في رُبع القرن الأخير شنَّت الدوائر الغربيَّة والإعلام الغربي المسخَّر لها حملات مدروسة ومركَّزة لخلط المفاهيم والقِيَم في أذهان النَّاس بحيث أصبح الصحُّ والخطأ مجرَّد وجهتَي نظر فيفَقد الصحُّ مكانته، ويعتلي الخطأ أيَّ مكانة يجادل بها ويتمسَّك بأحقِّيَّتها. وتعرَّضت الدوائر الغربيَّة في هذا المجال لمفاهيم أساسيَّة مِثل الانتماء والتضحية والهُوِيَّة والأعراف الاجتماعيَّة النبيلة التي توارثتها الشعوب وكان كلُّ ذلك تحت غطاء حقِّ الفرد في الحياة والسَّعادة بعيدًا عمَّا يعتري وطنه أو عائلته أو أهله أو مُجتمعه؛ فحقُّ الفرد حسب هذه المفاهيم مقدَّس ويجِبُ أن يكُونَ فوق كًلِّ اعتبار.
ومن ضِمْن المفاهيم المستحدثة أنَّهم أطلقوا صفة «معارض» على من يخون وطنه وتاريخه ويسير في ركابهم ضدَّ أبناء جلدته وضدَّ أرضه التي أنبتته، واستخدموا من أجْلِ غرس هذه المفاهيم الجديدة وسائل إعلاميَّة حديثة لا تُبقي ولا تذر، وتصل كُلَّ الشرائح والأعمار وتغزو العقول والقلوب بكلّ الوسائل الممكنة، يساعدهم في ذلك وَهْم احتفظت به الشعوب المستعمَرَة بأنَّ الدوَل التي استعمرتهم هي الدوَل الحضاريَّة والمتقدِّمة والمؤمنة بالحرِّيَّة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان، والتمسوا من أجل تنفيذ كلِّ ذلك ضعاف النفوس على مستويات مختلفة وجنَّدوهم بالترغيب والترهيب ضدَّ كلِّ ما نشؤوا عَلَيْه من قِيَم وطنيَّة وثقافيَّة صالحة وكانت القوَّة هنا أو هناك الرادع بعدم التراجع، وأنَّ هذا الممرَّ إجباري للجميع وأنَّ أوائل السائرين فيه هُمُ الذين سيحظون بثماره الوفيرة.
وللأسف، فقَدْ كان للعالَم العربي حصَّة كبيرة جدًّا من هذا المسعى ضدَّ لغتهم الثريَّة وثقافتهم العريقة وحضارتهم المتجذِّرة في أعماق الأرض وفنونهم ومخترعاتهم التي أهدوها للبَشَريَّة فأصبح البعض مِنْهم وكأنَّه خالي الوفاض ينتظر مَن يلتقطه على أوَّل محطَّة في طريق تائِه. ولأنَّ لدى العرب الشيء الكثير من خيرات وتاريخ وإرادة وعوامل للنَّجاح والتفوُّق، فقَدْ تركَّزت الجهود على تدمير بلد عربي تلو الآخر مع نشر الدعايات عن أنَّ المنقذ في هذه المنطقة أمنيًّا ومعرفيًّا هو العدوُّ الصهيوني ولا أحَدَ سواه، وبدؤوا بالنَّيل من مفهوم وجدوى المقاومة والشهادة، وحتَّى حين بدأت محطَّات عروبيَّة بتغطية الاعتزاز بحرب تشرين منذ خمسين عامًا واختراق خطِّ بارليف من قِبل القوَّات المصريَّة، والدروس الصعبة التي لقَّنها الجيش العربي السوري للصهاينة كان البعض يقول «كان زمان»، لماذا نتغنَّى بأمجاد الماضي ولا حَوْلَ ولا قوَّة لَنَا اليوم؟
وأتَتْ جريمة الإرهاب البشعة التي ارتكبها الإرهابيون ورعاتهم في حمص مؤخرًا ضدَّ أنبل الأرواح وأطهرها لتمدَّ الأعداء الداخليِّين بزاد إضافي عن قدرتهم على ارتكاب أقذر الجرائم وأبشعها، ولكنَّ الأبشع من ذلك هو أنَّ تلك الدوَل التي تدَّعي الحضارة وحقوق الإنسان لم تكلِّف نَفْسَها عناء إدانة جريمة بهذا الحجم؛ لأنَّهم هم مرتكبو هذه الجرائم ومَن يقِف خلْفَها مع أدواتهم من الخونة والإرهابيِّين، وهذا يبرهن للمرَّة الألف على أنَّه ليست هناك حضارة غربيَّة، بل هناك قتل وتدمير للشعوب، ونهب ثرواتها واستعبادها وذلك هو مسارهم منذ اكتشاف أميركا مع تضخيم إعلامي لا أساس له عن حرصهم على الحريَّات وحقوق الإنسان والديمقراطيَّة.
وفي ذات الوقت كان الإرهابي بن جفير يداهم بشخصه زنزانات الأسرى الفلسطينيِّين ويعذِّبهم وينكِّل بهم أشدِّ التنكيل إلى أن استيقظَ هو وعصابته على حركة مدوِّية ومجلجلة للفلسطينيِّين الأبطال الذين قرَّروا الرَّدَّ والانتقام لشهدائهم وأسراهم مهما كلَّف ذلك من ثمن. خمسون عامًا بالضبط على اختراق خطِّ بارليف نشهد معجزة أخرى في اختراق العدوِّ في مستوطناته ومُدُنه وقُراه من قِبل مقاومة محاصرة لسنوات برًّا وبحرًا وجوًّا، فما هو هذا النمر الورقي الذي يتهافت الآخرون على التطبيع معه وعلى خطب ودِّه، وما هي هذه المقدّرات التي يبدو أنَّها موجودة في كتاباتهم وإعلامهم وترويجهم فقط وليس على أرض الواقع؟!
إنَّ التفاف السوريِّين حَوْلَ قضيَّتهم المركزيَّة منذ سنوات، والعمل يدًا واحدة في دحر الإرهاب، وهذه الثَّورة الفلسطينيَّة المباركة يبرهنان بما لا يقبل الشكَّ أبدًا أنَّه لا توجد قوَّة في العالَم تستطيع أن تغيِّرَ الحقَّ ليصبح باطلًا، ولا أن تغيِّرَ الباطل لِيصبحَ حقًّا مهمًّا اشتدَّت المعاناة وطال أمَدُها، ولذلك فإنَّ الله عزَّ وجلَّ قَدْ بشَّر الصابرين المؤمنين بالله وبقضاياهم المُحقَّة والعادلة، ولذلك فإنَّ الخامس والسابع من أكتوبر لهذا العام يجِبُ أن يُعادَ وصلهما مع أكتوبر عام 1973 بحيث تتمُّ تنقية المفاهيم من كُلِّ وهَنٍ أو ضَعف مدسوس إليها قصدًا. كما يجِبُ أن نستفيدَ من حرب أكتوبر بحيث يتمُّ استثمار التضحيات السخيَّة خير استثمار كَيْ تنعكسَ خيرًا وعطاءً للشَّعب المضحِّي في القادم من الأيَّام.
والآن وبعد هذا وذاك، لَمْ أعُدْ أجد فائدة من قراءة تحليلات ومقالات غربيَّة هدفها الأساسي الدعاية لِمَا انكشفت حقيقته أمام أنظارنا، وأصبح لزامًا عَلَيْنا أن نقولَ: هذا فراق بَيْنَي وبَيْنَكم؛ فها هو الغرب الذي لم يُدن أبشع جريمة في هذا القرن ارتكبها إرهابهم في حمص يُسارع لإعلان تأييده لمستوطنين ونازيِّين وعنصريِّين ضدِّ شَعب يُدافع عن أرضه وحقوقه. ومن واجبنا من الآن فصاعدًا أن نُنقيَ مفاهيمنا ولُغتنا وثقافتنا من كُلِّ ما دخل عَلَيْها من إنتاجهم بهدف إضعافنا وتفرقتنا واستعبادنا، ولْنكنْ على يقين أنَّ الغرب كالكيان الصهيوني لا يصمد أمام الحقائق والتضحيات والتجذُّر في الأرض والإيمان والأخلاق، ولْنرفعْ صوتنا عاليًا في الدفاع عن الطفولة والأُسرة والقِيَم المُجتمعيَّة التي نؤمن بها، ولْنعَلمْ أنَّنا على حقٍّ، وأنَّ ما يروِّج له إعلامهم على مدى عقود ما هو إلَّا جملة من الأكاذيب المعلَّبة لِتوهمَ الآخرين بقوَّتهم وتفتحَ لهم الأبواب السَّهلة لاستعباد الشعوب ونهب مقدَّراتها ومصادرة مستقبل أبنائها.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: ة التی
إقرأ أيضاً:
نعمة افرام: هناك خوف على الكيان في لبنان بحال فشلنا في انتخاب رئيس للجمهورية
أكد النائب نعمة افرام أنه "منذ سنتين وكُثر يعتبرونني مرشّحاً طبيعيّاً لرئاسة الجمهوريّة، وقد أعلنت رسميّاً عن نيّتي بالترشّح في هذا التوقيت بالذات لثلاثة أسباب: أوّلها أننا في الأسابيع الأخيرة أصبحنا في مكان آخر وتحديداً بعد استشهاد السيد نصرالله وسقوط نظام الأسد، وبالتالي نحن أمام شرق أوسط جديد لا بل كوكب جديد. وثانيها أنّ الحرب لم تنته، ونحن اليوم في فترة من الهدنة وأرى أن تاريخ جلسة 9 كانون الثاني لا يشبه التواريخ السّابقة لأنّه حُدّد خلال فترة الهدنة بالتحديد وكأنّه جزء من الاتفاقيّة المُبرمة، وبالتالي فإن عدم انتخاب رئيس سيشير إلى أن هناك خللاً ما. وثالثها انيّ أعمل منذ ثلاث سنوات على مشروع للبنان وأنشأت لهذه الغاية مع عدد من الأصدقاء من مختلف الطوائف والخبرات "مشروع وطن الإنسان" حتى نصلح الوضع القائم في الوطن والذي يمكن تشبيهه بالجهاز المعطّل منذ سنوات".
وقال عبر برنامج "يا أبيض يا أسود": "كنت في السابق على يقين بأنّه سيكون لنا رئيس في 9 كانون الثاني، غير أنّ بعض الأمور تغيّرت خلال نهاية الأسبوع المنصرمة، وباتت لديّ خشية من الآتي وقناعة بأنّه في حال لم ننتخب رئيساً فإن هناك خطراً ما مُحدقاً، لأنّنا لا نزال في فترة الهدنة وهناك من يراقب مدى التزامنا بالاتفاقيّة الموقّعة والمؤلّفة من 6 صفحات".
تابع:" هناك من يراقب ليسائلنا لاحقاً إن تمكّن الجيش من ضبط الوضع، وإن كان مجلس الوزراء يلتزم الاتفاقيّة الموقّعة، وإن كنّا سننتخب رئيساً ليرسّخ بناء الدولة، وإلّا فهناك خوف على لبنان الكيان لأنّنا سنُعتبر دولة فاشلة كالشركة المفلسة التي ينتهي بها المطاف ببيع موجوداتها. وفي هذا المجال، الخوف على الجنوب اللبناني الذي يحتوي على ثروتين هائلتين هما المياه والغاز في البحر، وأخشى خسارتهما تحت غطاء دولي. اسرائيل شنّت الحرب الأخيرة ضد حزب الله ولكن إذا فشلنا في تطبيق الاتفاقيّة، أخشى أن تصبح الحرب على لبنان كلّه كدولة فاشلة، فتأخذ اسرائيل هذه الذريعة للسيطرة على موجوداتها. وهذه صرخة أوجّهها لكلّ المعنيّين. لذلك، هناك خوف على الكيان في لبنان الذي سيكون في خطر كبير بحال فشلنا في انتخاب رئيس للجمهورية، ولكن هل سيترجم القول بالفعل؟".
تابع:" يجب ألا ننسى أنّ هناك لجاناً أميركيّة وفرنسيّة تعمل على الأرض للدعم وللتأكّد من تنفيذ الاتفاقيّة وأنّ "العدّاد ماشي"، وبالتأكيد أنّ الإسرائيليين يفضّلون أن نفشل في تطبيقها حتى نبدو أمام المجتمع الدولي على أنّنا دولة فاشلة. لذلك، على كل من يحبّ لبنان ومعنيّ بمستقبله من حزب الله إلى كلّ الأحزاب السياسيّة والمسؤولين أن يتمسّك بتنفيذ الاتفاقيّة بحذافيرها. وحتى لو لم نتمكّن من انتخاب رئيس من الدورة الأولى، يجب أن نبقى في المجلس النيابي إلى حين انتخاب رئيس، كما قال الرئيس برّي في تجربة تشبه انتخاب البابوات في المجلس الفاتيكاني، حتّى نصل الى الدخان الأبيض".
وقال:" الأمور ستتكشّف في الأسبوع الأخير الذي يسبق الجلسة وتحديداً في الأيام الثلاثة الأخيرة، فإذا اجتمعت الحكومة وطلبت التعديل الدستوري فهذا مؤشر إلى توافق على انتخاب أحد المرشحين العسكريين العماد جوزاف عون أو اللواء الياس البيسري. لذلك، الأسبوع الأوّل من السنة مفصلي، فإمّا يكون هناك تعديل دستوريّ وبالتالي انتخاب أحد العسكريّين وإمّا الدخول إلى جلسة 9 كانون الثاني بمرشّحين ومن دون تعديل دستوري. سنكون أمام السيناريو الديموقراطي الأمثل والطريق الأسرع لانتخاب رئيس. أمّا في حال كان عدد المرشّحين أكبر، فسنكون أمام جلسات مفتوحة وطويلة ولكن يجب أن لا نخرج من الجلسة قبل انتخاب رئيس. وهناك انتظار لموقف أميركا بالنسبة للاستحقاق الرئاسي إضافة إلى موقف السعودية منه وهي التي لم تقل كلمتها بعد، والرئيس برّي لا يزال متريّثاً بالنسبة للتعديل الدستوري".
بالنسبة الى حظوظه ونقاط القوّة لديه لتحمّل مسؤوليّة الرئاسة، أجاب:" المشكلة في لبنان أنّه إذا تمّ ترشيحك من قبل إحدى الكتل تكون ضدّك الكتل الأخرى، ولعلّ هذا الأمر خيّر إذ يجعلني المرشّح الرّئاسي الـPlan B للجميع، وهذا أفضل من المرشّح الرئاسي الـPlan A لفئة واحدة فقط، وأنا علاقاتي جيّدة مع معظم الأفرقاء. وبالنسبة إلى الجزء الثاني من السؤال، لقد كشفت دراسة في هارفرد على أكثر من 500 رئيس تنفيذيّ، أن القائد الحقيقيّ هو من يكون لديه القدرة على الإلهام وخلق الاندفاع في الفريق وتوجيه الطاقات نحو الهدف الواحد المشترك، "ليشتغلوا مع بعض مش ببعض!".
أضاف:"الهدف الواحد المشترك في المئوية الثانية للبنان هو ورشة إصلاحية حقيقيّة وهذا المطلوب من رئيس الجمهورية. وأنا مؤمن أنّ الانسان لا معنى لحياته إن لم تكن لديه رسالة، وقد أعطاه الله وزنات يجب أن يثمّرها ويفعّلها. وأعتبر أن الوزنات التي أملكها هي خبراتي التي راكمتها على مرّ السنوات من مدرسة عينطورة الى الجامعة الأميركية في بيروت ومن ثمّ الخبرة العمليّة في إندفكو وبناء المؤسّسات وإدارة الأزمات في لبنان وخارجه. ونقطة قوّتي تكمن بأن لدي خبرة ببناء المؤسّسات، فأنا مهندس ورسالتي أن أكشف الأعطال وأبني الماكينات التي نستطيع إصلاحها وزيادة الانتاجية، وما أسعى إليه هو إصلاح الدولة المعطّلة في لبنان وتحقيق إزدهارها. واعتبر أنّ الاقتصاد هو الأساس في تعزيز الأمن القومي، فالنموّ الاقتصادي هو من يمنح الدول قدرتها على التسلّح والحماية وتطوير البنى التحتيّة المطلوبة والحرّية في اتخاذ القرارات المناسبة في السياسة الخارجيّة. ونحن بحاجة في المرحلة المقبلة إلى من يملك الخبرة في إدارة التغيير وبناء المؤسّسات وتكون لديه مصداقيّة تمنحه الثقة إضافة إلى المناقبية والتجرّد، ليبقى في منأى من الضعف البشريّ والإغراءات. ولا أخفي هنا أنّ عائلتي تخشى عليّ كثيراً منذ أعلنت ترشحي للانتخابات الرئاسيّة، وإبني الصّغير عبّر لي عن خوفه على حياتي فسألته "هل تعلم ما هو أجمل ما قد أقدّمه إليك"؟ تابعت"أن نبني لك ولجيلك بلداً تفتخرون به".
بالنسبة إلى العقبات التي يمكن أن يواجهها الرئيس قال:" التوافق الدّاخلي في لبنان لانتخاب رئيس لطالما كان هشّاً وعند تعثّره يكون الضحية الرئيس المنتخب. وأسوأ ما قد يحصل لي هو أن أصبح رئيساً ولا أتمكّن بعد سنوات من إنجاز أيّ شيء وكأنّني "تلميذ داخلي ببعبدا"، لكن تعلّمت في الكشّاف اللبناني حين لا يكون هناك طريق نشقّ الطريق بأنفسنا. في مطلق الأحوال، إنّه وقت العمل الجاد والحثيث وبكلّ إيمان بأنّ الغد سيكون أفضل من اليوم وأنّ اليوم أفضل من الأمس".