لجريدة عمان:
2024-11-05@12:28:15 GMT

كتابة الخوف في مجموعة وقت قصير للهلع(1)

تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT

كتابة الخوف في مجموعة وقت قصير للهلع(1)

يخاتلنا يحيى سلام المنذري بعنوان مجموعته القصصية "وقت قصير للهلع" الصادرة عن دار عرب في عام 2022م؛ إذ يتعامل مع الزمن في قصصه بخلاف ما يشير إليه عنوانه، فنجد أنفسنا أمام هلع ممتد يسيطر على الشخصيات ولا ينفك عنها، حتى وإن تعددت طرق التعبير عن هذا الهلع، وتنوعت أشكال الهرب منه أو التعامل معه. ولكن هل يمكن المضي في الحديث عن ثيمة الخوف وطريقة التعبير عنها فنيا في هذه المجموعة من دون التفريق بين مفردتي الخوف والهلع؟

اختار يحيى سلام كلمة (الهلع) في العنوان، وليس (الخوف).

وهو اختيار وجيه؛ لأن الهلع كما تخبرنا المعاجم هو الخوف الشديد، بل أقصى درجات الخوف، بينما هذا الأخير درجات أدنى من الهلع. وعلى هذا النحو لا يستمر الهلع إلا وقتا قصيرا وإلا أتلف صاحبه، بينما الخوف بدرجاته المختلفة يقيم فترة أطول في النفس، حتى ليكاد يصبح وجها من وجوه الحياة عند من لازمهم البؤس والحظ السيئ وسوء الحال، كما هو حال شخصيات هذه المجموعة التي بين أيدينا؛ المجموعة المؤلفة من ثلاث قصص تتشظى زمنيا وسرديا كما سنرى، لاسيّما القصتين الأخيرتين منها.

ولعل السؤال الأهم الذي نطرحه في مقاربتنا لقصص هذه المجموعة هو: كيف تجلّى الخوف فيها؟ بما يحمله هذا السؤال من بحث في طرائق التعبير عن هذا الخوف على مستوى الشخصيات وبنائها النفسي، وأمكنتها وأزمنتها، واللغة التي أجراها المنذري على ألسنتها، وزاوية الرؤية. وسنجيب عن هذا السؤال من خلال تحديد ثلاثة ملامح مهمّة وبارزة في توظيف يحيى سلام للخوف على النحو الآتي:

- الاستعانة باليومي والعادي والعابر لشخصيات عادية ومتكررة؛ فالرجل الخائف من عملية بتر إبهام رجله اليمنى في قصة "الإصبع"، شخصية تتكرر في الحياة اليومية بعدد الذين يختبرون تجربة العمليات الجراحية، ولكن الكتابة تكثّف نموذجه وتكشف عن تلافيف ما انطوت عليه نفسه؛ فتنتقل المعاينة السردية من المستوى الخارجي إلى المستوى الداخلي. وكذا الشأن لشخصيات العمّال من الجنسيّات الآسيويّة في القصتين التاليتين المكون كل منهما من ثلاثة أجزاء: "غليان الشاي" و"صندوق المفاجآت الملونة"، حيث يجري اختراق القشرة الظاهرة للصورة المألوفة والمتكررة إلى عمق النفس في مواجهتها لمخاوفها ووساوسها.

- الخوف ليس شأن المهمشين فقط، بل يصيب الشخصيات التي تقف في الجهة المقابلة في معادلة (الهامش – المركز)، كخوف الزوج في قصة "صندوق المفاجآت الملونة" من مجموعة النمور والقط العجوز (وهم العمال الآسيويون العمالقة الأربعة ومسؤولهم البنجالي الذين أحضروا الصندوق الكبير إلى بيته). كان خائفا من إغضابهم لضخامة أجسادهم، ومن انتقامهم المحتمل من أطفاله فيما لو لم ينقدهم مبلغا إضافيا نظير جهدهم في حمل الصندوق ووضعه في الدور الأول من البيت، ثم خوفه لاحقا من احتمال أن تنتقم العاملة الفلبينية ماري من عائلته بسبب ماضيها الدموي، وخوفه المزمن من تآمر مسؤوله السابق عليه. الخوف في هذه المجموعة أشبه بدائرة مغلقة، وتتحدد حدّته قياسا إلى موقع المرء من مركزها، فكلما اقترب من المركز زادت حدة خوفه إلى حد الهلع، ويخفت بانزياحه عن المركز نحو المحيط، ولكن لا أحد يعيش خارج الدائرة. ولأن الأمر كذلك فإن سير الأحداث في قصص يحيى سلام المنذري لا يسير خطيا، بل يتعمد التقديم والتأخير لاسيما في القصتين المتأخرتين، فهو يعمد إلى سرد الحدث الأوسط في الجزء الأول من كل قصة، قبل أن يعود إلى سرد الحدث الأول في الجزء الثاني، ثم يُتبعه بالحدث الخاتم في الجزء الثالث. فهل لهذا معنى؟ التقديم والتأخير في زمن الأحداث يعطي دلالة على أن الحدث قابل للتكرار في الواقع بأكثر من طريقة وبأكثر من ترتيب زمني، فإن لم يكن كما حدث مع البنجالي كاتب اليوميات، فسيكون مع شخصية أخرى لم تكتب يومياتها بالضرورة. وإن لم تكن ماري حاملة إرث الدم في طفولتها فمع أخرى تشبهها في الغربة. ويعزز المنذري هذه الفرضية من خلال النهايتين اللتين اختارهما للقصتين المتأخرتين إياهما: "غليان الشاي"، و"صندوق المفاجآت الملونة"؛ ففي كلتا النهايتين لم يتبين السارد على وجه الدقة الهوية الحقيقية للشخصيتين المهمشتين؛ إذ لم يعرف السارد في الجزء الثالث من قصة "غليان الشاي" من يكون كاتب اليوميات، وما إذا كان كاتبا صالحا أو شريرا داعرا يغوي عاملات المنازل. وكذا الحال مع ماري، التي رأى السارد/ الزوج - في الجزء الثالث من قصة "صندوق المفاجآت الملونة" – امرأة شبيهة لها في أحد مراكز التسوق بعد مدة من رحيلها، فلم يتبين ما إذا كانت هي نفسها أو أخرى سواها! ورغم أن يحيى سلام يضع خيطا رفيعا للقارئ حتى يمكّنه من العثور على الإجابة، غير أنه يعي في الوقت نفسه أن الجواب ليس مهما ما دامت الحكايات تتناسخ صورها في أشكال لا نهائية من معاناة الغربة عن الأهل والوطن.

وسنضيف: إن الخوف الذي تعانيه شخصيات المجموعة هو الخوف الذي لا ينتبه إليه أحد، وإنما خوف يخص صاحبه فقط الذي لا يجد من يواسيه أو يشدّ من أزره، حتى وإن كان خوفه ظاهرا ومصرّحا به كما هو حال المريض ذي الإصبع المعطوبة الذي صرّح بخوفه للممرضة ثم لطبيب التخدير، ولكنهما تعاملا مع خوفه بلا مبالاة أحيانا، وبالسخرية منه في أحيان أخرى، لأنه من وجهة نظرهم مجرد مريض مصاب بوسواس غير مبرر. وكذا شأن كاتب اليوميات البنجالي الذي ما كان لأحد أن يتخيّل حجم الخوف اليومي الذي يعانيه هو وأمثاله من العمال لولا أنه رصده في يومياته بتكرار لافت لكلمة الخوف؛ الخوف من كل شيء، الخوف الذي لا يجد علاجا له سوى النوم. ويُحسب للمنذري كتابته لهذه اليوميات بلغة تختلف عن باقي أجزاء القصة وعن لغة القصتين الأخريين بطبيعة الحال، حيث كتبها بلغة من ترجم وليس بلغة من ألّف، فتجلّت روح كاتبها الأصلي (كما يُفترض) في بساطته وتعبيره المباشر عن خوفه وتكراره للكلمات، الأمر الذي أكسب النص قدرته على الإقناع الفني لاسيّما عندما يقول السارد/ المواطن في الجزء الثاني من القصة إنه ترجم هذه اليوميات - بعدما عثر عليها - من الإنجليزية إلى العربية.

- المدى الزمني الطويل لملازمة الخوف شخصيات المجموعة (على خلاف الوقت القصير في العنوان كما أسلفنا)، ولكن هذا المدى لا يتمظهر زمنيا وحسب، ولكن على مستوى اللعبة السردية كذلك؛ ولتوضيح هذا الملمح أقول: إذا كان هلع العاملة الفلبينية ماري مبعثه مقتل أبيها وأمها أمام ناظريها وهي طفلة، وانتقل لاحقا لتعبّر عنه بهلعها من أسخف الأشياء التي تصادفها في الحياة (ليس بدءا من هلعها من أي صوت يصدر قريبا منها، وليس انتهاء من خشيتها من دمى الحشرات والحيوانات)، حتى أصبحت مثار ضحك الآخرين ومادة تندرهم، أقول: إذا كان هلع العاملة هلعًا ممتدًا زمنيا عبر مراحل حياتها، فإن خوف العامل البنجالي (كاتب اليوميات) في قصة "غليان الشاي" خوف ممتد بامتداد زمن كتابة يحيى سلام نفسه!

ولتوضيح هذه النقطة، دعونا نعود إلى الجزء الأول المسمى "هدية أختي حسينة" من قصة "غليان الشاي"، حيث ترد يوميات يكتبها بدأب عامل بنجالي عن حياته العادية جدا، غير أنه يوثّق إحساسه بالخوف من كل شيء يسمعه عن الآخرين ومغامراتهم وأخطائهم وحتى الحسن من نواياهم. يشير الكاتب البنجالي إلى أن كتابا مترجما إلى اللغة الإنجليزية أهدته إياه أخته حسينة، ووصله منها إلى مسقط عبر صديق عائد من بلاده. في هذا الجزء الأول من القصة لا يعرف القارئ أي كتاب تحديدا هذا الذي يتحدث عنه البنجالي في يومياته، لاسيما في نصفه الثاني الذي يتفاعل معه البنجالي بنحو خاص، إذ يقول: إن "القصص تقصدنا، رغم أن الشخصيات هندية. شعرت بالحزن بعد قراءة القصة الأولى من الجزء الثاني" (ص29). سنتعرف لاحقا على ماهية الكتاب المقصود، من خلال الجزء الثاني من القصة المعنون بـ "الكتاب الإسمنتي"، عندما يحصل السارد، وهو مواطن عماني، على الكتاب نفسه، ولكنه مَزيدٌ باليوميات التي كتبها البنجالي على هوامشه والمساحات البيضاء بين صفحاته. هذا الكتاب هو الترجمة الإنجليزية للمجموعة القصصية "بيت وحيد في الصحراء" ليحيى سلام المنذري نفسه الصادرة في طبعتها الأولى في عام 2003م، وأعيدت طباعتها في عام 2013م.

يقترح علينا المؤلف إذن العودة إلى مجموعته تلك، التي احتشد نصفها الثاني بقصص قصيرة عن معاناة المهمشين من العمالة الآسيوية في عمان. وهكذا نعرف أن القصة الأولى من الجزء الثاني التي أصابت البنجالي بالحزن - كما ذكر في يومياته - هي قصة "رسالة من تلك البلاد". وأن القصة التي تشير إلى طقوس الختان في الصحراء هي قصة "الشمس لا تجد من تقدم له دفئها"، فضلا عن قصة "المروحة البشرية" وغيرها من القصص التي تشكل مجموعته الحالية "وقت قصير للهلع" امتدادها الموضوعي، من غير أن يتغير (مبدئيا) حال الخوف الذي يطال هذه الفئة المهمشة منذ كتب عنها المنذري في مجموعته تلك "بيت وحيد في الصحراء" المنشورة عام 2003م، وحتى كتابته عنها في مجموعته التي بين أيدينا "وقت قصير للهلع" المنشورة في عام 2022م.

لم يقتصر توظيف المؤلف مجموعته "بيت وحيد في الصحراء" في قصة "غليان الشاي" وحدها، وإنما ورد ذكر عنوانها عفوا في قصة "صندوق المفاجآت الملونة"، عندما وصف الزوج/ السارد ورقةً من فئة العشرين ريالا متروكة تحت كنبة في الغرفة الرئيسة بـ "الورقة الجميلة المتروكة وحيدة في الصحراء" (ص71)، ما يدفعنا لنتذكر عنوان مجموعته القصصية تلك. فهل يقترح علينا يحيى سلام العودة إلى مجموعته القصصية "بيت وحيد في الصحراء" وحدها من بين كل مجاميعه القصصية السابقة؟

علينا أن نتذكر هنا أنه أصدر كتابه "الحديقة بيضاء بالياسمين" في مطلع عام 2022م عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار الآن ناشرون، الذي ضم مجموعاته القصصية الخمس السابقة. وإذا ما أخذ الفضولُ القارئَ للبحث عن مجموعته "بيت وحيد في الصحراء" على إثر قراءته قصة "غليان الشاي" في المجموعة التي بين أيدينا – وعلى الأرجح لن يعثر عليها بعد هذه السنوات لنفاد نسخها على الأغلب – فإنه سيعثر عليها ضمن كتابه الكامل "الحديقة بيضاء بالياسمين"، وستدفعه القراءة ربما إلى العودة ليس إلى "بيت وحيد في الصحراء" فقط، ولكن إلى مجاميعه القصصية السابقة، كما حدث مع كاتبة هذه السطور. فهل يتعمد يحيى سلام إحالة القارئ إلى أعماله السابقة بهذه الدعوة غير الملحة؟ وأقول غير الملحة لأن القارئ سيفهم نصوص المجموعة التي بين أيدينا حتى لو لم يعد إلى مجموعته "بيت وحيد في الصحراء".

القصدية في نص المنذري تشكّل ظاهرة على أكثر من صعيد، ومنها أن الكتابة القصصية عنده عبارة عن محطات غير مُتجاوَزة، فهي تشكّل في مسيرته مسارا دائريا يحيل أحيانا إلى بعضه على اختلاف أزمنته، غير أنه - وإن أعادنا إلى محطات سابقة في تجربته - لا يعيد رحلتنا معه من نقطة الصفر، إلا بما يغذّيها طاقةً مضاعفةً لتنطلق في رحلة أبعد شوطا، فتتمدّد الدائرة تجربة بعد أخرى. فالإحالة إلى أعمال سابقة في عمل جديد ليست من قبيل التسويق المجاني، ولكنها اللعبة السردية التي تجعل من الموضوع مادة مشرعة على الدوام، فلا تمنعه الكتابة عنه فيما مضى من معاودة تناوله من جديد مراعيا تطور التجربة وتنوع زوايا النظر. وقد نضيف بعدا آخر، وهو أنه يفسر السابق باللاحق، ويكفينا مثال على ذلك كلمة النحلة: ففي قصة "صور كثيرة للذكرى" في مجموعته "بيت وحيد في الصحراء" يتحدث عن النحل الذي يحط في قلب الزهرة. والزهرة هي الدوّار المزروع بالورد فيتقاطر إليه الآسيويون لالتقاط الصور(2)، ولكننا سنفهم بنحو أوضح في مجموعته الأخيرة "وقت قصير للهلع" أن النحل إنما هو وصف للعاملات لاقترانهن بصفتي النشاط والإنتاج (من غير تعميم بطبيعة الحال).(3).

وإذا كانت الكاتبة العُمانية هدى حمد قد أشارت في مقالها بعنوان "الهلع البشري ليس قصيرا" عن مجموعة يحيى سلام الأخيرة والمنشور في جريدة عمان بتاريخ 14 نوفمبر 2022م إلى أن الخوف ليس وحده ما يوحّد قصص هذه المجموعة، وإنما البتر كذلك؛ البتر الذي بدأ بإصبع المواطن في القصة الأولى، ليتبعه بتر من الوطن والأهل بالنسبة للشخصيات الآسيوية في القصص التالية، فإن الأمر في المقابل ينحو باتجاه تمركز الهامش على المستوى الكتابي والضمني على حد سواء، (وإن كان الهامش على المستوى الصريح والمباشر لا يزال هامشا وقدره أن يعاني من الخوف والنبذ والإقصاء)، فعلى المستوى الكتابي نلحظ أن الهامش يأخذ في التمركز من خلال اليوميات التي استأثرت بالجزء الأول من قصة "غليان الشاي"، لنكتشف أنها مكتوبة على هوامش كتاب "بيت وحيد في الصحراء" والمساحات البيضاء بين صفحاته. وهكذا يتحول الهامش المتمثل في اليوميات إلى متن يستأثر بالاهتمام كله. بل إن البنجالي في يومياته لا يفوته أن يزحزح هامشا/ حاشية وردت في الصفحة الأولى من قصة طقوس الختان ليضعه في متن يومياته، ذاك هو هامش الإحالة إلى كتاب "البلاد السعيدة" لبرترام توماس الوارد في قصة "الشمس لا تجد من تقدم له دفئها"(4). أما على المستوى الضمني، فقد لاحظنا من قبل أن المركز ومن يمثله ليس محميا من الشعور بالخوف أيضا كما بينّا في ملمح (الخوف ليس شأن المهمشين فقط) – وهذه إشارة أخرى لم تفت هدى حمد في مقالها المذكور – حتى غدا الخوف عاملا مشتركا يطال الجميع، على اختلاف نسبي فيما بينهم.

وسنلحظ تغيّرا في تموضع المركز كنتيجة طبيعية لتمركز الهامش، ليس فقط من خلال خوف المواطن وتوجسه خيفة من العمال في موقع البناء وخاصة "الفورمن"، أو خوف السارد/ الزوج في قصة "صندوق المفاجآت الملونة" من إثارة غضب العمال النمور العمالقة - لأن مسكة يد واحد منهم فقط ستكسر عنقه(5) - أو خوفه من انتقام العاملة الفلبينية ماري لمقتل والديها، وإنما تغيُّر يتصل بزمنية الكتابة في مشروع المنذري بشكل عام. ويتضح هذا التحوّل من سيادة المركز المطلقة إلى تمركز الهامش، بمقارنة مع قصة "الطابور والرجل الأخضر" في مجموعة "بيت وحيد في الصحراء". تقول القصة:

"يثرثر الهندي في سماعة الهاتف العمومي، كان يكلم أمه، ثم ينتقل إلى زوجته، ويتبادل أحاديث تحقنه بالانتشاء والسرور وتزيد من ترقيص رأسه عند كل حرف يتفوه به. وراءه طابور من الهنود والباكستان والبنجال ينتظرون دورهم ويتبادلون النظرات ورائحة العرق.

سيارة مرسيدس نزل منها رجل غاضب بدشداشة وعمامة لونهما أخضر، كسر الطابور، انتزع السماعة من يد الهندي، تبعثر التجمع بعد أن أصابه الاندهاش.. والأعين وسّعت من حدقاتها. حاول صاحب الدشداشة الخضراء أن يجري مكالمة، فقد نسي هاتفه النقال بالبيت، إلا أن الهندي أبدى تذمره وصرخ محاولا الاشتباك معه، ازداد غضب الرجل الأخضر وأمسك بالسماعة وضرب بها رأس ذلك الهندي عدة ضربات مبرحة أسقطته أرضا، العيون تقافزت في ثنايا المشهد، تطاير منها اندهاش وغضب، الأيادي ساكنة في أماكنها، والأقدام تتراجع مرتجفة إلى الوراء. أسرع الأخضر إلى سيارته وانطلق بها بأقصى ما أوتي من سرعة.. مخلفا وراءه دخانا أسود، وأرواحا تائهة ترتجف خوفا وحزنا"(6).

يلحظ القارئ بجلاء، من خلال هذه المقارنة السريعة، الفرق بين صورة الوافد الخائف من المواطن في مجموعة "بيت وحيد في الصحراء"، وبين صورة المواطن الخائف من الوافد في مجموعة "وقت قصير للهلع"، ما يضعنا أمام فرضية مفادها: أن الكتابة في الموضوع الواحد لدى يحيى سلام، مرة بعد أخرى، تتجاوز الرصد الظاهر للقضية، لتغوص في أشكال إعادة التموضع بين طرفي المعادلة، فالهامش الضعيف المستسلم الذي رصده قبل عشرين عاما في مجموعته "بيت وحيد في الصحراء"، أصبح نمرا عملاقا في مجموعته "وقت قصير للهلع"، وبوسعه أن يكسر رقبة المواطن/ المركز، ثم يعود إلى البحر الذي لفظه إلى اليابسة من غير أوراق ثبوتية. يعود إلى البحر الذي جاء منه وكأن شيئا لم يكن. بل قد يعود في زمن لاحق للجريمة بهيئة أخرى، ليس نمرا بالضرورة، ربما حصانا يستعين به ابن الضحية لنقل أثاث إلى الطابق الأول من البيت(7)، فيضيع دم الضحية إلى الأبد.

ونحسب أن كتابة يحيى سلام المنذري لا تخلو من جرس تحذير خفي، ولكنه التحذير الذي لا يقطع القضية عن أسبابها، ولا يرفع العتب عن مستحقه. ولا ينبغي أن يُفهم ذلك على أنه مقصود؛ فليس التحذير من واجبات الأدب، غير أن الميزان المائل في الواقع تلزمه كتابة تلمس الجرح بالفن وحده، وهو حسبها. يفعل المنذري ذلك باجتراح الخوف مادة للكتابة؛ ذلك الخوف الذي يحوّل الضحية إلى جلاد، ويحشر المركز في هامش ضيّق لم يَخبره من قبل، فتأتي الكتابة لتكشفه بالمقارنة الممتدة عبر الزمن؛ لأن الذاكرة بيت النسيان، ووحدها الكتابة ضمان هذه الذاكرة إذ تُبادل بين الأدوار، معيدةً صياغة المعادلة كل مرة من جديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1. قراءة قُدمت في ندوة "القصة العمانية القصيرة من التأسيس إلى النضج" التي نظمتها جامعة السلطان قابوس بالتعاون مع الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بمقر الجمعية بتاريخ 23 نوفمبر 2022م.

2. راجع كتاب يحيى سلام المنذري: "الحديقة بيضاء بالياسمين"، خمس مجموعات قصصية، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء والآن ناشرون وموزعون، 2022م، ص242

3. انظر كتاب "وقت قصير للهلع"، ص57

4. انظر كتاب "الحديقة بيضاء بالياسمين"، ص 218

5. انظر كتاب "وقت قصير للهلع"، ص 50

6. الحديقة بيضاء بالياسمين، ص263

7. انظر كتاب "وقت قصير للهلع"، ص50

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجزء الثانی هذه المجموعة الجزء الأول على المستوى الخوف الذی فی مجموعته فی مجموعة فی الجزء الأول من إذا کان الذی لا من خلال الذی ل غیر أن من قصة فی عام فی قصة

إقرأ أيضاً:

"هتخلي حياتك نكد".. متى تعرف أنك مصاب برهاب شيروفوبيا؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يعاني البعض من خوف غير منطقي من الشعور بالفرح، هذا الرهاب لا يتوقف عند مجرد الخوف من اللحظات السعيدة، بل يمتد إلى تجنب الأشخاص للمواقف أو الأنشطة التي قد تؤدي إلى شعورهم بالسعادة، ويعد هذا الخوف أحد العوامل التي تؤثر بشكل عميق على حياتهم اليومية، ويجعلهم يكافحون من أجل الانخراط في تجارب قد تعزز رفاهيتهم النفسية، قد يبدو الأمر غريبًا، لكن هناك نوعًا من الرهاب النفسي يسمى "رهاب شيروفوبيا"، وتقدم لكم “البوابة نيوز” أسباب الخوف من السعادة وفقًا لما تم نشره بموقع “أونلي ماي هيلث”. 

يعاني المصابون برهاب شيروفوبيا من حالة نفسية معقدة تؤدي إلى شعورهم بعدم الارتياح تجاه السعادة، ويتجنبون الأنشطة التي قد تفرحهم، بسبب خوف عميق من عواقب قد تصاحب تلك اللحظات السعيدة، وقد أظهرت الأبحاث أن هذا الخوف يرتبط عادةً بانخفاض مستويات الرفاهية الذاتية وزيادة مستويات الاكتئاب، كما يترافق هذا الرهاب مع نوع من الخوف العام من تجارب المشاعر السلبية مثل الحزن والغضب، حيث غالبًا ما يواجه هؤلاء الأشخاص صعوبة في تقبل أي شعور قوي، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا.

أسباب رهاب شيروفوبيا

من أبرز الأسباب التي قد تقود إلى الإصابة برهاب شيروفوبيا هي الصدمات النفسية المرتبطة بفترات سعادة سابقة، فالأشخاص الذين مروا بتجارب أليمة أو خسائر عاطفية بعد فترات من الفرح قد يربطون الفرح بنتائج سلبية، مما يخلق لديهم خوفًا غير مبرر من السعادة، وعلى سبيل المثال، إذا مر شخص بمأساة بعد فترة من السعادة، قد يتكون لديه اعتقاد غير واعٍ بأن السعادة هي مقدمة لأحداث سلبية أخرى، مما يؤدي به إلى تجنب الشعور بالفرح تمامًا.

كما يمكن أن تلعب حالات الصحة العقلية مثل الاكتئاب أو اضطرابات القلق دورًا كبيرًا في تعزيز رهاب شيروفوبيا، فالأشخاص المصابون بالاكتئاب قد يشعرون بعدم استحقاقهم للسعادة أو يعتقدون أنهم غير قادرين على الحفاظ على الفرح، مما يجعلهم يتجنبون المواقف التي قد تؤدي إلى شعورهم بالسعادة. من ناحية أخرى، تزيد اضطرابات القلق من مستوى الخوف والتشكيك في التجارب الإيجابية، مما يجعل السعادة تبدو غير قابلة للتحقيق أو حتى خطيرة.

أما على المستوى المعرفي، فقد يحمل الأفراد المصابون بهذا الرهاب معتقدات غير منطقية بشأن السعادة، ويعتقدون أن السعادة أمر عابر، أو أنها مرتبطة بطبيعتها بعواقب سلبية في المستقبل، وتساهم التشوهات المعرفية مثل "التفكير بالأبيض والأسود" (أي رؤية الأشياء إما جيدة تمامًا أو سيئة تمامًا) في تعميق هذه المخاوف، مما يجعلهم يعتقدون أن الفرح قد يكون محفوفًا بالمخاطر.

وعلى الرغم من أن رهاب شيروفوبيا ليس من أكثر الحالات النفسية شيوعًا، إلا أنه يؤثر بشكل عميق على حياة المصابين به، وبالتالي، يتطلب الأمر فهمًا أكبر لهذه الظاهرة النفسية وكيفية التعامل معها بشكل سليم لتحسين جودة الحياة النفسية للأفراد الذين يعانون منها.

مقالات مشابهة

  • اكتشاف أصول أقدم كتابة في العالم!
  • قصير جدا.. زينة تثير الجدل بفستانها عبر إنستجرام
  • "هتخلي حياتك نكد".. متى تعرف أنك مصاب برهاب شيروفوبيا؟
  • الهلال يهزم استقلال طهران بثلاثية ويتصدر مجموعته في دوري أبطال آسيا
  • دياز: حلمي كتابة التاريخ مع المنتخب المغربي
  • تعرف على الأعمال الفنية التي ناقشت الفيلو فوبيا (تقرير)
  • الثمن الذي يريده المطبعين الجدد..!!
  • الوصل يتطلع إلى «كتابة التاريخ» أمام السد
  • فستان قصير وبوت.. أية سماحة تثير ضجة بظهورها الأخير
  • لا داعي للهلع أو الخوف.. الدفاع المدني تصدر توجيهات وتوصيات للمواطنين