغربية للقيام بإجراءات إدارية.
وقالت صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية أن الرجل الذي يبلغ من العمر 45 عاما، كان قد أدين بالقتل في عام 2016، ونجح في الإفلات من قبضة حراس السجن، في بونتواز شمال غرب باريس.
وفي التفاصيل أوضحت "لو باريزيان" أن السجين في سجن بواسي المركزي المخصص للأحكام الطويلة، قد خرج برفقة حراس السجن صباح الجمعة، وعند وصوله إلى القنصلية المغربية في بونتواز، طلب التوقف قليلا للتدخين قبل أن يستغل الفرصة للهرب وركب سيارة كانت تنتظره، حيث لم يكن مقيدا بالأصفاد.
وأكدت الصحيفة أن عملية الهروب وقعت بشكل سلس ودون أي عنف أو مقاومة.
وقد فتحت السلطات الفرنسية تحقيقا للكشف عن تفاصيل وحيثيات عملية الهروب التي وصفت بـ"الغريبة".
وكان السجين يقضي آخر أشهره من حكم بالسجن لمدة 15 عاما بعد إدانته بتهمتي الاختطاف والقتل.