جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-23@23:46:25 GMT

الوطن.. بين النقد وجلد الذات

تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT

الوطن.. بين النقد وجلد الذات

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

يُحكى أنَّ رجلًا صينيًا أراد الانتحار فتوجه إلى أحد الجبال وفي الطريق لقي كهلًا يعيش في كوخ وحيدًا، فدعاه للمبيت معه، وبعد تردد وافق الرجل ودخل الكوخ، لكنه ظل مستيقظًا، فسأله الكهل عن قصته، ردَّ عليه الرجل وطلب منه أن يدعه في حال سبيله، ولمّا أصرّ عليه، حكى له قصته، وقال له حين ولدتُ توفيت والدتي، وما إن وصلت أنا وأبي إلى البيت حتى توفي هو الآخر، ثم أُخِذتُ إلى دار للأيتام لأنَّ عائلتي أرادوا التخلص مني لاعتقادهم بالنحس الذي يُرافقني بعد أن أصابتهم الرهبة، وفي دار الأيتام، أبتعد الكُل عني وكنتُ وحيدًا لأنني كلما عقدتُ صداقةً مع أحدهم أصيب بمكروه، إلى أن كبرتُ وتزوجتُ ظنًا مني أنَّ هذا النحس سيتركني، لكن في ليلة زفافي مرضت زوجتي مرضًا شديدًا وخشيتُ عليها الموت، فغادرتُ بلدتي ومن يومها وأنا أحاول ألّا أقترب من أحد حتى لا يُصاب بمكروه، طلب الكهل منه أن ينام وفي الصباح سيتحدثون، نام الرجل وفي الصباح وجد الكهل أمامه يبتسم ويقول له ها أنا ذا أمامك لم يُصبني أي مكروه؛ بل إن حتى دجاجتي التي لا تبيض باضت اليوم، لقد رسّخت في عقلك الباطن أنك سيئ الحظ لذلك صدقت نفسك وأصبحت تربط كل ما هو سيئ بك، ولو أنَّك نظرت للأمور الإيجابية التي حدثت لك في حياتك لوجدتها أكثر من السيئة، لقد نسيت أن هناك شيء اسمه قضاء وقدر وأخذت تجلد ذاتك دون رحمة.

كم من شخص بيننا يمارس جلد الذات ولوم النفس على كثير من الأمور لمرحلة أصبح البعض فاقدًا لتقديره لذاته؟ إن أسوأ ما يقدمه جلد الذات للفرد هو إيصاله لمرحلة السخط والسوداوية وتوقع الأسوأ والنظر إلى الجزء الفارغ من الكأس وعدم الإيمان بقابلية الأوضاع للتبدل، وهل لهذا الأمر انعكاس سلبي على تقدير الفرد لذاته وتقديره لغيره فيصل به الحال إلى المعاناة المستمرة؟!

إننا- كأفراد- ربما نمارس جلد الذات دون أن نشعر حتى على مستوى الوطن فندخل دائمًا في مقارنات مع الغير وننظر للنواقص بعدسة مكبرة ونضخمها لدرجة تصبح الرؤية من خلالها منعدمة، ونبالغ في النقد السلبي بحسن ظن في أحيان كثيرة لدرجة نرى أن كل منجز خلفه الكثير من الفساد والشك والتأويل ونبحث من خلاله عن عثرة نضعها في إطار مزخرف باسم الرأي وحريته وأحقية ممارسته وفق ما أقرته القوانين، هذه الممارسة تعود بالضرر علينا في الدرجة الأولى؛ حيث إن القيم الوطنية تنمو إذا ما عززت ورويت بمشاعر الفخر والاعتزاز والتباهي بالأوطان وإعلاء قيم الانتماء والرضا  بما لدينا وتنتقل هذه المشاعر للأجيال عندما يشاهدونها ويحسونها لدى الكبار والعكس صحيح فمشاعر السخط والنقمة تنمي لدى الفرد الحقد والغضب والشعور بالظلم والكراهية مما يؤثر سلبًا على الأجيال التي تشاهد كل ذلك أمامها.

إنَّ للأوطان حقوقًا علينا، ومهما حدث لا بُد من الفصل بين الأوطان والممارسات التي تصدر من الأفراد.. ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي "وللأوطان في دم كل حر // يد سلفت ودين مستحق"، فإن كان للوطن حق الدم علينا فمن الأجدر أن نوفِّي حقه في الحفاظ عليه من خلال توجيه مشاعر الرضا والبذل والعطاء في سبيل رفعته ووضعه في مكانته المستحقة، والإخلاص في العمل حتى لا يصل بنا الحال للإساءة له من خلال ممارساتنا التي تنتهي بوقوع الظلم على الفرد أو الجماعة؛ فالمُستغِل لسلطته دون وجه حق هو أحد أسباب تنامي الشعور بعدم الرضا والوصول بالمواطن إلى جلد الذات والمقارنة وتقزيم المنجزات، وعليه أن يعرف أنه مساهم في هذا الحال.

لا أدعو لعدم تقديم النقد؛ بل على العكس تمامًا، فأي مجتمع لا يمارس النقد بشكله الصحيح هو مجتمع متهالك زائل لا محالة، ويدمر ذاته تلقائيًا، لأن النقد مفتاح لتجويد العمل والرقي بالأهداف، وسبيلًا للوصول إلى الغايات بشكل أسرع وأتقن..

وأخيرًا.. النقد الحقيقي ينطلق من قيم عالية تتمثل في الإخلاص والتفاني والتضحية وإنكار الذات، ولا يُتقِن النقد إلّا من يسعى لصلاح مجتمعه ورفعته بصدق.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

كيف تتحوَّل الانتقادات الداخلية إلى طلقات في ظهر الوطن؟

 حين تصبح الكلمة سلاحاً في يد العدو

 

في خِضَمِّ العواصف التي تُحاك خيوطها حول اليمن، حيث تتساقط على رؤوس المدنيين والأبرياء صواريخ العدوان الأمريكي وتُزهق الأرواح تحت وطأة المؤامرات الخارجية، تخرج أصوات من الداخل.. تضخم الهفوات، وتسقط الأخطاء الروتينية من ميزان التاريخ، وكأنَّ الوطن لا يُحاصَر إلا بحدود أخطائه، لا بحدود أعدائه. هنا، حيث تتحوَّل الانتقادات إلى سكاكين تُجرح خاصرة الدفاع، وتُصبِح “الحرية الفكرية” للبعض ذريعةً لتمرير سموم التشتيت، تُطلُّ علينا إشكاليةٌ وجودية: كيف يتحوَّل المواطن والسياسي والصحفي والناشط الإعلامي إلى أدوات طيِّعة في يد العدو، دون أن يَشعروا بأنَّهم يُمسكون بيدٍ خفيَّة تُوجِّه سهامهم نحو قلب الوطن؟

ليست القضية في وجود أخطاء، فالأوطان كالبشر؛ تُخطئ وتتعثَّر، لكن الخطر كل الخطر أن تتحوَّل هذه الأخطاء إلى نفقٍ مظلم تُسرَق منه إنجازات الثورة والشعب، وتُهدر دماء شهدائه، وتُختزل تضحيات أبنائه وصمودهم في سرديةٍ سوداوية تخدم عدواً يتربَّص بالثغرات. فحين يُسقط الصحفي أو الإعلامي كل همومه في انتقاد دولة تُحارب على جبهاتٍ عدَّة، أو حين يُحوِّل قلمه – الذي يفترض أن يكون سلاحاً للوعي – إلى مِشرَطٍ يشقُّ جسد الوحدة الوطنية، فإنَّه بذلك يُقدِّم للعدو خدمةً مجانية: يُضعِف الجبهة الداخلية، ويُلهي الشعب عن عدوه الحقيقي، ويصنع من الهفوات العابرة سُلَّماً يصعد عليه الغزاة لاحتلال العقول قبل الأراضي.

أمَّا المثقف الذي يرفض كل شيء، وينتقد حتى الهواء الذي يتنفسه الوطن، فإنَّه – وإن ارتدى عباءة التنوير – يصير أشبه بمن يُنارِق في سفينةٍ تغرق؛ يصرخ منتقداً لون الأشرعة، بينما المياه تُغرق المقاعد تحت قدميه. إنَّ معارضة كل شيء في زمن الحرب ليست شجاعة، بل غباءٌ مركب. فالمعارضة البنَّاءة تُصلح، أمَّا “ثقافة الرفض” التي ترفض حتى إصلاح الذات، فإنَّها تفتح الباب واسعاً لعدوٍّ يترصَّد الفرص، ويَستخدم هذه “الانقسامات الفكرية” كفأسٍ لهدم أسوار المقاومة.

إنَّ الحرب ليست معركة صواريخ فحسب، بل هي معركة وعي. فالعدو لا يحتاج إلى اجتياح الحدود إذا استطاع اجتياح العقول. وهنا يكمُن الخطر الأكبر: حين تُحوِّل الانتقاداتُ الداخليةُ الوطنَ إلى مسرحٍ للهزائم النفسية، وتجعل من المواطن جندياً في جيش التشكيك، بدلاً من أن يكون حارساً للوعي الجمعي. فما قيمة أن تُقاتل الجبهة بالسلاح، إذا كانت الجبهة الداخلية تُقاتل بالكلمات ضد نفسها؟

ولكن.. ماذا لو حوَّلنا هذه الطاقة النقدية إلى طاقة بنَّاءة؟ ماذا لو اتَّفقنا على هدنةٍ وطنية؟ هدنةٍ نؤجِّل فيها الخلافات إلى ما بعد النصر، نُجمِّد فيها الصراعات الصغيرة، ونُفرِّغ كل طاقاتنا لمواجهة العدو الكبير. فالحرب تحتاج إلى قلوبٍ موحَّدة، لا إلى ألسنةٍ مشرعة. إنَّ النصر لا يُبنى على أنقاض الانتقادات، بل على أسس التضامن. فالشجرة التي تُقاتل العاصفة لا تنشغل بتقليم أوراقها، بل تُعمِّق جذورها في الأرض.

لذا، فإنَّ الدعوة هنا ليست إلى “تجميد الحقيقة” أو إسكات الأصوات، بل إلى “ترتيب الأولويات”. فالنقد – في زمن السلم – ضرورةٌ لصقل التجربة، لكنَّه – في زمن الحرب – قد يكون انتحاراً جماعياً. فلنُؤجِّل الحسابات، ولنترك المهاترات جانباً، ولنُجمِع على أنَّ العدوان الخارجي هو العدو الأول والأخير. فإذا انهزمنا أمامه لا سمح الله، فلن تُجدِيَ انتقاداتنا ولا معارضاتنا، لأنَّ الهزيمة ستجعل منا جميعاً – الموالين والمعارضين – أسرى تحت أقدام الغزاة.

الوطن اليوم أمام مفترق طرق: إمَّا أن نكون جبهةً واحدةً تُحارب العدو بقلوبٍ متحدة، أو نكون حطباً تُشعله النيران لتحرقنا جميعاً. فلتكن كلمتنا واحدة، ولتكن مصالحنا العليا فوق كل اعتبار. لأنَّ المعركة – إذا خُسرت – لن تسأل من كان مُنتقداً أو مُؤيداً، بل ستسحق الجميع تحت عجلاتها. فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟

مقالات مشابهة

  • مع تغير الفصول.. أعراض الاكتئاب الموسمي.. وطرق العلاج
  • عبارات عن عيد استقلال الأردن 2025
  • لحظات فاصلة في تجديد الخطاب الديني.. مشاتل التغيير (15)
  • كيف تتحوَّل الانتقادات الداخلية إلى طلقات في ظهر الوطن؟
  • جلالةُ السُّلطان المعظّم يعود إلى أرض الوطن
  • الجحيم – أو: حين تخون الحرب الوطن
  • عبارات جميلة في عيد الاستقلال الـ 79
  • نحن والصمت
  • الجحيم- أو: حين تخون الحرب الوطن
  • المحافظ يقدم لصندوق النقد رؤيته للمرحلة القادمة والمشاكل التي يسعى لحلحلتها